الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
المقاصد الشرعية لأحكام الرضاع في الفقه الإسلامي
من أعظم الطرق التي يعرف بها كمال الشريعة، وأنها مشتملة على مصالح العباد في دينهم ودنياهم ومعاشهم ومعادهم؛ معرفة مقاصد الشارع، والصفات التي رتب عليها الأحكام الكلية والجزئية، ومعرفة الحكم والأسرار في العبادات والمعاملات والحقوق وتوابع ذلك، فكلما كان العبد بذلك أعرف؛ علم بذلك من جلالة الشريعة الإسلامية وهيمنتها وشمولها للخيرات والبركات والعدل والإحسان، ونهيها عن كل ما ينافي ذلك أو يضاده.
(1)
ومقاصد الشرع هي المعاني والأهداف الملحوظة للشرع في جميع أحكامه أو معظمها، وهي الغاية التي من أجلها وضعت أحكام الشريعة.
وقد ثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا
(2)
؛ إما بجلب النفع لهم، أو دفع الضرر والفساد عنهم.
ولذلك كان نظر الفقيه حقًّا والعالم صدقًا في نصوص الشريعة بمجموع اللفظ؛ تسوقه المقاصد اللغوية بسوابقها ولواحقها، وتحكمه المقاصد الشرعية كلية أو جزئية.
(3)
وبالنظر إلى ما جاءت به شريعة الله في عباده؛ نجد إقرارها لنظام العائلة، ودرء أسباب الخصومات، حتى ألحقت آصرة الرضاع بآصرة النسب، وأُنزلت منزلتها؛ بتنزيل المرضعة منزلة الأم، وتنزيل الرضيع منزلة الأخ.
وإذا كنا بصدد باب الرضاع في الفقه الإسلامي؛ فإن المقصد الشرعي من تحريم النكاح - وفق ما يسع به الاجتهاد والنظر - مختلف بحسب اختلاف أنواع المحرّمات، وهي ثمانية:
1 -
المحرّمات من النسب الذين يحرم نظيرهم بالرضاع؛ كالأمهات والبنات، فالمقصد من تحريم الأمهات صيانتهن عن الوطءُ؛ لأنّه إذلال وإهانة. وإذا أوجب الرحمن الإحسان إليهن وصونَهن، فَلِأنّ إنعامهن على أولادهن كان أعظمَ وجوه الإنعام، فوجب صرف الأمهات عن هذا الإذلال. وأما البنات؛ فلأن البنت جزء من الإنسان وبعض منه، فيجب صونها عن الإذلال؛ لأن المباشرة لها تجري مجرى الإذلال.
وإلى جانب ذلك، فإنه إذا كان معظم القصد من النكاح الاستمتاع، فكانت مخالطة الزوجين غير خالية من نبذ الحياء، وذلك ينافي ما تقتضيه القرابة من الوقار لأحد الجانبين والاحتشام لكليهما، وهو ظاهر في أصول الشخص وفروعه وفي صنوان أصوله؛ من عمة، أو خالة.
(1)
ابن سعدي: مجموع الفوائد واقتناص الأوابد ضمن مجموع مؤلفات السعدي (21/ 227).
(2)
الشاطبي: المصدر السابق، (2/ 9).
(3)
ينظر: عابد السفياني: الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية (ص 320).
وإكساء آصرة القرابة إهاب الحرمة والوقار ناشئ عن قداستها في الشريعة، وهذا ظاهر حين ترى تقرير الشريعة لمعنى المحرمية، بحيث يملؤها الوقار والحب الذي لا يخالطه شيء من معنى اللهو والشهوة.
2 -
المحرمات بالمصاهرة وبالجمع الذين يحرم نظيرهم بالرضاع، وهي ملحقة بمحرّمات النسب؛ كحلائل الأبناء، ونساء الآباء، وزوج الأم الرضاعية الذي لم يثب اللبن منه، وأم الزوجة وأبيها الرضاعيَّين، والجمع بين الأختين، والمرأة وعمتها أو خالتها.
والمقصد من تحريم ما تقدم: دفع ما يعرض من شقاق يفضي إلى قطع الرحم، وفي النوع الأول يسري وقار الآباء إلى أخواتهم - وهن العمات -، ووقار الأمهات إلى أخواتهن - وهن الخالات-؛ حيث نُزِّلت آصرة الرضاع منزلة النسب.
ويرجع تحريم هؤلاء إلى قاعدة المروءة التابعة لكلية حفظ العرض من قسم المناسب الضروري، وذلك من أوائل مظاهر الرقي البشري.
3 -
المحرّمات لأجل حق الغير، والمقصد فيها ظاهر.
4 -
…
الملاعنة، وذلك لأجل ما جرى بين الزوجين بسببها؛ حيث يتعذَّر بعده طيبة النفس بحُسن المعاشرة بينهما.
5 -
ما كان من المحرمات رعاية لحق الله؛ مثل: المطلقة ثلاثًا على من طلقها، ومثل حرمة تعدّد الأزواج للمرأة الواحدة، وإباحة تعدّد الزوجات للرجل إلى حدّ معيّن.
(1)
ومن مقاصد الشريعة الكلية في أبواب النكاح: المحافظة على النسب، ودرء أسباب الريبة والفتنة؛ حيث اعتنت ببيان المحرمات في النكاح في مثل آية النساء، ومنهن القريبات من الرضاعة؛ الأمر الذي حدا بطائفة من الفقهاء إلى الإفتاء بحرمة التعامل مع بنوك الحليب التي تؤدي إلى الاختلاط والشك، سدًّا منهم للذريعة، وأخذًا بالحيطة والحذر، وبخاصة أن البلوى
(1)
ينظر: الرازي: مفاتيح الغيب (10/ 24). الطاهر ابن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية (ص 181 - 183)، التحرير والتنوير (4/ 295 - 296).
لم تعم بها في الأمة الإسلامية
(1)
، ، ومما يعين على تحقيق ذلك والاحتياط في هذا الباب: توثيق الرضاع في سجلات رسمية
(2)
.
ومن مقاصد الشريعة في باب الرضاع: حفظ حق الطفل الرضيع في رضاعه حتى يستغني بالطعام عن الرضاع، وعمدت في سبيل حماية هذا الحق إلى إيجاب الرضاع على أم المولود، وأناطت النفقة أو الأجرة على الأب إن كانت زوجته المولود لها مفارَقة، وعلى الواررث مثل ذلك، وحذرت من المضارة؛ لتصان نفس الصبي عن الهلاك، وتقوى طبيعة بدنه؛ قال الحق العليم تعالى:{وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى المَوْلُوْدِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوْفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلِدِهَا وَلَا مَوْلُوْدٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [سورة البقرة: 233]، وقال:{وَإِنْ كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوْا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فِإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوْهُنَّ أُجُوْرَهُنَّ وَأْتَمِرُوْا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوْفٍ} [سورة الطلاق: 6].
وحيث كان مقصود الشريعة طلب نفع الرضيع المولود وتحقيق مصلحته؛ جاز فطامه دون الحولين إذا كان ثم تراضٍ من الوالدين وتشاور مع انتفاء إرادة الإضرار؛ لأن تلك الشروط مظنة تحقيق المصلحة الراجحة للرضيع ودرء ما يضر به، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، والدليل على ذلك قول الله تعالى:{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [سورة البقرة: 233]، ودليل مراعاة ضرر الرضيع قول الله تعالى:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلِدِهَا وَلَا مَوْلُوْدٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [سورة البقرة: 233].
(3)
فأما إن أراد أحد الأبوين الفصال - أي: الفطام - دون الآخر، أو كان في الفصال ضرر على الرضيع؛ من مرض، أو ضعف بنية، أو كونه لا يقبل الطعام؛ وجب إتمام الرضاعة.
(4)
(1)
قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي (ص 16). مجلة مجمع الفقه الإسلامي (ع 2 - 1/ 421). محمد التويجري: موسوعة الفقه الإسلامي (4/ 265). د. الكحلاوي: بنوك اللبن (ص 90).
(2)
سيأتي مزيد تفصيل لهذه القضية في المطلب الخامس من مطالب المبحث الثالث في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.
(3)
ينظر: عبد الرزاق: المصدر السابق، (7/ 57 - 58). ابن حزم: المصدر السابق، (10/ 435).
(4)
ينظر: ابن عابدين: المصدر السابق، (5/ 348). القرافي: المصدر السابق، (4/ 271). ابن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن (23/ 65). ابن حزم: المصدر السابق، (10/ 430، 435، 436). ابن قدامة: المصدر السابق، (8/ 73).