الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
أهمية الاجتهاد في بيان أحكام النوازل
الإنسان يتسم بالحيوية والنشاط؛ لأنه كائن حي متحرك، ومن العادي أن يحدث له أو يحدث هو أمورًا مستجدة لم تعرف فيمن قبله مما يعتاز إلى حكم، وأفعال العباد جميعًا محكوم عليها في الشرع أمرًا ونهيًا، وإذنًا وعفوًا.
(1)
وأدلة الشرع؛ من كتاب وسنة، وما تفرع عنهما؛ محيطة بأحكام الحوادث في صغير الأمور وكبيرها، ودقيقها وجليلها؛ يقول الحق تعالى:{اليَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَامَ دِينًا} [سورة المائدة: 3].
فما من نازلة إلا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حكمها؛ علم ذلك من علمه، وجهله من جهله؛ إذ كانت الشريعة ثرَّةً في مصادرها، لا ينضب معينها في نصوصها إذا أخذت بعمومها وعللها ومقاصدها، ومن أعانه الله فكان خبيرًا بذلك لم يعوزه حكم النازلة مهما استجدت.
(2)
والاجتهاد ممكن في كل عصر؛ حيث لم يقفل بابه، وقد تيسرت أسبابه وموجباته في هذا الزمن بما لم يكن في الزمن الأول؛ فبُينت آيات الأحكام ومواضعها وفُسرت، وجُمعت السنة
(1)
ينظر: الشاطبي: المصدر السابق، (1/ 108).
(2)
ينظر: ابن قاسم: المصدر السابق، (28/ 129).
وشُرحت، وتيسرت السبل إلى معرفة الحكم على الأحاديث وطرق الشواهد والاعتبار، ودُوّن الفقه وأصوله والعربية، وقربت هذه العلوم إلى الفهوم، وتيّسرت وسائل طباعة الكتب وانتشاره، وحفظ المعلومات واسترجاعها؛ حتى لم يبقَ إلا التشمير لبلوغ هذا المنصب من قبل فريق من الأمة؛ استعدادًا لمواجهة النوازل، وذلك فرض لا يجوز تركه حتى لا يخلو عصر من قائم لله تعالى بالحجة؛ يقول بعض علماء القرن السابع - في إمكان وجود الاجتهاد المطلق -: ومنذ زمن طويل عُدِمَ الاجتهاد المطلق، مع أنه الآن أيسر منه في الزمن الأول؛ لأن الحديث والفقه قد دُوِّنا، وكذا ما يتعلق بالاجتهاد من الآيات والآثار وأصول الفقه والعربية وغير ذلك، لكن الهمم قاصرة، والرغبات فاترة، ونار الجد والحذر خامدة، اكتفاء بالتقليد، واستغناء من التعب الوكيد، وهربًا من الإثقال، وأربًا في تمشية الحال وبلوغ الآمال ولو بأقل الأعمال، وهو فرض كفاية قد أهملوه وملوه، ولم يعقلوه ليفعلوه ا. هـ
(1)
وقد تولى ربنا هذا المقام بنفسه في مثل قوله جل ذكره: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِسَاءِ؛ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [سورة النساء: 127]، وقوله تعالى:{يَسْتَفْتُونَكَ؛ قُلِ الله يُفْتِكُمْ فِي الكلَالَة} [سورة النساء: 176].
ولا أدل في هذا المقام من أن يتولى سبحانه مقام الإفتاء والنظر في النوازل؛ إلا فضل هذه المنزلة وعظيم شأنها، وذلك لشرف المتعلق، وكفى بذلك فضلًا وشرفًا.
ومما يزيد هذا النوع من التبيان لأحكام الشرع فضلًا وأهمية؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد انتصب لها حين كان تصرفه بالفتيا وإجابة السائلين عما ينزل بهم يشغل كثيرًا من أحواله عليه الصلاة والسلام.
ولم يقف الصحابة - رضوان الله عنهم - وتابعوهم ومن سار على هديهم من الأئمة والمجتهدين؛ أن ينهجوا هذا الطريق بالتبليغ والبيان والتعليم، مع معالجة ما يستشكل من النصوص؛ مما يؤكد منزلة هذا النوع من الاجتهاد والنظر في الإسلام.
(2)
(1)
ابن حمدان: صفة الفتوى والمفتي والمستفتي (ص 17). وقال الألباني: بعض الفقهاء المقلدين القائلين: إن الاجتهاد انقطع منذ القرن الرابع، فليس إلا التقليد؛ هم أحيانًا يجتهدون، وليت أنهم يجتهدون، وأنى لهم الإصابة وهم فعلًا مقلدون؛ لا يعرفون كيف يجتهدون؛ لأنهم ليس وسائل الاجتهاد، ومنها السنة، وتمييز صحيحها من ضعيفها، ومعرفة أصول الفقه، وغير ذلك من الوسائل المعروفة عند أهل العلم ا. هـ ينظر: الألباني: المصدر السابق، (1/ 353).
(2)
ينظر: د. مسفر القحطاني: المصدر السابق، (261 - 262).
وذلك أن النصوص التي يستشكل ظاهرها لم تقع قي الكتاب والسنة عفوًا، وإنما هو أمر مقصود شرعًا؛ ليبلو الله ما في النفوس، ويمتحن ما في الصدور، وييسر للعلماء أبوابًا من الجهاد يرفعهم به درجات.
(1)
والبحث في فقه النوازل هو الترجمة العملية الواقعية للفقه الإسلامي؛ بحيث يظهر إيجابية الفقه في معالجة ما يستجد من أمور الحياة.
فإن الحاجة للفتوى متجددة كلما تجدد الزمان، وتعاقب الجديدان، فالوقائع والحوادث بصمات لسير الحياة على صفحة هذا الكون الفسيح، وكلما وقعت واقعة احتيج معها إلى فتوى.
وحاجتنا للفتوى في النوازل الواقعة لا تنقص أهمية عن الحاجة إلى المطاعم والمشارب؛ فبالطعام والشراب يستقيم أمر المعاش المادي في الدنيا، وبالحكم الشرعي يستقيم أمر الدنيا والآخرة.
وأمر الفتوى ومكانتها في الدين؛ عظيم، جليل القدر والرتبة، ولن يقوم بحقها إلا من شدا طرفًا من علوم الإسلام، ونهل من مصادره العذبة؛ حتى ارتوى وصار ريَّانًا، وكان على قدر من التقوى والورع والاستقلالية في الرأي والتجرد، وعلى اطلاع بواقع الأمة، وحال النوازل العصرية التي هو بصدد البحث فيها؛ حتى تكتمل مقومات الفتوى لديه.
وقد جعل الله سبحانه معالجة النوازل لأهل الاستنباط؛ ليستمدوا ذلك من الكتاب والسنة والقواعد والأصول المقررة منها؛ فقال عز من قائل: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أو الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهْ وَلَو رَدُوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُم لَعَلَلِمَهُ الذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [سورة النساء: 83].
وهذا من العمل المناط بهم، والعمل روح العلم الذي هو عارية وغير منتفع به ولا مطلوب - أي: العلم - إلا من جهة ما بتوسل به إليه، وهو العمل؛ قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ
(1)
المعلمي: الأنوار الكاشفة (ص 308).
عِبَادهِ العُلَمَاء} [سورة فاطر: 28]
(1)
، وفي هذا الصدد بوب البخاري في كتاب العلم من صحيحه
(2)
: بابَ الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله.
والوقائع التي تحدث في هذا الكون ليست على شاكلة واحدة؛ فمنها ما سبق وقوعه وسبق تبعًا لذلك البحث فيه، ومنها ما لم يقع من قبل ولم يسبق البحث فيه وهو ما يطلق عليه مصطلح النازلة، فهذه النازلة الجديدة غير المنصوص عليها تعتبر مشكلة تتطلب حلًّا، وحلها هو إصدار الفتوى فيها وتبيين الحكم الشرعي اللازم لها؛ ما دام البحث فيها داخلًا في العلم النافع المرشد إلى الخير، فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطرق الخير، وتحذير عن طريق الشر، أو وسيلة لذلك؛ فإنه من العلم النافع. وما سوى ذلك؛ فإما أن يكون ضارًّا، أو ليس فيه فائدة لقول الحق جل ذكره عن موسى للخضر:{أَنْ تُعَلِمَنِ ممَّا عُلِمْتَ رُشْدًا} [سورة الكهف: 66].
(3)
هذا، وإن الإفادة من التراث الفقهي من المهمات أثناء الاجتهاد في فقه النوازل، وهو ما قرره الفقهاء من أحكام اجتهادية مستفادة من الأدلة الشرعية، ولا يدخل في ذلك الإجماع القطعي والنصوص الشرعية الصريحة، فهي حجة بذاتها، ومعصومة من الخطأ.
ولقد قرر فقهاء الإسلام أحكامًا فقهية كثيرة وحرروها حتى تناقلتها الأجيال في مدونات مشتهرة، وتعاقبوها بالمراجعة والتمحيص، وكانت هذه المدونات ذخيرة فقهية ضخمة لا يستغني عن مطالعتها طالب العلم مهما علا قدره في الفقه واشتد ساعده فيه، والإعراض عنها ربما أدى بالفقيه إلى التخبط وخرق الإجماع، وفي مراجعتها والاستعانة بها في تقرير الأحكام اختصار لطريق طويل ربما سلكه الفقيه للاجتهاد في المسألة وهي مقررة محررة بأدلتها واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
(1)
ينظر: الشاطبي: المصدر السابق، (1/ 75، 85).
(2)
(1/ 260).
(3)
ينظر: الشيرازي: اللمع في أصول الفقه (ص 249 - 250). السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ضمن مجموع مؤلفات الشيخ العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي. (2/ 680).
كما إن الفقيه إذا نظر في آراء من تقدمه المقرونة بأدلتها ربما انفتح له أفق من الاستنباط والتأصيل والتقعيد لم يكن ليخطر له على بال لو أعرض عن هذا التراث وأهمله.
(1)
وإن من المهمات التي لابد منها معرفة الدليل والمأخذ - أي: الدلالة - حتى يكون على يقين فيما يأخذ ويدع، وما يخرِج وما يلحِق؛ يقول ابن السبكي ت 771 هـ: فإن المرء إذا لم يعرف علم الخلاف والمأخذ؛ لا يكون فقيهًا إلى أن يلج الجمل في سم الخياط، وإنما يكون ناقلًا مخبّطًا، حامل فقه إلى غيره؛ لا قدرة له على تخريجِ حادثٍ بموجود، ولا قياس مستقبل بحاضر، ولا إلحاق غائب بشاهد، وما أسرع الخطأ إليه! وأكثر تزاحم الغلط عليه! وأبعد الفقه لديه ا. هـ
(2)
، ناهيك عما يحصله المطلع على التراث الفقهي من معرفة بمناهج العلماء في الاستنباط والفهم من النصوص؛ مما يصقل ملكته ويهيِّئه للتفقه في تنزيل النصوص الشرعية على الوقائع الفقهية.
(3)
وهذا لا يعني غلق باب التقويم والتصحيح للإشكالات التي تراكم عليها بعض متأخري الفقهاء من أصحاب المذاهب حين اتسعت الفجوة بين علم الفقه وأصوله وبين الكتاب والسنة وعلومهما، حتى آل الأمر إلى أن يقول شيخُ الإسلام محمدُ بن عبد الوهاب ت 1206 هـ: أكثر الإقناع والمنتهى مخالف لمذهب أحمد ونصه؛ يعرف ذلك من عرفه ا. هـ
(4)
ولذلك؛ كان المدون في كتب المذاهب لا يخرج عن ثلاثة أقسام:
(5)
1 -
قسم موافق للكتاب والسنة؛ فهذا يأخذ به المفتي.
2 -
قسم ظهر الدليل على خلافه؛ فهذا لا يؤخذ به.
3 -
قسم من مسائل الاجتهاد التي تتجاذبها الأدلة، ولم يظهر دخوله في أيٍّ من القسمين السابقين؛ فله أن يأخذ بما نص عليه في المذهب.
(1)
ينظر: عبد المجيد النجار: فقه التدين فهمًا وتنزيلًا (1/ 68). عبدالله آل خنين: توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية (1/ 369).
(2)
ابن الشبكي: طبقات الشافعية الكبرى (1/ 319).
(3)
ينظر: الزركشي: البحر المحيط في أصول الفقه (6/ 288). عبالله آل خنين: المصدر السابق، (1/ 372).
(4)
ابن قاسم: الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 45).
(5)
ينظر: ابن القيم: إعلام الموقعين عن رب العالمين (5/ 166).
وإذا كان الأمر كذلك، فهناك صور لا يُقَلَّدُ فيها ولا يلتزم فيها بمذهب، وترجع في جملتها إلى ما يأتي:
(1)
1 -
ما كان مخالفًا للكتاب والسنة، معدودًا من زلل العلماء.
2 -
ما كان مبنيًّا على مناط متغيِّر.
3 -
ما كان مرجوحًا دل الدليل على خلافه.
وما أنصف ابن عاشور إذ يقول مبينًا أهمية التراث العلمي وكيف يتعامل معه: ولقد رأيت الناس حول كلام الأقدمين أحد رجلين: رجل معتكف فيما أشاده الأقدمون، وآخر آخذ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون، وفي كلتا الحالتين ضُرٌّ كثير، وهناك حالة أخرى يجبر ربها الجناح الكسير، وهي أن نعمد إلى ما أشاده الأقدمون فنهذبه ونزيده، وحاشا أن ننقصه أو نبيده؛ عالمًا بأن غمض فضلهم كفران للنعمة، وجحد مزايا سلفها ليس من حميد خصال الأمة ا. هـ
(2)
وقد حكى عياض عن أبي العباس الإبِّياني أنه دخل عليه عطية الجزري العابد، فقال له: أتيتك زائرًا ومودعًا إلى مكة. فقال له أبو العباس: لا تخلنا من بركة دعائك، وبكى، وليس مع عطية ركوة ولا مزود، فخرج مع أصحابه، ثم أتاه بأثر ذلك رجل، فقال له: أصلحك الله! عندي خمسون مثقالًا ولي بغل؛ فهل ترى لي الخروج إلى مكة؟ فقال له: لا تعجل حتى توفر هذه الدنانير. قال الراوي: فعجبنا من اختلاف جوابه للرجلين مع اختلاف أحوالهما. فقال أبو العباس: عطية جاءنى مودعًا غير مستشير، وقد وثق بالله تعالى، وجاءني هذا يستشيرني ويذكر ما عنده؛ فعلمت ضعف نيته، فأمرته بما رأيتم.
(3)
فهذا إمام من أهل العلم أفتى لضعيف النية بالحزم في استعداد الأسباب والنظر في مراعاتها، وسلم لقوي اليقين في طرح الأسباب؛ بناء - والله أعلم - على مظان النظر الفقهي، ولذلك يختلف الحكم باختلاف الناس في النازلة الواحدة
(4)
، كما أنه - أي: الحكم - يختلف باختلاف ما يجِدُّ في الحياة من نظم واقتراحات ناجمة عن طبيعة التطور في الحياة.
(1)
ينظر: آل خنين: المصدر السابق، (1/ 373 - 374).
(2)
ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير (1/ 7).
(3)
ينظر: الشاطبي: المصدر السابق، (1/ 332).
(4)
ينظر: الشاطبي: المصدر السابق، (1/ 332).
والمجتهد في النظر إلى النازلة لا بد له مع التحصيل العلمي والملكات الفطرية من فطنة وذكاء وملكة فقهية ناضجة التمرس في هذا العمل، وما ذاك إلا لأن النفس يصير لها فيما تعانيه من العلوم والحرف والصناعات ملكاتٌ يُدرك بها الأصلي والعارض في تلك العلوم والحرف والصناعات؛ لكثرة نظره فيها، وإتقانه لأصولها ومآخذها، لكن لا بد له من صحة الأصل والمأخذ
(1)
، وقبل ذلك وأثناءه سؤال الله المعونة والرشد والتوفيق.
كما على الفقيه عند النظر في النازلة الفقهية مراعاة الخاص من الأدلة والنظائر؛ فيقدمها على غيرها؛ من الأصول والقواعد، والضوابط العامة المقتضية للإباحة والصحة.
وإلى جانب ذلك؛ مراعاة الأدلة المانعة بطريق التحقق من القواعد والأصول المانعة؛ قبل إلحاق المسألة بالأصول العامة.
ولا مانع من الاستفادة من الأدلة العقلية في العلم الشرعي؛ إذا كانت مركبة عل الأدلة السمعية، أو معينة في طريقها، أو محققة لمناطها، أو ما أشبه ذلك؛ مما لا تستقل بدلالتها فيه؛ لأن النظر فيها نظر شرعي، والعقل ليس بشارع.
(2)
وعليه أن يراعي أيضًا الاستثناء والفروق والعوارض التي توجب عدم إلحاق الفرع بالفرع النظير أو القاعدة العامة عند التخريج. وإذا تجاذب المسألة أو الفرع أصلان، فليُلْحَق الفرع بأكثر الأصلين شبهًا به.
وهو في هذا السياق عليه أن يتحرى الدقة، ويجدد النية، ويسأل الله سبحانه التوفيق وإلهام الصواب؛ لأن فروع كل علم إذا انتشرت، وانبنى بعضها على بعض؛ اشتبهت، وربما تصوِّر تفريعها على أصول مختلفة في العلم الواحد، فأشكلت، أو خفي فيها الرجوع إلى بعض الأصول، أو تعارضت وجوه الشبه، فتشابه الأمر، وذهب على العالِم الأرجح من وجوه الترجيح، ولذلك؛ قال تقي الدين ابن تيمية ت 728 هـ: البحث عن العلم من الجهاد، ولا بد في الجهاد من الصبر ا. هـ
(3)
(1)
ينظر: آل خنين: المصدر السابق (1/ 434).
(2)
ينظر: الشاطبي: المصدر السابق، (1/ 27).
(3)
ابن قاسم: المصدر السابق، (10/ 39).
وليس تزاحم الأصول على الباحث وترادف الأشباه بأمر سلبي على الإطلاق ولو ترتب عليه التوقف في حكم الحادثة، بل هو أمارة غزارة العلم وقوة الفقه؛ لأنه لو كان ناقص الآلة لما بان له إلا أصلٌ واحد وشَبَهٌ واحد، ولم تكثر عليه الأصول.
فإذا اجتهد الفقيه في قضية وتبين له فيها الحق الذي يدين الله به؛ لم يخل اجتهاده من أن يكون هو الحق في نفس الأمر بمقتضى الأدلة الشرعية، أو أن يكون خطأً؛ فإن اجتمع مع الخطأ الإخلاص والعلم والعدل، فقد قيل بأن الله تعالى إنما رجح ذلك الحكم لعلمه سبحانه بأنه الذي تقتضيه الحكمة في زمان معين أو قضية خاصة، وبيان ذلك: أن الأحكام العامة إنما يمكن مطابقتها للحكمة بالنسبة إلى الغالب؛ لأن عموم الأحكام الشرعية لا يمكن أن يراعى فيها الجزئيات الفردية التي يناسبها مرجوح يجعله الله تعالى راجحًا بتقديره في المحل الذي يقتضيه، وهذا المعنى الجليل سبب من أسباب جعل كثير من الأحكام الشرعية غير واضحة كل الوضوح، ومن أسباب قولهم الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد
(1)
.
وبعد ذلك؛ أنتقل إلى تعريف النوازل، وهي في الاصطلاح تطلق بوجه عام على المسائل والوقائع التي تستدعي حكمًا شرعيًّا، والنوازل بهذا المعنى تشمل جميع الحوادث التي تحتاج لفتوى تبينها، سواء أكانت هذه الحوادث متكررة أم نادرة الحدوث، وسواء أكانت قديمة أم مستجدة، والنوازل بهذا المعنى ترادف أو تقابل مصطلح وقائع الفتاوى.
غير أن الذي يتبادر إلى الذهن - في عصرنا هذا - من إطلاق مصطلح النازلة انصرافه إلى واقعة أو حادثة مستجدة لم تعرف في السابق بالشكل الذي حدثت فيه الآن، وهذا ما يعني أن النوازل تتنوع من حيث الوقائع إلى الأنواع الآتية:
الأول: نوازل وقعت في الماضي وأجيب عنها؛ سواء حدثت في زمن النبي-صلى الله عليه وسلم، أو زمن الصحابة رضي الله عنهم، أو من بعدهم، فأجابوا عنها، وانتهت.
(1)
ينظر: الجصاص: الفصول (4/ 217 - 220، 365 - 371). المقري: القواعد (2/ 497 - 500). المعلمي: العبادة (ص 534 - 536). ابن قاسم: مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية (21/ 547). آل خنين: المصدر السابق (1/ 436 - 440).
الثاني: نوازل أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنها ستقع في المستقبل، ومثلها ما تحدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم في أخبار الدجال حيث يقول عن لبثه في الأرض:"أربعون يومًا؛ يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم". فقال الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله! أرأيت اليوم الذي كالسنة؛ أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: "لا؛ اقدروا له قدره"
(1)
.
الثالث: نوازل لم تقع، ولكن الفقهاء تحدثوا عنها، وأفتوا فيها على سبيل الافتراض.
الرابع: نوازل لم تحدث من قبل ولم يشر إليها الفقهاء.
وهذا النوع هو الذي يصدق عليه إطلاق مصطلح "النازلة"؛ لأنها تكون بمعنى الأمر العظيم والخطب الشديد الذي ينزل بالناس، فيحتاجون لرفعه عنهم أن يُبَيَّن الحكم الشرعي فيه.
وإن كان إصدار الفتوى وتبيين الحكم الشرعي في مسألة ما؛ أمر خطير، ليس من السهل الولوج فيها واقتحامه، ومن أفتُي بغير علم فإثمه على من أفتاه؛ لأن المفتي بمثابة الموقع عن رب العالمين في دلالته على حكم الله في النازلة كما ذكر ذلك أبو عبد الله ابن قيم الجوزية الذي وسم كتابه بإعلام الموقعين عن رب العالمين للإشارة على هذا المعنى؛ أما الشاطبي فيقول: المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم ا. هـ
(2)
، ثم استدل على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا؛ ورثوا العلم"
(3)
، كما أن المفتي نائب عن النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ الأحكام لقوله - عليه
(1)
مسلم: المسند الصحيح (كتاب الفتن - باب في الدجال وعظيم فتنته ولبثه في الأرض ونزول عيسى بن مريم عليه السلام وقتله إياه وخروج يأجوج ومأجوج وإهلاكهم وإخراج الأرض بركتها بعدهن - 7/ 337) برقم (3057)؛ من طريق أبي خيثمة زهير بن حرب، ومحمد بن مهران الرازي - واللفظ له -؛ عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه جبير بن نفير الحضرمي، عن الوانس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه؛ به.
(2)
الشاطبي: المصدر السابق، (5/ 253).
(3)
أبو داود: السنن (كتاب العلم - باب الحث على طلب العلم - 6/ 5) برقم (3596)؛ من طريق مسدد، عن عبد الله داود، عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن داود بن جميل، عن كثير بن قيس، عن أبي الدرداء رضي الله عنه؛ به. وأورد البخاري الجزء الأول منه طرفًا في اسم الباب العاشر من كتاب العلم. ينظر: البخاري: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه (1/ 243).
الصلاة والسلام -: "ألا ليبلغ الشاهدُ الغائب"
(1)
، فالمفتي مخبر عن الله كالنبي صلى الله عليه وسلم، وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي صلى الله عليه وسلم، ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك سموا بأولي الأمر، وقرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{يَا أيُّهَا الْذِينَ آمَنُوْا أَطِيعُوْا اللهَ وَأطِيعُوْا الرَّسُوْلَ وَأُوْلِيْ الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [سورة النساء: 59]
(2)
.
ولا يعني ذلك بحال افتراض سلامة المفتي من الخطأ ألبتة؛ لأن فروع كل علم إذا انتشرت وانبنى بعضها على بعض اشتبهت، وربما تُصوِّر تفريعها على أصول مختلفة في العلم الواحد فأشكلت، أو خفي فيها الرجوع إلى بعض الأصول؛ فأهملها المجتهد من حيث خفيت عليه، وهي في الأمر نفسه على غير ذلك، أو تعارضت وجوه الشبه فتشابه الأمر؛ فيذهب على العالم الأرجحُ من وجوه الترجيح، وأشباه ذلك؛ فلا يقدح في كونه عالمًا، ولا يضر في كونه إمامًا مقتدى به، فإن قصر عن استيفاء الشروط؛ نقص عن رتبة الكمال بمقدار ذلك النقصان؛ فلا يستحق الرتبة الكمالية ما لم يكمل ما نقص.
(3)
وفي ظل التقدم التقني، والتوسع العمراني، وتقارب المجتمعات، وسرعة المواصلات، وسهولة الاتصالات، وتنوع وسائل المعاش، وتعدد طرق اكتساب الرزق، والتقدم المذهل في المجال الطبي، ظهرت كثير من القضايا الفقهية التي لم تعهد في عصور التأليف الفقهي، ولم يتعرض لها الفقهاء السابقون، كما برزت حقائق جديدة في كثير من المسائل التي بحثها الفقهاء الأولون، لم تكن معروفة في زمانهم، وتغيرت أحوال بعض المسائل من جهة أسبابها ومآلاتها، وسائر الصفات التي لها مدخل في تحقيق مناط الحكم فيها؛ الأمر الذي استدعي إعادة النظر فيها وفق تلك المعطيات.
(1)
ينظر: البخاري: المصدر السابق، (كتاب غزوة العُشيرة أو العُسيرة- باب حجة الوداع - 5/ 446)، برقم (4387). و (كتاب الأضاحي - باب من قال: الأضحى يوم النحر - 7/ 287) برقم (5546). و (كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرةٌ - إلى ربها ناضرة} [سورة القيامة: 22 - 23]- 9/ 358) برقم (7443)؛ من طريق محمد بن المثنى، ومحمد بن سلام؛ عن عبد الوهاب، عن أيوب، عن محمد، عن ابن أبي بكرة، عن أبي بكرة رضي الله عنه؛ به مرفوعًا.
(2)
الشاطبي: المصدر السابق، (5/ 258).
(3)
ينظر: الشاطبي: المصدر السابق، (1/ 140 - 141).
فهذه الأنواع من المسائل هي المقصودة بمصطلح القضايا الفقهية المعاصرة، وهذا يقتضي يقظة بحثية تليق بهذه الوفرة النازلة، حفظًا للدين، وصيانة لذمم المسلمين.
وإلى جانب التوصيف التشريعي؛ في مثل توصيف مظاهرة أوس بن الصامت من امرأته خولة بنت مالك بن ثعلبة
(1)
، والتوصيف القضائي، والتوصيف الفتَوي
(2)
؛ فهناك التوصيف الفقهي، وهو ما يعنينا هنا، والمراد به: أن تكون هناك قاعدة كلية مقررة بنص من كتاب، أو سنة، أو متفق عليها، فيقوم المجتهد بتنزيلها على الفرع في الأذهان على تلك الأوصاف من القاعدة.
(3)
وهكذا كل ما كان تحقيق المناط فيه بتنزيل القاعدة على الفرع متوجهًا على الأنواع لا على الأشخاص والوقائع المعيّنة
(4)
؛ فهو توصيف فقهي، وذلك مثل إيجاب المثل في جزاء الصيد في قوله تعالى:{وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [سورة المائدة: 95] ، فيأتي المجتهد فيقرّر أن من قتل ضبعًا فعليه كبش، ومن قتل غزالًا فعليه عنز، ومن قتل أرنبًا فعليه عناق؛ لتحقق المثلية فيها حسب نظره، فوجوب المثل اتفاقي نصي، وكون هذا مِثْلَ
(1)
ينظر: البخاري: المصدر السابق، (كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى:{وكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا} - 9/ 318 - 319)؛ معلقًا. أبو داود: المصدر السابق، (كتاب الطلاق - باب في الظهار - 4/ 199)، برقم (2204). النسائي: السنن الكبرى (كتاب الطلاق - باب الظهار - 5/ 276، كتاب التفسير - باب سورة المجادلة - 10/ 289)، برقم (5625، 11506). ابن ماجه: السنن (كتاب السنة - باب فيما أنكرت الجهمية - 1/ 130، كتاب الطلاق - باب الظهار - 3/ 214)، برقم (188، 2063). أحمد: المسند (17/ 256)، برقم (24077). الحاكم: المستدرك على الصحيحين (كتاب التفسير - 5/ 58)، برقم (3833)، وصحح إسناده، وأقره الذهبي، وصححه ابن حجر، والألباني.
ينظر: ابن حجر: تغليق التعليق على صحيح البخاري (5/ 339). الألباني: إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (1/ 175).
(2)
ضبط فَتوِي: بكسر ثالثه نسبة إلى كلمة (فتوى)؛ فإن الألف المقصورة إذا كانت رابعة زائدة للتأنيث والحرف الثاني ساكنًا فالأولى حذفها عند النسبة إليها، ويجوز قلب الألف المقصورة واوًا فيقال:(فَتْوَوِي)، وعلى كلا الحالين فإنه يجب كسر ما قبل الألف مع تشديد ياء النسب للنسبة. ينظر: ابن مالك: الألفية (ص 170).
(3)
ينظر: الطوفي: شرح مختصر الروضة (3/ 233).
(4)
ينظر: الشاطبي: المصدر السابق، (5/ 17 - 18).