الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثامنًا: الاستدلال على سقوط حق أم الولد في رضاع ولدها متى باعها سيُّدها أو وهبَها أو زوجها:
1 -
إن حضانتها سقطت، وعلى هذا سقط حقها من الرضاع.
(1)
- الترجيح: قد تبين مما تقدم أن عامة العلماء يوجبون إرضاع الطفل؛ لكن يختلفون فيمن يعلق عليه حكم الوجوب؛ هل هو أبو
(2)
المولود أو أمه؟ ومن أوجبها على الأم اختلفوا في القدر الواجب؛ هل هو مقصور على اللبأ أو إذا خشي هلاكه أو امتنع عن المراضع وما عدا ذلك فوجوب الرضاع مناط بأبي المولود؟ أو حتى يستغني عن الرضاع بتمام الحولين أو قبيلهما إن كان الفطام عن مشورة وثم تراضٍ من أم المولود وأبيه؟ واختلفوا فيما يقابل ذلك على أبي الرضيع؛ هل هو النفقة المعتادة أو أجرة بعقد؟
والحق الذي يجب المصير إليه من الأقوال: إيجاب رضاع المولود على المولود لها ما قدرت على ذلك، ولو قصَّر أبو المولود في النفقة؛ لأن التقصير في النفقة على المرضع ممن أسندت إليه، لا يبيح لها التقصير فيما أوجب الله عليها، ولأن "المرأة في بيت زوجها راعية، ومسؤولة عن رعيتها" رواه البخاري
(3)
، ولو لم يكن الرضاع واجبًا على المولود لها ما هم النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الغيلة - يعني: مجامعة المرضع - لولا ما رأى من الدليل الواقعي المحسوس عند الروم وفارس أنها - أي: الغيلة - لا تضر أولادهم في الرضاع من أمهاتهم
(4)
، ولأنه إذا تقرر أنه ليس للمتربصة في عدتها بطلاق رجعي تركُ الاعتداد إذا لم يلتزم زوجها بالنفقة، بل يجب عليها المضي في ذلك حتى يقضي الكتاب أجله، فهكذا ليكن على المرضعة إرضاع صبيها ولو لم تكن ثم نفقة.
(1)
ينظر: البهوتي: المصدر السابق، (3/ 243).
(2)
لا تحذف العلامة الإعرابية الحرفية (الواو) إلا عند النطق؛ لالتقاء الساكنين.
(3)
ينظر: البخاري: المصدر السابق، (كتاب الوصايا وغيره - باب تأويل الله تعالى {من بعد وصية توصون بها أو دين} - 4/ 14)، برقم (2768)؛ من طرق، بألفاظ مقاربة.
(4)
مسلم: المصدر السابق، (كتاب النكاح وإجابة الداعي - باب في الغيلة والعزل - 4/ 69)، برقم (1464)؛ من طريق خلف بن هشام، ويحيى بن يحيى - واللفظ له -؛ عن مالك بن أنس، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة، عن جدامة بنت وهب الأسدية؛ أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لقد هممت أن أنهى عن الغيلة؛ حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك، فلا يضر أولادهم".
ولا ينقضي إيجاب الرضاعة على أم المولود حتى يبلغ الرضيع الحولين أو يستغني بالطعام عن الرضاع، فإذا استغنى بالطعام عن الرضاع يحيث لا يشبعه الحليب وحده؛ لم يجب الإرضاع عل الأم، ولا رضاع يحرِّم حالتئذ بعد فصال.
وحيث كان مقصود الشريعة طلب نفع الرضيع المولود وتحقيق مصلحته؛ جاز فطامه دون الحولين إذا كان ثم تراضٍ من الوالدين وتشاور مع انتفاء إرادة الإضرار؛ لأن تلك الشروط مظنة تحقيق المصلحة الراجحة للرضيع ودرء ما يضر به، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، والدليل على ذلك قول الله تعالى:{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [سورة البقرة: 233]، ودليل مراعاة ضرر الرضيع قول الله تعالى:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلِدِهَا وَلَا مَوْلُوْدٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [سورة البقرة: 233].
(1)
فإن تواطأ الوالدان على رأي يرضون به، مع ما يكون في ذلك من السؤال والمشورة والنظر في حال الطفل؛ يغلب معه تحقق مصلحة المولود، من دون أن تزيغ نفس أحد الوالدين بهوى نفساني أو وسواس شيطاني، ومن دون أن يكون ذلك ارتجالًا منهما من دون إعمال فكر أو اسخبار بشورى.
فأما إن أراد أحد الأبوين الفصال - أي: الفطام - دون الآخر، أو كان في الفصال ضرر على الرضيع؛ من مرض، أو ضعف بنية، أو كونه لا يقبل الطعام؛ وجب إتمام الرضاعة.
(2)
وللمولود لها على المولود له النفقة الواجبة المعتادة في حال الرضاع وغيره؛ لقول الله تعالى: {وَعَلَى المَوْلُوْدِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوْفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة البقرة: 233]
(3)
، ولو نقص الاستمتاع بها؛ لأن هذا أمر جِبِلِّي؛ فهل تسقط النفقة إذا كانت حائضًا لنقص الاستمتاع بها حينئذ؟ ، ولو كانت لها أجرة زائدة على نفقتها مقابل الرضاع لبينت الشريعة دليل هذه الدعوى، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [سورة مريم: 64]، اللهم إلا أن تكون مطلقةً ثلاثًا، أو أتمت عدة الطلاق الرجعي بوضع المولود؛ فلها أجرها على رضاعها ما وُلد له
(1)
ينظر: عبد الرزاق: المصدر السابق، (7/ 57 - 58). ابن حزم: المصدر السابق، (10/ 435).
(2)
ينظر: ابن حزم: المصدر السابق، (10/ 435).
(3)
ينظر: ابن حزم: المصدر السابق، (10/ 430، 436).
منها؛ لقول الله تعالى: {فِإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوْهُنَّ أُجُوْرَهُنَّ} [سورة الطلاق: 6]
(1)
، وذلك مقتضى الحاجة الداعية إلى الاسترضاع حين كان الطفل لا يعيش في العادة إلا بالرضاع، مع عدم النفقة اللازمة لأم المولود؛ لأنها لم تعد زوجة له، والإجماع منعقد على جواز استئجار الظئر
(2)
، ومن هنا كان عامة كلام الفقهاء في المسألة فيما إذا كانت مطلقة، وربما أغفلوا التصريح بحكمه عليها في حال عصمتها، وكأن رضاعها أبناءَها من زوجها أمر مسلم وظاهر، فلما كانت المرضع المطلقة مظنة الإضرار بمطلقها في ابنه، جاءت فريضة الله في ذلك بإناطة الرضاع بالوالدات بعد آيات المطلقات تذكيرًا بأداء هذه الأمانة، ثم بين الله تعالى في سورة الطلاق ما يجب في مقابل ذلك على أب الرضيع من الأجر، كما لو كانت في عصمته وله عليها النفقة.
والواقع أنه لو قيل بوجوب النفقة على زوجته المرضعة بقدر ما تحتاجه المرضعة وما تزيد به عن غيرها من زيادة الغذاء إزاء إرضاعها؛ لم يكن هناك فرق عملي فيما ستتقاضاه من الزوج فترة رضاعها؛ لأن من يقول بأجرة الرضاع للزوجة أمِّ المولود يرى أنه لا يزاد في نفقة الزوجة للإرضاع، وإن احتاجت فيه إلى زيادة الغذاء، وأنها إذا أخذت الأجرة سقطت نفقتها إن نقص الاستمتاع.
وكتاب الله تعالى في هذا صريح، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على هذا شاهدة، ولو لم يكن الأمر كذلك؛ لكانت قواعد الشريعة وعموماته قاضية بذلك وكافية في إلزام الوالدة بإرضاع مولودها؛ في مثل قول البارئ تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة: 2]
(3)
، والأمر بالرحمة في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من لا يَرحم لا يُرحم" متفق عليه
(4)
، حتى سقطت عن المرضع فريضة الصوم وهي ركن في الإسلام إذا خافت على رضيعها، ومن ذلك: الحكم على من قتل ولده سفهًا بالخسران {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة الأنعام: 140]
(5)
، وحرمانه من الرضاع مع حاجته قتل له، ومن ذلك قول الله تعالى عمن سلكوا سقرَ:{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [سورة المدثر: 44]، وفيمن أوتي كتابه بشماله:{وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [سورة الحاقة: 34]، وفيما ذم به الإنسان:{وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [سورة الفجر: 18]، وفي المقابل وصف عباده الأبرار بأنهم {يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [سورة الإنسان: 8]
(6)
، والرضيع مسكين مستضعف، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من تمام الإيمان، فقال:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" متفق عليه
(7)
، وعدم إرضاع المولود بما خلق الله في الثدي من الحليب لؤم ظاهر وشح مذموم، على ما في حبسه من أضرار تتعدى إلى أم المولود؛ كتأخر انقباض رحمها وعودته سريعًا إلى حجمه الطبعي، وتعرضها للإصابة بسرطان الثدي والمبيض، وغير ذلك
(8)
؛ مما يوجب عليها أن تدفعه عن نفسها بإرضاع مولودها؛ لأن الضرر يزال
(9)
.
فإذا كان الله خلق في المولود لها لبنًا؛ فأي حكمة من إيجاده، وأي معنى من تكوينه؛ إن حرمت مولودها منه ولم تحفظ عليه نفسه بما أودع الله في صدرها؟ ، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنين: 14].
(1)
ينظر: ابن جرير: المصدر السابق، (23/ 65). ابن حزم: المصدر السابق، (10/ 436). القرافي: المصدر السابق، (4/ 271).
(2)
ينظر: ابن قدامة: المصدر السابق، (8/ 73).
(3)
ينظر: ابن جرير: المصدر السابق، (8/ 52). ابن حزم: المصدر السابق، (10/ 434).
(4)
تقدم تخريجه في الفرع الثاني من المطلب الثالث للمبحث الأول في الفصل الأول.
(5)
ينظر: ابن حزم: المصدر السابق، (6/ 310).
(6)
ينظر: ابن جرير: المصدر السابق، (23/ 239، 451، 543).
(7)
البخاري: المصدر السابق، (كتاب الإيمان - باب من الإيمان أن يجب لأخيه ما يحب لنفسه - 1/ 198)، برقم (13)؛ من طريق مسدد، عن يحيى، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس؛ به مرفوعًا. مسلم: المصدر السابق، (كتاب الإيمان - باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه - 1/ 398)، برقم (37)؛ من طريق محمد بن مثنى، وابن بشار؛ عن محمد بن جعفر، عن شعبة؛ بسنده عند البخاري؛ إلا أن شكًّا وقع في لفظة:"لأخيه" مع (لجاره).
(8)
ينظر: د. جاسمية شمس الدين: الرضاعة في ضوء الطب والشرع ضمن مجلة كلية الشريعة والقانون بدمنهور (21/ 34). صلاح عبد التواب: الرضاعة الطبيعية والصحة الإنجابية (ص 466). د. عبلة الكحلاوي: المصدر السابق، (ص 89). أ. د. محمد البار: بنوك الحليب دراسة طبية فقهية (ص 80 - 84). د. إسماعيل مرحبا: البنوك الطبية البشرية وأحكامها الفقهية (ص 328 - 330).
(9)
ينظر: ابن نجيم: الأشباه والنظائر (ص 73 وما بعدها).
وأما من لم يوجب على الأم الرضاع مطلقًا، أو لا يوجبه إلا بقيد أو بأجرة تزيد على النفقة وهي في عصمته؛ فيقال لهم: لماذا حرمتم امتناع أم المولود على الحمل وموجِبِه؟ ولماذا لم تساووا تعب الرضاعة بالحمل فيكون للحمل أجرة وهي عصمته كالرضاعة؟ ولماذا لم تبيحوا لها أن تجهض الجنين الحي إذا لم يكن لها نفقة؟
فإن قلتم: إن الرضاعة ممكنة من غيرها؛ فلم يتعين عليها، بخلاف الحمل.
أجيب: بأن الحضانة ممكنة من غيرها؛ فهل يجوز شرعًا أن تتركه لغيرها مع استيفائها الشروط؟
وإن قيل: أفإن جاء من يرضع ابنها من المراضع لتكون له أمًّا وما أشبه ذلك؛ أفتأثم الأم؟
أجيب: بأن شأن الأم مع صبيها في الرضاع كشأنها مع زوجها في النفقة؛ أفإن طعمت عند جارتها أثِم زوجها؛ لقول الله تعالى: {فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [سورة الطلاق: 7]؟
فالجواب: لا؛ لكن يلزمه نفقتها في الأصل، ويجبر على ذلك عند النزاع، وعليه أن لا يحوجها إلى غيره، فأما ما جاء اتفاقًا، أو كان لمصحلة راجحة، أو عذر معتبر؛ فإنه لا ينبغي أن ينتظم منه كلي يعود على الأصل الكلي بالنقض أو الإبطال.
فحيث أراد الشارع أن لا يترك الرضيع خليًّا أسند الحكم إلى أصل وجعله على عاتقه، ولا يضر بعد ذلك ما تفرع منه؛ لأن المقصود لذاته هو الحليب المرتضَع، ثم أسند إلى زوجها وولي رضيعها ما يعين على ذلك ويكمله، وهو النفقة بالمعروف.
وقد أذن الله في الفطام إذا كان ذلك عن نظر وتشاور ورضى؛ لأنه مظنة مصلحة المولود، وكذلك فليكن استرضاعه من غير والدته، بل هو من باب أولى؛ كما إذا ماتت والدته، أو مرضت، أو أضر به لبنها، أو كانت لا لبن لها.
(1)
ثم إن الكلام هنا جارٍ على الأصل في حكم المسألة، وأما ما يعرض لها من صور وجزئيات ومستثنيات فخارج عن التقرير الحُكمي الأصلي؛ لأن أصل تقرير الفقهاء لأحكام المسائل مبني على الأحوال الظاهرة والمعتادة، وأمّا ما ينتابها من العوارض؛ فلا يلزم الفقيه أن يقيد بها تصريحًا؛ لأنها غير متناهية، والانخراط في مثل هذا آل بقوم أن قالوا حكم القيام على المصلي: الصحيح أنَّ القيام ركنٌ إن قدر عليه، وليس بركن إن لم يقدر عليه! ولو أجري الخلاف بهذه
(1)
ينظر: ابن حزم: المصدر السابق، (10/ 431).
الطريقة لقلّبنا المسألة تقليبًا لا وجه له ولا معنى، وإذا ذكر الفقهاء في فتاويهم بعض العوارض في المسائل فربما تُوُهِّم أنها قولٌ جديد في المسألة، وليس الأمر كذلك، وإنما يحوج إليها لأنه يذكرها غالبًا في الفتوى لعوام المسلمين وقد يخفى عليهم مثل ذلك.
(1)
وقد نبه إليه تقي الدين ابن تيمية في قوله: مِن فصيح الكلامِ وجيِّدِه الإطلاقُ والتعميمُ عند ظهور قصد التخصيص والتقييد، وعلى هذه الطريقة الخطابُ الواردُ في الكتاب والسنة وكلام العلماء؛ بل وكلِّ كلامٍ فصيح، بل وجميع كلام الأمم؛ فإن التعرُّضَ عند كلِّ مسألةٍ لقيودها وشروطها تَعَجْرُف وتكلُّف، وخروج عن سَنَن البيان، وإضاعةٌ للمقصود، وهو يُعَكِّر على مقصود البيان بالعكس؛ فإنه إذا قيل: تجب الزكاة في الحُليِّ، فقال: إن كان لامرأةٍ مسلمة ليس عليها دين حالٌّ لآدمي يُنْقِصُ زكاةَ المال عن أن يكون نصابًا، وحالَ عليه حولٌ لم يخرج عن ملكها ويدُها ثابتةٌ عليه؛ وجَبَتْ فيه الزكاة = كان ذلك لُكْنَةً وعِيًّا ا. هـ
(2)
وإن من العجب تصريح بعض من ينتمي إلى الفقه في الدين أن الأم لو تركت رضيعها حتى يموت مع قدرتها على إرضاعه ما ضمنت، لكن من المعلوم أن الأقوال الشاذة يكفي ظهور سقوطها عن إسقاطها؛ فكيف إذا أنبأ ظاهر التنزيل عن فسادها؟ ، والكلام إذا تناهى في الفساد كان الاعتراض عليه أعسر.
(3)
- ثمرة الخلاف: ترتب على الخلاف في هذه المسألة أثر في الفروع الآتية:
1 -
نزع الرضيع من أمه؛ فمن أوجب الرضاع على الأم؛ لم ير للزوج أو غيره أن ينزع الرضيع من أمه على ما يقتضيه التخريج، ومن لم يوجبه على الأم مطلقًا أو أوجبه بأجرة أو بقيد؛ لم ير مانعًا من نزع الزوجِ الرضيعَ عن أمه إذا كان ثم متبرعة، وعلى ذلك نص بعض فقهاء الشافعية
(4)
، وهو مقتضى قول من وافقهم.
2 -
ميقات حد الرجم والقصاص للمرضع، فإن الإجماع وإن حكي في الحامل أنه لا يقتص منها حتى تضع
(5)
؛ إلا أنهم اختلفوا في إمهالها حتى تفطمه؛ فمن رأى الرضاع على
(1)
نقلته بمعناه من أخي الشيخ تميم السلوم عن معالي الشيخ د. يوسف الغفيص؛ سماعًا منه.
(2)
تقي الدين ابن تيمية: تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل (332 - 333).
(3)
ينظر: ابن جرير: المصدر السابق، (8/ 721).
(4)
ينظر: الجمل: المصدر السابق، (4/ 514).
(5)
ينظر: أبو العباس القرطبي: المصدر السابق، (5/ 96 - 97). النووي: شرح صحيح مسلم (11/ 210).
الأم واجبًا مطلقًا؛ فالتخريج يقتضي أن يراعى حق الآدمي في الإرضاع أوَّلًا، ومن رآه واجبًا بقيد - وهم الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، مع اختلاف قيوداتهم -؛ راعى حق الله في الحد عند اندفاع الضرر عن الرضيع بأقرب وسيلة؛ فقال الحنفية: إن كان حدها الرجم رجمت من حين وضعت؛ إلا إذا لم يكن للمولود من يربيه، حتى يستغني
(1)
، وقال مالك: إن أصابوا للصبي من يرضعه؛ أقيم عليها الحد ولم تؤخر، وإن لم يصيبوا للصبي من يرضعه؛ لم يعجل عليها حتى ترضع ولدها؛ لأنه لم يكف عنها في إقامة الحد وهي حامل إلا لمكان الصبي، وتركه بلا رضاع بعد الولادة قتل له
(2)
، وقال الشافعية: لا يقتص منها بعد وضعها حتى تسقي ولدها اللبأ ويستغني عنه بلبن غيرها، ولا ترجم حتى تجد من ترضعه؛ فإن لم تجد؛ أرضعته حتى تفطمه، ثم رجمت
(3)
، وقال الحنابلة: إن كان الحد رجمًا، أو وجب القود؛ لم ترجم ولم تُقَد حتى تسقيه اللبأ، ثم ترجم أو تستقاد؛ إن كان له من يرضعه ولو من لبن شاة، أو تكفل أحد برضاعه؛ لأنه لا ضرر على المولود حينئذ، وإلا؛ تركت حتى تفطمه؛ ليزول عنه الضرر
(4)
، وهذا يوافق مآل من قال بالوجوب المطلق، وهو مما يضعف قول من أوجبه بقيد، أو لم يوجبه؛ حيث الاضطراب فيما يتأثر عن قولهم من الأحكام.
3 -
التبرع إلى بنوك الحليب؛ فمن أوجب الرضاع على المولود لها مطلقًا؛ فمقتضى قوله أنه لا يجوز لها دفع لبنها إلى بنوك الحليب وهو لا يكفي حاجة مولودها، ومن لم يوجب الرضاع على المولود لها أو أوجبه بقيد أو بأجرة؛ فالتخريج يقتضى جواز دفع لبنها إلى البنوك إذا اختل شرط الوجوب أو لم يتوافر قيده - عند من أوجبه بقيد أو أجره -، ونص بعضهم على صور مستثناة؛ كما لو خشي تلف الرضيع، أو لم يقبل غيرها.
(1)
ينظر: ابن عابدين: المصدر السابق، (6/ 21 - 22).
(2)
سحنون: المصدر السابق، (16/ 50). وقد نسب إلى مالك أبو العباس القرطبي قوله: إذا وضعت رُجمت، ولم يُنتظر بها إلى أن تكفل ولدها ا. هـ، ثم نَسب هذا القيل إلى أبي حنيفة أيضًا والشافعي في أحد قوليه، وأردف بعد ذلك بأن لمالك قولًا آخر هو المشهور من قوله وقول الشافعي وأحمد وإسحاق، وهو كالذي نقل سحنون.
ينظر: أبو العباس القرطبي: المصدر السابق، (5/ 97).
(3)
النووي: المصدر السابق، (11/ 210، 211).
(4)
ينظر: البهوتي: المصدر السابق، (13/ 274 - 275، 14/ 23).
4 -
تناول موانع در الحليب؛ فمن أوجب الرضاع على المولود لها؛ لم يجز لها أن تتناول ما يمنعه؛ لأنه في مقام الامتناع عن الإرضاع، وما لا يتم أداء الواجب إلا بتركه؛ فهو محرم
(1)
، ومن لم يوجب الرضاع؛ لم يمانع في تناولها تخريجًا على قوله؛ ومن أوجبه بقيد؛ ليتخرج من قوله أنه لا يمانع بتناولها إذا لم يتحقق قيد الإيجاب عنده.
- سبب الخلاف: يعود سبب الخلاف هنا إلى الخلاف في مسائل أخرى، منها:
1 -
التلازم بين الإرضاع والحضانة؛ هل يلزم أحدُهما الآخر منهما؟
فمن أدخل الرضاع في الحضانة عند إطلاقها بحيث يلزم المستأجرةَ للحضانةِ الرضاعُ - وهم الحنفية
(2)
والحنابلة في وجه
(3)
-؛ أوجب على أم الرضيع إرضاعه ولو لم تكن ثمَّ أجرة؛ لأنه ليس للحضانة أجرة خاصة، وإنما هي النفقة العامة، المقدرة بقدرها العرفي في كل حين، ومن رأى أنه لا تلازم بين المفهومين - الإرضاع والحضانة - بحيث لا يدخل الرضاع في مفهوم الحضانة عند إطلاقه - وهو ما صرح به الشافعية
(4)
والحنابلة
(5)
-؛ لم يروا من الرضاع واجبًا على الأم كسائر ما يدخل في الحضانة؛ من تربية الصبي وحفظه، وجعله في سريره وربطه، ودهنه وكحله، وتنظيفه، وغسل خرقه، وأشباه ذلك، بل عدوه منفصلًا، ولذلك نص طائفة منهم على أن لا مانع من نزع المولود من والدته إذا وجد الزوج من يتبرع بإرضاعه، ويعاد إليها للحضانة.
والتحقيق أن الرضاع يدخل في مفهوم الحضانة دخولًا أوليًا؛ إذا كان المحضون رضيعًا؛ لأنه إذا أمكنه الاستغناء عن الربط والدهن وجعله في السرير وغير ذلك من معاني الحضن، فإنه لا يعيش إلا بالرضاع في العادة، والحضانة مشتقة من الحضن، وهو ما تحت الإبط وما يليه، وسميت التربية حضانة تجوُّزًا؛ من حضانة الطير لبيضِه وفراخه حين يجعلها تحت جناحيه
(6)
؛ هذا في العرف الشرعي الموافق للوضع اللغوي، فأما إن تعذر الرضاع على الأم ووقع عقد
(1)
ينظر: ابن النجار الفتوحي: شرح الكوكب المنير (ص 314، 316).
(2)
ينظر: ابن قدامة: المصدر السابق، (8/ 73).
(3)
ينظر: المرداوي: تصحيح الفروع (7/ 148).
(4)
ينظر: الشربيني: المصدر السابق، (2/ 443 - 444). الجمل: المصدر السابق، (4/ 514).
(5)
ينظر: ابن قدامة: المصدر السابق، (8/ 73). المرداوي: المصدر السابق، (7/ 148).
(6)
ينظر: ابن قدامة: المصدر السابق، (8/ 73).
الإجارة مع حاضنة، واقتضى العرف عند إطلاق الحضانة عدم دخول الرضاع؛ حكِّم العرف، ووجب على الأب استرضاعه؛ قال المرداوي ت 885 هـ: الصواب في ذلك - يعني: عقد الإجارة إذا وقع على الرضاع أو على الحضانة؛ هل يقتضي أحدهما الآخر -: الرجوع إلى العرف والعادة؛ فيعمل بها ا. هـ
(1)
2 -
استئجار الزوجة؛ هل للزوج أن يستأجر زوجته لإرضاع ولده؟
فمن قال بالجواز - وهم الشافعية في وجه؛ صححه النووي
(2)
، والحنابلة على الصحيح من مذهب أحمد
(3)
-؛ ساوى من في عصمة زوجها بالبائن في جواز الاستئجار على الرضاعة؛ لأن عقد الإجارة يجوز مع غير الزوج إذا أذن فيه، فجاز مع الزوج؛ كإجارة نفسها للخياطة أو الخدمة
(4)
، وقد ذلك منهم اعتبارًا بأن الرضاعة منفعة متقومة يستحق في مقابلتها المال، فصححوا أن يكون بدل الخلع إرضاع الطفل مدة الرضاعة؛ كأن يقول لها أب الرضيع: خالعتك على أن ترضعي ابني منك مدة السنتين بلا أجر، فتقول: قبلت، وحتى لو لم ترضع الطفل؛ لوفاته، أو هربها، أو وفاتها؛ كان له الرجوع بقيمة الرضاعة عن المدة أو ما بقي منها
(5)
، ومن قال: لا يجوز - وهو مذهب الحنفية
(6)
، والوجه الآخر للشافعية، وبه قال عِراقِيُّوهم
(7)
-؛ فرق في حكم الإجارة بين منكوحة أبي الرضيع ومبانته؛ فأباح الإجارة من المبانة دون المنكوحة التي جعل لها ما هو مفروض من النفقة، وتزاد نفقتها للإرضاع بما يجتهد به الحاكم في تقدير الزيادة
(8)
؛ لأن المنافع حق له، فلا يجوز أن يستأجر منها ما ما هو أو بعضه حقٌّ له
(9)
.
(1)
المرداوي: المصدر السابق، (7/ 148).
(2)
ينظر: النووي: روضة الطالبين (9/ 89).
(3)
ينظر: ابن قدامة: المصدر السابق، (8/ 75، 11/ 429، 432).
(4)
ينظر: ابن قدامة: المصدر السابق، (11/ 432).
(5)
ينظر: عبد الوهاب خلاف: أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية (ص 161).
(6)
ينظر: الزمخشري: المصدر السابق، (ص 135).
(7)
ينظر: النووي: المصدر السابق، (9/ 89).
(8)
ينظر: النووي: المصدر السابق، (9/ 89).
(9)
ينظر: ابن قدامة: المصدر السابق، (11/ 429، 431).