الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع
أثر استخدام مدرات الحليب في انتشار المحرمية
من المناسب في مستهل هذا المطلب بيان أدلة الكتاب والسنة وما انعقد عليه إجماع الأمة في التحريم بالرضاع، وكونه مانعًا من موانع النكاح.
فمن الكتاب قول الحق تبارك وتعالى: {حُرِّمَّتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُّكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخْوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [سورة النساء: 23]، فهذه الآية صريحة في أن المحرم بسبب الرضاع اثنان، وهما: الأم، والأخت، ومع كون المحرمات بالرضاع سبعًا نظير المحرمات بالنسب
(1)
، إلا أن الله سبحانه وتعالى اقتصر منهن على الأم والأخت؛ لدلالتهما على البقية، وذلك؛ لأنه إذا تقررت المحرمية في الرضاع بنحو ما يحرم من النسب - كما تقدم في الحديث
(2)
-، فإن المحرمات بالنسب قسمان؛ قسم بالولادة، والآخر بالأخوة؛ أما الأول فيدخل تحته الأم والبنت، وأما الآخر فخمسة أصناف، وهي: الأخت، والخالة، والعمة، وبنت الأخ، وبنت الأخت؛ فاقتصر من الأول على الأم، وهي تدل على البنت، وحيث حرمت الأم بالوالدية فلْتحرم البنت بالمولودية، واقتصر من الصنف الثاني على الأخت؛ لأنها عنوان باقيه؛ إذ العمة أخت الأب،
(1)
وقد جاء النص على كونهن سبعًا عن ابن عباس من غير وجه. ينظر: ابن جرير: المصدر السابق، (6/ 554).
(2)
وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" متفق عليه، وقد تقدم تخريجه عند الضابط الثاني من ضوابط المبحث الثالث في التمهيد.
والخالة أخت الأم، وبنات الأخت وبنات الأخ فروع الأخوة، والآية وإن لم تكن نصًا في غير الأم والأخت إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم بين المراد منها بقوله:"يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" متفق عليه
(1)
، وليس المراد تحريمَ ذواتهن، بل تحريمَ نكاحهن، وما يقصد به من التمتع بهن؛ لأن الذوات لا تحرم، بل التحريم للأفعال، وهذا من قبيل دلالة الاقتضاء، كما قال تعالى:{حُرِّمَّتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ} [سورة المائدة: 3]؛ أي: أكلها، ومن هذا علم أن للرضاع مدخلًا في التحريم كالنسب.
ولو قال قائل: إن الآية مجملة، وليست صالحة للاستدلال؛ لأنه وإن كان ليس المقصود تحريم الذوات بل الأفعال؛ إلا أن الأفعال كثيرة، وليس أحدها بأولى من الآخر.
فالجواب: إن هذه الدعوى مدفوعة، وذلك لما يأتي:
(2)
1 -
عدم التسليم بكون الآية مجملة تدل على تحريم جميع الأفعال، بل هي تدل على تحريم النكاح، والدليل على صحة هذا التقدير: الآية السابقة لها، وهي قول الله:{وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِنَ النِسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [سورة النساء: 22].
2 -
إن كل ما ورد في مثل هذا يحمل على المقصود منه عرفًا، كما حملت الميتة في قول الله تعالى:{حُرِّمَّتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ} [سورة المائدة: 3] على الأكل، والدم على تناوله.
وعودًا على ذي بدئ، فإلى جانب أدلة الكتاب العزيز، فقد بين مبدأَ التحريم الرضاعي النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وذلك حين استأذن عمٌّ لحفصة من الرضاعة أن يدخل في بيتها، فقال حين استنكرت عائشة رضي الله عنهم:"الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة" متفق عليه
(3)
، وقال في بنت أبي سلمة رضي الله عنهم:"إنها لابنة - ولفظ مسلم: ابنة - أخي من الرضاعة؛ أرضعتني وأبا سلمة ثويبةُ، فلا تعرِضْنَ علي بناتِكن ولا أخواتِكن" متفق عليه
(4)
، ولما
(1)
تقدم تخريجه عند الضابط الثاني في المبحث الثالث من التمهيد.
(2)
ينظر: ابن جرير: المصدر السابق، (6/ 553). الزمخشري: الكشاف (ص 229).
(3)
تقدم تخريجه عند الضابط الثاني في المبحث الثالث من التمهيد.
(4)
البخاري: المصدر السابق، (كتاب النكاح - باب {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب - 7/ 26)، برقم (5091)؛ من طريق الحكم بن نافع، عن شعيب، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ به مرفوعًا. مسلم: المصدر السابق، (كتاب النكاح وإجابة الداعي - باب تحريم الربيبة وأخت المرأة - 4/ 77)، برقم (1471)؛ من طريق أبي كريب محمد بن العلاء، عن أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن زينب، عن أم حبيبة؛ به مرفوعًا.
عرضت عليه ابنة حمزة رضي الله عنه للزواج منها، قال:"إنها ابنة أخي من الرضاعة" متفق عليه
(1)
، ولما جاء أفلح أخو أبي القعيس يستأذن على عائشة - وهو عمها من الرضاعة
(2)
- بعد أن نزل الحجاب؛ أبت عائشة أن تأذن له، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بالذي صنعت، فأمرها أن تأذن له. متفق عليه
(3)
وفي رواية لمسلم في المتابعات: أن عائشة قالت بعد ذلك: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل؟ ! فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام:"إنه عمك؛ فليلج عليك"
(4)
.
فما تقدم من الأحاديث دال على أن الرضاع يحرِّم من النساء ما حرُم بالنسب، وهذا المعنى يشبه أن يبلغ حد التواتر.
وأما الإجماع فهو أن الأمة قد اجتمع قولها واتفقت كلمتها على أن الرضاع يُثبِت من الحرمة ما يثبته النسب
(5)
، كما قد حكي الإجماع على عدم وقوع الحرمة بدم المرضع، ولا بلحمها، وإن أغذيا الولد.
(6)
(1)
البخاري: المصدر السابق، (كتاب النكاح - باب {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب - 7/ 25)، برقم (5090)؛ من طريق مسدد، عن يحيى، عن شعبة، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس؛ به مرفوعًا. مسلم: المصدر السابق، (كتاب النكاح وإجابة الداعي - باب تحريم بنت الأخ من الرضاعة - 4/ 75)، برقم (1468)؛ من طريق أبي بكر بن أبي شيبة - واللفظ له -، وزهير بن حرب، ومحمد بن العلاء؛ عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي؛ به مرفوعًا.
(2)
لأن أبا القعيس والدُ عائشة من الرضاعة، أما أخوه أفلح؛ فهو عمها من الرضاعة. ينظر: ابن حجر: فتح الباري (11/ 373).
(3)
البخاري: المصدر السابق، (كتاب النكاح - باب لبن الفحل - 7/ 27)، برقم (5093)؛ من طريق عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة؛ به مرفوعًا. مسلم: المصدر السابق، (كتاب النكاح وإجابة الداعي - باب تحريم الرضاعة من قبل الفحل - 4/ 71)، برقم (1467)؛ من طريق يحيى بن يحيى، عن مالك قراءةً؛ بسنده عند البخاري.
(4)
مسلم: المصدر السابق، (كتاب النكاح وإجابة الداعي - باب تحريم الرضاعة من قبل الفحل - 4/ 71)، برقم (1467/ 4)؛ من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب؛ عن ابن نمير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة؛ به مرفوعًا.
(5)
ينظر: محمد بن الحسن: المصدر السابق، (4/ 359). الترمذي:(المصدر السابق، 2/ 446). ابن المنذر: الإجماع (ص 41)، الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف (8/ 548). ابن حزم: مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات (ص 120). ابن القطان الفاسي: الإقناع (3/ 1189). ابن رشد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2/ 35). ابن القطان الفاسي: الإقناع في مسائل الإجماع (3/ 1184، 1186). القرافي: الذخيرة (4/ 270). الشافعي: الأم (6/ 65). ابن حجر: فتح الباري (11/ 374). ابن قدامة: المصدر السابق، (11/ 309). البهوتي: المصدر السابق، (13/ 77). ابن قاسم: المصدر السابق، (34/ 31).
(6)
ينظر: القرافي: المصدر السابق، (4/ 277). ابن قاسم: فتاوى محمد بن إبراهيم (11/ 168).
وتقريرات فقهاء المسلمين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم في هذا متوافرة وحاضرة؛ فمن ذلك ما روي عن عائشة قالت: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ا. هـ
(1)
، وبنحوه روي عن ابن عباس
(2)
، وابن مسعود
(3)
، وسويد بن غَفَلة
(4)
،
(1)
مالك: المصدر السابق، (ص 463)؛ معلقًا. عبد الرزاق: المصدر السابق، (7/ 476، 477)، برقم (13949، 13952، 13954)؛ من طريق معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة؛ به موقوفًا، ومن طريق ابن جريج، وإبراهيم؛ عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة؛ به موقوفًا، ومن طريق ابن جريج، عن مسلم بن أبي مريم، عن عروة بن الزبير، عن عائشة؛ به موقوفًا. ابن أبي شيبة: المصدر السابق، (9/ 293)، برقم (17323)؛ من طريق أبي معاوية، عن هشام، بسنده عند عبد الرزاق، ولفظه: كانت .. ا. هـ ابن المنذر: المصدر السابق، (8/ 547، 563)، برقم (7411)؛ من طريق عبد الرزاق.
(2)
عبد الرزاق: المصدر السابق، (7/ 474، 476)، برقم (13942، 13951)؛ من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن عمرو بن الشريد، عن ابن عباس - في رجل تزوج امرأتين، فأرضعت الواحدة جارية، وأرضعت الأخرى غلامًا؛ هل يتزوج الغلام الجارية؟ -: لا؛ اللقاح واحد، لا تحل له ا. هـ، ومن طريق إسرائيل بن يونس، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ به موقوفًا، بلفظ: يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ا. هـ. ابن أبي شيبة: المصدر السابق، (9/ 293)، برقم (17325)؛ من طريق حميد بن عبد الرحمن، عن حسن، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس؛ به موقوفًا. ابن المنذر: المصدر السابق، (8/ 548، 563)، برقم (7412، 7440)؛ من طريق إسحاق، عن عبد الرزاق، عن إسرائيل؛ بسنده عند عبد الرزاق، ومن طريق الربيع، عن الشافعي، عن مالك؛ بسنده عند عبد الرزاق، ومتنِه. ابن حزم: المصدر السابق، (10/ 5)؛ من طريق أبي عبيد، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك؛ بسنده عند عبد الرزاق، ولفظِه. ومن طريق الشافعي، وابن قعنب، وابن بكير، وأبي الوليد؛ عن مالك رواه: البيهقي: السنن الكبير (16/ 13)، برقم (15714)، بلفظ عبد الرزاق؛ إلا قوله:"الواحدة"، فقد قال: إحداهما، وإلا:"لا تحل له"، فلم ترد عنده.
(3)
ابن أبي شيبة: المصدر السابق، (9/ 294)، برقم (17327)؛ من طريق ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبد الله بن عتبة؛ قال: أراه عن عبد الله؛ به موقوفًا. ابن المنذر: المصدر السابق، (8/ 548)، برقم (7413)؛ من طريق علي بن عبد العزيز، عن أبي عبيد، عن أبي زائدة، عن ابن سيرين، عن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود؛ به موقوفًا. ومن طريق أشعث بن سوار، عن محمد - هو ابن سيرين -؛ رواه: البيهقي: المصدر السابق، (16/ 13)، برقم (15715).
(4)
ابن أبي شيبة: المصدر السابق، (9/ 294)، برقم (17329)؛ من طريق الفضل بن دكين، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد؛ به موقوفًا.
وعن علي: لا تنكح من أرضعته امرأة أخيك، ولا امرأة أبيك، ولا امرأة ابنك ا. هـ
(1)
، وهو المذهب العملي المحكي عن الزبير بن العوام
(2)
، وما كان يفتي به عروة بن الزبير
(3)
، والمنقول عن ابن عمر
(4)
، وجابر
(5)
؛ رضي الله عنهم جميعًا.
وكذلك جاء عن إبراهيم النخعي أنه قال: يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ا. هـ
(6)
، وبنحوه قال عطاء
(7)
، وهو المنقول عن مجاهد، والشعبي، وابن جريج، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وجابر بن زيد، وطاوس، ومجاهد، والزهري، والحسن البصري، وسفيان الثوري، والنعمان، وأبي الشعثاء، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبي حنيفة وأصحاب الرأي، ومالك، والشافعي، وأبي ثور، وأحمد، وإسحاق، وأبي سليمان داود الظاهري، وأصحابهم،
(1)
ينظر: ابن أبي شيبة: المصدر السابق، (9/ 293)، برقم (17324)؛ من طريق ابن مبارك، عن موسى بن أيوب - هو الغافقي -، عن عمه إياس بن عامر؛ قال: قال علي؛ به موقوفًا. ابن المنذر: المصدر السابق، (8/ 563)، برقم (7441)؛ من طريق محمد بن علي، عن سعيد، عن عبد الله بن المبارك؛ بسنده عند ابن أبي شيبة، ولفظه: لا تنكحن من أرضعت امرأة أبيك، ولا امرأة ابنك، ولا امرأة أخيك ا. هـ، ومن طريق سعيد بن منصور عن ابن المبارك رواه: البيهقي: المصدر السابق، (16/ 12)، برقم (15713)، بلفظ ابن أبي شيبة بتقديم وتأخير.
(2)
ينظر: ابن حزم: المصدر السابق، (10/ 5)؛ من طريق أبي عبيد، عن إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة؛ أن أمه زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين أرضعتها أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام. قالت زينب: فكان الزبير يدخل علي وأنا أمتشط، فيأخذ بقرن من قرون رأسي؛ يقول: أقبلي علي فحدثيني؛ أرى أنه أبي، وما ولد فهم إخوتي.
(3)
ينظر: ابن حزم: المصدر السابق، (10/ 6)؛ من طريق حماد بن سلمة، هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه؛ في رجل أرضعت امرأة أبيه امرأة وليست أمه؛ أتحل له؟ قال عروة: لا تحل له ا. هـ ابن المنذر: المصدر السابق، (8/ 563).
(4)
عبد الرزاق: المصدر السابق، (7/ 474) برقم (13943)؛ من طريق الثوري، عن خصيف، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه؛ قال: لا بأس بلبن الفحل ا. هـ
(5)
عبد الرزاق: المصدر السابق، (7/ 474) برقم (13943)؛ من طريق محمد بن إسحاق، عن رجل، عن جابر؛ قال: لا بأس به ا. هـ
(6)
عبد الرزاق: المصدر السابق، (7/ 474)؛ بسنده إلى إبراهيم أنه قال في لبن الفحل: لا بأس به ا. هـ ابن أبي شيبة: المصدر السابق، (9/ 293).
(7)
عبد الرزاق: المصدر السابق، (7/ 471 - 472، 476). ابن المنذر: المصدر السابق، (8/ 563). ينظر: ابن حزم: المصدر السابق، (10/ 6).
وأبي عبيد، والترمذي، وعبيد الله بن الحسن، وابن المنذر، وهو المشتهر عند أهل المدينة ومكة الكوفة والشام وفقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين
(1)
.
ومن ذلك: ما قال القدوري ت 428 هـ: ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب
…
، ولبن الفحل يتعلق به التحريم، وهو: أن ترضع المرأة صبية، فتحرم هذه الصبية على زوجها، وعلى آبائه وأبنائه، ويصير الزوج الذي نزل لها منه اللبن أبًا للمرضعة ا. هـ
(2)
وقال خليل ت 776 هـ في مختصره: حصول لبن امرأة وإن ميتة
…
؛ محرِّم؛ إن حصل في الحولين، أو بزيادة الشهرين؛ إلا أن يستغنين ولو فيهما = ما حرمه النسب ا. هـ
(3)
وقال المزجَّد ت 930 هـ: تحريم الرضاع يتعلق بالمرضعة والفحل الذي له اللبن على ولد منسوب إليه، ولو من وطء شبهة، ثم تنتشر إلى أصولهما وفروعهما من نسب أو رضاع، وإلى إخوتهما وأخواتهما منهما للخؤولة والعمومة، وأولاد أولادهما أولاد إخوة وأخوات، ولا حرمة بينهم وبين الرضيع
…
، وينتشر من الرضيع إلى أو لاده من نسب أو رضاع دون آبائه وأمهاته وإخوته وأخواته
…
، ولا تنقطع نسبة اللبن عن الفحل بفراق المرأة وإن طال الزمن ا. هـ
(4)
وقال مرعي الكرمي ت 1033 هـ: وتحريم الرضاع في النكاح وثبوت المحرمية كالنسب ا. هـ
(5)
غير أن بعض السلف حكي عنه استثناء انتشار المحرمية من جهة الأب - زوج المرضع - في الإرضاع، واستفاضت هذه المسألة بين الفقهاء بعنوان: لبن الفحل، ورغم صراحة النصوص المرفوعة المتفق عليها والتي جاءت بتحريم عمِّ حفصة من الرضاعة وعمِّ عائشة من الرضاعة رضي الله عنهما؛ إلا أن الإشكال في بادئ الأمر سبق إلى ذهن عائشة في قولها: إنما أرضعتني
(1)
ينظر: عبد الرزاق: المصدر السابق، (7/ 472). الترمذي: المصدر السابق، (2/ 441 - 442). ابن المنذر: المصدر السابق، (8/ 548، 563 - 564). ابن حزم: المصدر السابق، (10/ 6). البيهقي: المصدر السابق، (16/ 13). ابن حجر: المصدر السابق، (11/ 392)، وما يأتي.
(2)
القدوري: مختصر القدوري (ص 230).
(3)
ينظر مع شرحه مواهب الجليل للحطاب (4/ 576).
(4)
المزجَّد: العباب (3/ 180، 181).
(5)
مرعي الكرمي: دليل الطالب لنيل المطالب (ص 311).
المرأة ولم يرضعني الرجل! ، فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم أنه عمها، وأنه لا مانع من ولوجه عليها
(1)
؛ مقررًا عليه الصلاة والسلام في ذلك سريان التحريم إلى من نزل اللبن من مائه بفعل وطئه أصولًا وفروعًا وحواشيَ، وقد طرح هذه القضية بتوسع ووضوح أبو محمد ابن حزم، وذلك بعدما قرر أن "لبن الفحل يحرم، وهو: أن ترضع امرأةُ رجلٍ ذكرًا، وترضع امرأته الأخرى أنثى؛ فتحرم إحداهما على الأخرى"
(2)
، ثم قال بعد ذلك: وقد رأى قوم من السلف هذا لا يحرم شيئًا ا. هـ، وهذا الرأي مروي عن عائشة
(3)
، وابن عمر
(4)
وابن الزبير
(5)
، ورافع بن خديج، وزينب بنت أم سلمة
(6)
، وغيرهم
(7)
؛ رضي الله عنهم.
(1)
تقدم تخريج هذه الأحاديث قريبًا. يتمم هناك حديث أفلح وغيره
(2)
ينظر: ابن حزم المصدر السابق، (10/ 3).
(3)
ينظر: ابن المنذر: المصدر السابق، (8/ 564)، برقم (7443)؛ من طريق علي، عن أبي عبيد، عن إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد، عن أبيه، عن عائشة؛ أنها كانت تأذن لمن أرضع أخواتُها وبناتُ أخيها، ولا تأذن لمن أرضع نساء أخواتها وبني أخيها ا. هـ ابن حزم المصدر السابق، (10/ 4)؛ من طريق أبي عبيد؛ بسنده عند ابن المنذر إلى عائشة؛ أنها كانت تأذن لمن أرضعته أخواتها وبنات أخيها، ولا تأذن لمن أرضعته نساء إخوتها وبني إخوتها، وصححه ابن حزم، ومن طريق سعيد بن منصور، عن الدراوردي، عن ربيعة، ويحيى بن سعيد، وعمرو بن عبد الله، وأفلح بن حميد؛ عن القاسم بن محمدبن أبي بكر الصديق؛ قال: كان يدخل على عائشة من أرضعته بنات أبي بكر، ولا يدخل عليها من أرضعته نساء أبي بكر - أي: زوجاته والله أعلم -.
(4)
ينظر: ابن المنذر: المصدر السابق، (8/ 564)، برقم (7442)؛ من طريق إسحاق، عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن خصيف، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر؛ أنه قال: لا بأس بلبن الفحل ا. هـ ابن حزم المصدر السابق، (10/ 4)؛ من طريق عبد الرزاق؛ بسنده عند ابن المنذر، ولفظِه.
(5)
ينظر: ابن حزم المصدر السابق، (10/ 4)؛ من طريق أبي عبيد، أنا إسماعيل بن جعفر عن محمد بن عمرو، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود؛ أن أمه زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين أرضعتها أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير، قالت زينب: فأرسل إلي عبد الله بن الزبير يخطب ابنتي أم كلثوم على أخيه حمزة بن الزبير، وكان حمزة ابن الكلبية، فقلت لرسوله: وهل تحل له؟ إنما هي بنت أخيه، فأرسل إلي ابن الزبير: إنما تريدين المنع؛ أنا وما ولدت أسماء إخوتك، وما كان من ولد الزبير من غير أسماء فليسوا لك بإخوة، فأرسلي، فاسألي عن هذا. فأرسلت، فسألت - وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون وأمهات المؤمنين -، فقالوا: إن الرضاعة من قبل الرجال لا تحرم شيئًا، فأنكحتها إياه، فلم تزل عنده حتى هلكت. ابن قدامة: المصدر السابق، (9/ 521).
(6)
ينظر: ابن حجر: المصدر السابق، (11/ 391).
(7)
ينظر: ابن حزم المصدر السابق، (10/ 4)؛ من طريق الحجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري؛ أن حمزة بن الزبير بن العوام تزوج ابنة زينب بنت أم سلمة وقد أرضعت أسماء بنت أبي بكر زينب بنت أم سلمة بلبن الزبير. قال يحيى بن سعيد: وكانت امرأة سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب قد أرضعت حمزة بن عبد الله بن عمر، فولد لسالم بن عبد الله من امرأة أخرى غلام اسمه عمر، فتزوج بنت حمزة بن عبد الله بن عمر. قال ابن قدامة: فأما حديث زينب؛ فإن صح فهو حجة لنا، فإن الزبير كان يعتقدها ابنته وتعتقده أباها، والظاهر أن هذا كان مشهورًا عندهم، وقوله مع إقرار أهل عصره أولى من قول ابنه وقولِ قوم لا يعرفون ا. هـ، ويؤيد ما أشار إليه ابن قدامة من شهرة حرمة لبن الفحل: ما استفاض من أمر الجاهلية فيه، فلما سبيت هوازن - وهي القبيلة التي تنتمي إليها حليمة السعدية - وغنمت أموالهم بحنين؛ قدمت وفودهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام فيهم زهير بن صُرَد، فقال: إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن أرضعنك ويكفلنك ا. هـ
ينظر: ابن جرير: تاريخ الأمم والملوك (ص 446). ابن قدامة: المصدر السابق، (9/ 522). ابن القيم: المصدر السابق، (5/ 561).
كما قد روي عن سالم بن عبد الله بن عمر
(1)
، وإبراهيم النخعي، وأبي قلابة
(2)
، وسعيد بن المسيب، والشعبي، وعطاء بن يسار، وسليمان بن يسار، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة وإياس بن معاوية
(3)
، والقاسم بن محمد بن أبي بكر
(4)
، وطاوس
(5)
، ونسب إلى ربيعة الرأي، وإبراهيم بن علية
(6)
.
(1)
ينظر: ابن حزم المصدر السابق، (10/ 4 - 5)؛ من طريق سعيد بن منصور، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عمرو بن حسين مولى قدامة بن مظعون؛ أن سالم بن عبد الله بن عمر زوج ابنًا له أختًا له من أبيه من الرضاعة. ابن حجر: المصدر السابق، (11/ 391).
(2)
ينظر: ابن المنذر: المصدر السابق، (8/ 564). ابن حزم المصدر السابق، (10/ 5)؛ بسنده إليه، بلفظ: لا بأس بلبن الفحل. ابن قدامة: المصدر السابق، (9/ 521). ابن القيم: المصدر السابق، (5/ 561). ابن حجر: المصدر السابق، (11/ 391).
(3)
ينظر: ابن المنذر: المصدر السابق، (8/ 564). ابن حزم المصدر السابق، (10/ 5)؛ بسنده إليهم؛ أنهم قالوا: إنما يحرم من الرضاعة ما كان من قبل النساء، ولا يحرم ما كان من قبل الرجال ا. هـ ابن قدامة: المصدر السابق، (9/ 521). ابن القيم: المصدر السابق، (5/ 561). ابن حجر: المصدر السابق، (11/ 391).
(4)
ينظر: ابن المنذر: المصدر السابق، (8/ 564). ابن حزم المصدر السابق، (10/ 5)؛ بسنده إلى أفلح بن حميد؛ قال: قلت للقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق: إن فلانًا من آل أبي فروة أراد أن يزوج غلامًا أختَه من أبيه من الرضاعة؟ فقال القاسم: لا بأس بذلك ا. هـ ابن حجر: المصدر السابق، (11/ 391).
(5)
عبد الرزاق: المصدر السابق، (7/ 471).
(6)
ابن حجر: المصدر السابق، (11/ 392).
وغاية ما يستندون إليه عمومات
(1)
، وعقليات
(2)
؛ لا تصمد أمام ما اتُّفق على صحته من السنة المبينة المصرحة، ولذلك قال أبو محمد ابن قدامة بعدما ساق حديث عائشة مع أفلح أخي أبي القعيس - عمها من الرضاعة الذي أمرت بالإذن له في الدخول عليها -: وهذا نص قاطع في محل النزاع، فلا يعول على ما خالفه ا. هـ
(3)
، وهذه العبارة الصريحة لم يجر بها قلم ابن قدامة بتمامها في أي مسألة أخرى من كتابه المغني.
وما تقدم في عدم الاعتداد بلبن الفحل لو صح عن عائشة
(4)
رضي الله عنها فهو ظاهر في كونه قبل علمها بالحكم، والدليل على أنها لم تكن تعلم الحكم؛ قولها كما في صحيح مسلم: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل؟ !
(5)
، وليكن كذلك سبب ما جاء عن غيرها، وإذا رأيت لبعضهم نقلين في المسألة؛ كطاوس؛ ظهر لك أن هذا هو السبب.
ويشير إلى هذا ما روى ابن حزم بسنده إلى الأعمش؛ قال: كان عمارة وإبراهيم وأصحابنا لا يرون بلبن الفحل بأسًا - أي: لا يجعلونه محرمًا من قِبَله -، حتى أتاهم الحكم بن عتيبة بخبر أبي القعيس.
(6)
ثم علق أبو محمد ابن حزم بقضية منهجية هامة جدًّا، فقال: هكذا يفعل أهل العلم، لا كمن يقول: أين كان فلان وفلان عن هذا الخبر؟ ا. هـ
(7)
وهذا ليس بمستغرب إذا علمت أنه تكرر في غير مسألة؛ فإنك تجد النقول عمن كان في صدر الإسلام أنه يقول بعدم تعلق التحريم فيما دون الرضعات العشر، مع ورود نسخها صريحًا صحيحًا.
وعدم إدراك المسألة بهذا التسلسل قد يربك الفقيه، ولذلك توقف في حكم لبن الفحل طائفة من الفقهاء في صدر الإسلام؛ كالذي يروى عن مجاهد، وابن سيرين.
(8)
وقد تأول بعضهم فعل عائشة الأول المبني على على عدم إقرار التحريم بلبن الفحل، فقال: إن للمرأة أن تحتجب ممن شاءت من ذوي محارمها
(9)
، وهذا وإن كان لها أن تفعله؛ إلا أن تخصيصها رضي الله عنها بالاحتجاب عمن أرضعته نساء أبيها، ونساء إخوتها، ونساء بني أخواتها، دون من أرضعته أخواتها، وبنات أخواتها؛ لا يمكن إلا للوجه الذي المذكور، لا سيما مع تصريح ابن الزبير المتقدم - وهو من أخص الناس بها - بأن لبن الفحل لا يحرم، وأفتى القاسم بذلك.
(10)
والظاهر أن أقوال المسلمين قد اجتمعت بعد ذلك على تحريم لبن الفحل، من دون مخالف يذكر، وإن كان ابن القيم قد قرر عدم إمكان دعوى الإجماع في هذه المسألة، وأن من ادعاه فهو كاذب، ثم نسب القول بتحريم لبن الفحل إلى جمهور أهل الإسلام
(11)
، وأردف: إن لبن الفحل يحرم، وإن التحريم ينتشر منه - يريد: الفحل زوج المرضع - كما ينتشر من المرأة، وهذا
(1)
كاستدلالهم بعموم قول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخْوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [سورة النساء: 23]، ولم يذكر العمة ولا البنت كما ذكرهما في النسب، ويجاب: بما قال عطاء: هي أختك من أبيك ا. هـ، وهو زوج المرضع الذي كان نزول اللبن بفعله، وبأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه، ولا سيما وقد جاءت الأحاديث الصحيحة.
ثم هم يناقشون هذه الأحاديث الصحيحة المشار إليها في الجواب الثاني بأنها زيادة على ما في القرآن، والزيادة نسخ، والسنة لا تنسخ القرآن.
ويجاب: بأن السنة بينت مراد الكتاب، لا أنها خالفته، وغايتها أن تكون أثبتت تحريم ما سكت عنه، أو تخصيص ما لم يرد عمومه
ينظر: عبد الرزاق: المصدر السابق، (7/ 471 - 472). ينظر: ابن القيم: المصدر السابق (5/ 565 - 565). ابن حجر: المصدر السابق، (11/ 392).
(2)
كقولهم: إن اللبن لا ينفصل من الرجل وإنما ينفصل من المرأة؛ فكيف تنتشر الحرمة إلى الرجل؟ ويجاب: بأنه قياس في مقابلة النص، فلا يلتفت إليه، وبأن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معًا؛ فإنه ثار بوطء الأب والأم وعاء له، فوجب أن يكون الرضاع منهما؛ كالجد لما كان سبب الولد أوجب تحريم ولد الولد به لتعلقه بولده؛ كما تقدم قريبًا في قول ابن عباس: اللقاح واحد ا. هـ، وبأن الوطء يدر اللبن فللفحل فيه نصيب.
ينظر: ابن قدامة: المصدر السابق، (9/ 521). ابن القيم: المصدر السابق (5/ 567). ابن حجر: المصدر السابق، (11/ 392).
(3)
ابن قدامة: المصدر السابق، (9/ 522).
(4)
وقد صححه إليها ابن حجر. ينظر: ابن حجر: المصدر السابق، (11/ 393).
(5)
تقدم تخريجه قريبًا في هذا المبحث.
(6)
ينظر: ابن حزم المصدر السابق، (10/ 6).
(7)
ينظر: ابن حزم المصدر السابق، (10/ 6).
(8)
ينظر: ابن حزم المصدر السابق، (10/ 6).
(9)
ينظر: ابن حزم المصدر السابق، (10/ 8).
(10)
ينظر: ابن حزم المصدر السابق، (10/ 8).
(11)
ينظر: ابن القيم: المصدر السابق، (5/ 560 - 161).
هو الحق الذي لا يجوز أن يقال بغيره، وإن خالف فيه من خالف من الصحابة ومن بعدهم، فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع ويترك ما خالفها لأجلها، ولا تترك هي لأجل قول أحد كائنًا من كان، ولو تركت السنن لخلاف من خالفها لعدم بلوغها له، أو لتأويلها، أو غير ذلك؛ لتُرك سنن كثيرة جدًا وتركت الحجة إلى غيرها، وقولُ من يجب اتباعه إلى قول من لا يجب اتباعه، وقولُ المعصوم إلى قول غير المعصوم، وهذه بلية؛ نسأل الله العافية منها، وأن لا نلقاه بها يوم القيامة ا. هـ
(1)
، ولكن قد نسب إلى الجمهور القول بجواز اتفاق علماء العصر على حكم معين بعد اختلافهم في ذلك الحكم؛ لأنه واقع من جميع أهل العصر الذين يصنف مخالفهم متبعًا غير سبيل المؤمنين، والوقوع دليل الجواز، وإذا جاز وقوعه استلزم حجيته من عموم الأدلة، كما أجمعت الأمة على خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد الاختلاف.
ولا يكون الفحل أبًا بالإجماع؛ إذا قبَّل امرأةً، أو باشرها، ثم درَّت اللبن.
(2)
وهذه المسألة مبنية على مسائل أخرى، منها: الإجماع؛ هل يختص بالصدر الأول؟ وهل يختص حكم الإجماع في عصر دون عصر؟ وهل يرتفع الخلاف المتقدم؟ وهل ينقرض القول بموت صاحبه؟
فمن رام قدحًا في الإجماع بعد الاختلاف، فربما تداعى ذلك إلى أصل الاحتجاج بالإجماع
(3)
.
وهذا يقودنا إلى مسألة لصيقة، وهي: هل يحرم من الرضاع ما يحرم من الصهر والجمع؛ كأم الزوجة من الرضاع، وبنت امرأته من الرضاع مما نزل بوطء زوج غيره، وامرأة الابن من الرضاع، والجمع بين الأختين من الرضاعة، وبين المرأة وعمتها من الرضاعة، وبينها وبين خالتها من الرضاعة؟
(1)
ابن القيم: المصدر السابق (5/ 564).
(2)
ينظر: القرافي: المصدر السابق، (4/ 270).
(3)
ينظر: الجصاص: الفصول (3/ 273، 311). محمد الأمين الشنقيطي: المصدر السابق، (ص 149). الجويني: التلخيص (3/ 53 - 54، 79 - وما بعدها). أ. د. النملة: المهذب (2/ 923 - 924). البطي: روايات الإمام أحمد الأصولية (2/ 565 - 567).
من لم ير في لبن الفحل ما ينشر المحرمية إليه؛ أصولًا، وفروعًا، وحواشي؛ فمن باب أولى أن لا يحرموا على زوج المرضع امرأة الرضيع، ولا على الرضيع امرأة الفحل
(1)
، وسائر ما يحرم بالمصاهرة.
وأما من قال بتحريم لبن الفحل، فقد حرم نظير المصاهرة بالرضاع، وهو ما اشتهر بين الأئمة الأربعة وأتباعهم
(2)
، حتى حكى ابنُ حزم الاتفاقَ على "أن أم الزوجة من الرضاعة بمنزلتها من الولادة، وأن ابنتها من الرضاعة كابنتها من الولادة، ولا فرق"
(3)
، والقرطبيُّ الإجماعَ على حرمة حليلة الابن من الرضاع، ونص على أن مستند الإجماع في ذلك هو الخبر المرفوع:"يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"
(4)
، ولم أرَ من خالف ذلك ممن قال بتحريم لبن الفحل؛ إلا ما كان من تقي الدين ابن تيمية حين توقف، وقال: إن كان قد قال أحد بعدم التحريم؛ فهو أقوى ا. هـ
(5)
، والواقع أن الفقهاء لم يذكروا في هذا قولًا آخر؛ بل حكوا عدم علمهم بالخلاف
(6)
؛ لكن نسب المرداوي إلى تقي الدين أنه لا يحرِّم من الرضاع ما يحرُم من المصاهرة، وأردفها بفتوى للإمام أحمد من رواية ابن بدينا يقرر فيها التحريم بالرضاع نظير المصاهرة
(7)
.
وقد كانت أدلة الجماهير إلى ما ذهبوا إليه ما يأتي:
1 -
إن تحريم هذا داخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب"
(8)
؛ لأنه أجرى الرضاعة مجرى النسب، وشبَّهها به؛ فثبت تنزيل ولد الرضاعة
(1)
ينظر: ابن القيم: المصدر السابق (5/ 561).
(2)
ينظر: ابن عابدين: المصدر السابق، (4/ 416). القرافي: الذخيرة (4/ 279، 281، 282). الحطاب: المصدر السابق، (4/ 576، 577). الشافعي: المصدر السابق، (6/ 66 - 68). النووي: المصدر السابق، (7/ 110 - 111). شمس الدين ابن قدامة: المصدر السابق، (20/ 278 - 282). المرداوي: المصدر السابق، (20/ 281 - 282). المباركفوري: المصدر السابق، (4/ 256 - 257).
(3)
ابن حزم: مراتب الإجماع (ص 121).
(4)
تقدم تخريجه عند الضابط الثاني في المبحث الثالث من التمهيد. ينظر: القرطبي: المصدر السابق، (5/ 116).
(5)
ينظر: ابن القيم: المصدر السابق، (5/ 557).
(6)
ينظر: شمس الدين ابن قدامة: المصدر السابق، (20/ 282).
(7)
ينظر: المرداوي: المصدر السابق، (278/ 279).
(8)
تقدم تخريجه عند الضابط الثاني في المبحث الثالث من التمهيد.
وأبي الرضاعة منزلة ولد النسب وأبيه؛ فما ثبت للنسب من التحريم ثبت للرضاعة؛ كامرأة الأب، والابن، وأم المرأة، وابنتها من النسب، وإذا حرم الجمع بين أختي النسب حرم بين أختي الرضاعة.
(1)
ونوقش بما يأتي: أ- الله سبحانه حرم سبعًا بالنسب وسبعًا بالصهر، ومعلوم أن تحريم الرضاعة لا يسمى صهرًا وإنما يحرم منه ما يحرم من النسب، ولم يقل في الحديث: ما يحرم بالمصاهرة، ولا ذكره الله سبحانه في كتابه كما ذكر تحريم الصهر من النسب، ولا ذكر تحريم الجمع في الرضاع كما ذكره في النسب، وإثباتكم له جاء من طريق القياس، وقد غفلتم عن كون الفارق بين الأصل والفرع أضعاف أضعاف الجامع، فإذ الرضاعة جعلت كالنسب في حكم لم يلزم أن تكون مثله في كل حكم؛ بل ما افترقا فيه من الأحكام أضعاف ما اجتمعا فيه منها، وقد ثبت جواز الجمع بين اللتين بينهما مصاهرة محرمة، كما جمع الحسن بن الحسن بن علي بين بنتي عم في ليلة، وجمع عبد الله بن جعفر بين امرأة علي وابنته
(2)
، وإن كان بينهما تحريم يمنع جواز نكاح أحدها للآخر لو كان ذكرًا، فهذا نظير الأختين من الرضاعة سواء؛ لأن سبب تحريم النكاح بينهما في أنفسهما، وهؤلاء نساء النبي صلى الله عليه وسلم هن أمهات المؤمنين في التحريم والحرمة فقط، لا في المحرمية؛ فليس لأحد أن يخلو بهن ولا ينظر إليهن، بل قد أمرهن الله بالاحتجاب عمن حرم عليه نكاحهن من غير أقاربهن ومن بينهن وبينه رضاع؛ فقال تعالى:{وَإذَا سَألتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسألُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابِ} [سورة الأحزاب: 53]، ثم هذا الحكم لا يتعدى إلى أقاربهن ألبتة، فليس بناتهن أخوات المؤمنين يحرمن على رجالهم بل هن حلال للمسلمين باتفاق المسلمين.
(3)
وأجيب: بأن جابر بن زيد وغيره قد كرهوه للقطيعة، ولم يكن فيه تحريم لقول الله عز وجل:{وَأُحِلُّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [سورة النساء: 24].
(4)
(1)
ينظر: الميداني: المصدر السابق، (4/ 78). ابن القيم: المصدر السابق، (5/ 557).
(2)
ينظر: عبد الرزاق: المصدر السابق، (6/ 264). البخاري: المصدر السابق، (7/ 29)؛ معلقًا. الزيلعي: المصدر السابق، (3/ 176).
(3)
ينظر: ابن القيم: المصدر السابق، (5/ 557 - 561).
(4)
ينظر: ابن القيم: المصدر السابق، (5/ 559).
ب- إن الصهر قسيم النسب وشقيقه، قال الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مَنَ الماءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [سورة الفرقان: 54]، فالعلاقة بين الناس بالنسب والصهر، وهما سببا التحريم، والرضاع فرع على النسب، ولا تعقل المصاهرة إلا بين الأنساب.
(1)
ج- إن الله تعالى إنما حرم الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها؛ لئلا يفضي إلى قطيعة الرحم المحرمة، ومعلوم أن الأختين من الرضاع ليس بينهما رحم محرمة في غير النكاح، ولا ترتب على ما بينهما من أخوة الرضاع حكم قط غير تحريم أحدهما على الآخر؛ فلا يعتق عليه بالملك، ولا يرثه، ولا يستحق النفقة عليه، ولا يثبت له عليه ولاية النكاح ولا الموت، ولا يعقل عنه، ولا يدخل في الوصية والوقف على أقاربه وذوي رحمه، ولا يحرم التفريق بين الأم وولدها الصغير من الرضاعة، ويحرم من النسب، والتفريق بينهما في الملك كالجمع بينهما في النكاح سواء، ولو ملك شيئًا من المحرمات بالرضاع لم يعتق عليه بالملك.
(2)
د ــ قال الله تعالى في المحرمات: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصلَابِكُمْ} [سورة النساء: 23]، ومعلوم أن لفظ الابن إذا أطلق لم يدخل فيه ابن الرضاع؛ فكيف إذا قيد بكونه ابنَ صلب، وقصد إخراج ابن التبني بهذا لا يمنع إخراج ابن الرضاع.
(3)
وأجيب عنه: بأن هذا القيد إنما كان لإسقاط اعتبار التبني وإبطاله
(4)
، وبأن امرأة الابن من الرضاع تحرم بالإجماع كما تحرم امرأة الابن الصلبي.
(5)
وعامة ما في مناقشاتهم واستدلالاتهم لا يخرج من معقول يخالف صريح المنقول، أو منقول
(6)
- وما في حكمه - يخالفه منقول أخص، فاستبان ترجُّحُ قولِ الجمهور في هذا.
ولعل من أسباب الخلاف في مسألة حرمة نظير المصاهرة بالرضاع؛ ما يأتي:
(1)
ينظر: ابن القيم: المصدر السابق، (5/ 558).
(2)
ينظر: ابن القيم: المصدر السابق، (5/ 558).
(3)
ينظر: الميداني: المصدر السابق، (4/ 79). ابن القيم: المصدر السابق، (5/ 560).
(4)
ينظر: الميداني: المصدر السابق، (4/ 79).
(5)
ينظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (5/ 116).
(6)
مثل قول الحق تعالى: {وَأُحِلُّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [سورة النساء: 24].
ينظر: ابن القيم: المصدر السابق، (5/ 562).
1 -
المعتبر في دليل الخطاب؛ فمن لم يحتج بمفهوم المخالفة - وهم أكثر الحنفية -؛ لم يروا في قوله تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصلَابِكُمْ} [سورة النساء: 23] ما يدل على حل نكاح زوجة الابن من الرضاع، ومن احتج به في بعض الصور دون الجميع - وهو قول طائفة؛ كتقي الدين ابن تيمية -؛ أمكنه أن لا يعَدِّي مفهوم المخالفة في الآية الكريمة إلى غير أبناء التبني، ومن احتج بعموم جميع مفاهيم المخالفة - وهم الجمهور؛ في غير مفهوم اللقب -؛ فأصوله تحمله على القول بحل حلائل الأبناء سوى أبناء الصلب.
(1)
ولقائل أن يقول: إذا كان الجمهور يعتبرون مفهوم المخالفة حجةً؛ فما بالهم أغفلوا مفهوم المخالفة من الآية، وحرَّموا حلائل أبنائنا الذين من أصلابنا وحلائلَ أبنائنا من الرضاعة، مع كون الآية نصت على حلائل أبناء الصلب، ومقتضى مفهوم المخالفة الذي يحتجون بعمومه حلُّ زوجاتِ الأبناء من الرضاعة؟
والجواب: إن شروط الاحتجاج بمفهوم المخالفة عندهم لم تتوافر في هذا النص، وذلك أن تخصيص الأبناء ذوي الحليلات بوصف الصلبية جرى مجرى الغالب، وحينذاك لا يحتج به؛ إذ الغالب كون الابن صلبيًّا، ومن الذي يكون له ابن من الرضاع إذا ما قورن بمن له ابن من النسب والصلب؟ .
(2)
فإن قيل: فما معنى قول الحق جل ذكره: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [سورة النساء: 24]، بعد قوله سبحانه في بيان من يحرم نكاحهن:{وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصلَابِكُمْ} [سورة النساء: 23]، إلا أن تكون حلائل أبناء غير الصلب مما أحل بنص الآية؟
كان الجواب: إن الله تبارك وتعالى لما ذكر في الآية التي بين فيها المحرمات من ذكر؛ اقتصر على من هو محرم بكل حال؛ مثل: الأم، والأخت، والعمة، والخالة
…
، حتى ذكر حليلة ابنه الصلبي، وهي من تحرم عليه بالاتفاق ولو طلقها الابن، فأما من لم يحرم نكاحه بإطلاق؛ كأخت الزوجة، أو عمتها، أو الأجنبية الخامسة؛ فلم يكن هذا محلها؛ لأن نكاحها ليس
(1)
ينظر: الخبازي: المغني (ص 164 - 168). ابن القصار: المقدمة في الأصول (ص 81). الشافعي: الرسالة (ص 272 - 274). ابن قاسم: مجموع فتاوى ابن تيمية (20/ 520). د. عبد الله آل مغيرة: دلالات الألفاظ عند شيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 608 - 612).
(2)
ينظر: الشوكاني: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (ص 596). أ. د. عياض السلمي: أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (ص 384 - 386).