الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) بَابٌ: فِي الْهِجْرَةِ، هَل انْقَطَعَت
؟
2479 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ، أَنَا عِيسَى، عَنْ حَرِيزٍ (1)، عن عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي عَوْفٍ، عن أَبِي هِنْدٍ،
===
فإن قلت: قد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالغلظة على الكفار والمنافقين، ولم يأمره بالرفق بهم؟
قلت: إنما أمره الله تعالى بالغلظة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان شديد الرفق، فهذا يدل على شدة رفقه، ولا يدل على أنه لم يكن فيه صلى الله عليه وسلم رفق.
(2)
(بَابٌ: فِي الهِجْرَةِ، هَلْ انْقَطَعَتْ؟ )
عقد هذا الباب للإشارة إلى اختلاف الروايات في انقطاع الهجرة، وإلى وجه الجمع بينهما، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"لا هجرة بعد الفتح" يقتضي أن الهجرة بعد فتح مكة انقطعت، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة"، يقتضي أن الهجرة لا تنقطع إلى أن تطلع الشمس من مغربها، ووجه الجمع بينهما: أن الأول محمول على أنه انقطعت الهجرة من مكة بعد الفتح، لأنها صارت دار الإسلام بعد أن كانت دار الكفر والحرب، وأما قوله الثاني فمعناه: لا تنقطع الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام إلى يوم القيامة.
2479 -
(حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي، أنا عيسى) بن يونس، (عن حريز) بفتح المهملة وآخره زاي، ابن عثمان، (عن عبد الرحمن بن أبي عوف) الجرشي بضم الجيم وفتح الراء بعدها مهملة، الحمصي القاضي، قال الآجري عن أبي داود: شيوخ حريز ثقات، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجلي: شامي تابعي ثقة، وذكره ابن منده في "الصحابة"، ويقال: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن القطان: مجهول الحال.
(عن أبي هند) البجلي، شامي، ذكره العسكري في الصحابة، وقال
(1) زاد في نسخة: "ابن عثمان".
عن مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا". [حم 4/ 99، ق 9/ 17، دي 2513، السنن الكبرى للنسائي 8711]
===
عبد الحق: ليس بالمشهور، وقال ابن القطان: مجهول، وقال الحافظ في "التقريب": مقبول.
(عن معاوية) بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، أبو عبد الرحمن الأموي، أسلم يوم الفتح، وقيل: قبل ذلك، وكتب الوحي، ولَّاه عمر بن الخطاب الشام بعد أخيه يزيد، فأقرَّه عثمان مدة ولايته، ثم ولي الخلافة، قال ابن إسحاق: كان معاوية أميرًا عشرين سنة، وخليفة عشرين سنة، توفي في رجب لأربع ليال بقين منه سنة ستين.
(قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تنقطع الهجرة) أي من دار الكفر إلى دار الإسلام (حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، وقذ أشير إليه في قوله تعالى:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} (1).
نقل في الحاشية عن الخطابي (2): قال: كانت الهجرة في أول الإسلام فرضًا، ثم صارت مندوبة، وذلك قوله تعالى:{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} (3)، نزل حين اشتد أذى المشركين على المسلمين عند انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأمروا بالانتقال إلى حضرته، فيكونوا (4) معه، فيتعاونوا إذا حزبهم أمر، ويتعلموا منه أمر دينهم، ويتفقَّهُوا فيه، وكان عِظَم الخوف في ذلك الزمان من قريش ومظاهري أهل مكة، فلما فتحت
(1) سورة الأنعام: الآية 158.
(2)
انظر: "معالم السنن"(2/ 234).
(3)
سورة النساء: الآية 100.
(4)
كذا في الأصل، وفي "المعالم": ليكونوا، وهو الأولى.
2480 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نَا جَرِيرٌ، عن مَنْصُورٍ، عن مُجَاهِدٍ، عن طَاوُسٍ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْم الْفَتْحِ - فَتْح مَكَّةَ -: "لَا هِجْرَةَ،
===
مكة ونخعت بالطاعة زال المعنى، وارتفع وجوب الهجرة، وعاد الأمر فيها إلى الندب، فهما هجرتان، فالمنقطعة منهما هي الفرض، والباقية هي الندب.
فهذا وجه الجمع بين هذا وبين حديث: "لا هجرة بعد الفتح"، على أن بين الإسنادين ما بينهما، لأن إسناد هذا صحيح متصل، وإسناد الأول فيه مقال.
2480 -
(حدثنا عثمان بن أبي شيبة، نا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فتح مكة: لا هجرة) أي لم يبق حكم وجوب الهجرة من مكة، لأنه صار دار الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فسقط فرض الهجرة، وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل عدو.
قال الحافظ (1): وكانت الحكمة أيضًا في وجوب الهجرة على من أسلم ليسلم من أذى ذويه من الكفار، فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه، وفيهم نزلت:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} (2) الآية، وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر وقدر على الخروج منها، وقد روى النسائي مرفوعًا:"لا يقبل الله من مشرك عملًا بعد ما أسلم أو يفارق المشركين"، ولأبي داود من حديث سمرة مرفوعًا:"أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"، وهذا محمول على من لم يأمن على دينه.
(1)"فتح الباري"(6/ 38).
(2)
سورة النساء: الآية 97.
وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا (1) اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا". [خ 2783، م 1353، ت 1590، ن 4169، حم 1/ 226]
…
(2)
2481 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، نَا يَحْيَى، عن إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ،
===
(ولكن جهاد ونية)، قَالَ الحافظُ: قال الطيبي وغيره: هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله، والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت، إلَّا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذا المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر، والخروج في طلب العلم، والفرار بالدين من الفتن، والنية في جميع ذلك.
(وإذا استُنفرتم فانفروا)، قال الحافظ (3): قال النووي: يريد أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة، وإذا أمركم الإمام بالخروج إلى الجهاد ونحوه من الأعمال الصالحة فاخرجوا إليه، قال ابن أبي جمرة ما محصله: إن هذا الحديث يمكن تنزيله على أحوال السالك، لأنه أولًا يؤمر بهجرة مألُوفاتِه، فإذا لم يحصل له أُمِرَ بالجهاد، وهو مجاهد النفس والشيطان مع النية الصالحة في ذلك.
2481 -
(حدثنا مسدد، نا يحيى، عن إسماعيل بن أبي خالد) الأحمسي مولاهم، قال ابن المبارك عن الثوري: حفاظ الناس ثلاثة، إسماعيل، وعبد الملك بن سليمان، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهو يعني إسماعيل أعلم الناس بالشعبي وأثبتهم فيه، وقال ابن مهدي وابن معين والنسائي: ثقة،
(1) في نسخة: "وإن".
(2)
زاد في نسخة: "باب الهجرة".
(3)
"فتح الباري"(6/ 39).
نَا عَامِرٌ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو وَعِنْدَهُ الْقَوْمُ حَتَّى جَلَسَ عِنْدَهُ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ،
===
وقال ابن عمار الموصلي: حجة، وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وكان طحانًا، وقال يعقوب بن أبي شيبة (1): كان ثقةً ثبتًا.
(نا عامر قال: أتى رجل) لم أقف على تسميته (عبد الله بن عمرو) بن العاص (وعنده القوم حتى جلس) أي الرجل (عنده، فقال: أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال) أي عبد الله بن عمرو: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المسلم) قيل الألف واللام فيه للكمال، نحو زيد الرجل، أي الكامل في الرجولية، وتعقب بأنه يستلزم أن من اتصف بهذا خاصة كان كاملًا، ويجاب بأن المراد بذلك مع مراعاة باقي الأركان، قال الخطابي (2): المراد أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله تعالى أداء حقوق المسلمين، انتهى، وإثبات اسم الشيء على معنى إثبات الكمال له مستفيض في كلامهم.
ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يبين علامة المسلم التي يستدل بها على إسلامه، وهي سلامة المسلمين من لسانه ويده، كما ذكره مثله في علامة المنافق، ويحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى الحثِّ على حُسْنِ معاملة العبد مع ربه، لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فأولى أن يحسن معاملة ربه، من باب التنبيه من الأدنى على الأعلى.
(من سلم المسلمون من لسانه ويده)، ذِكر المسلمين هنا خرج مخرج
(1) كذا في الأصل، وفي "تهذيب التهذيب"(1/ 291) أيضًا، وهو خطأ، والصواب: يعقوب بن شيبة، كما في "تهذيب الكمال"(3/ 75).
(2)
انظر: "أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري" للخطابي (1/ 147)، و"فتح الباري"(1/ 53).
وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ". [خ 10، م 40 (مختصرًا)، حم 2/ 163، ق 10/ 187، ن 4995]
===
الغالب، لأن محافظة المسلم على كف الأذى عن أخيه المسلم أشد تأكيدًا، والإتيان بجمع التذكير للتغليب، فإن المسلمات يدخلن في ذلك.
وخص اللسان بالذكر لأنه المعبر عما في النفس، وكذا اليد لأن أكثر الأفعال بها، والحديث عام بالنسبة إلى اللسان دون اليد، لأن اللسان يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بعد، بخلاف اليد، نعم يمكن أن تشارك اللسان في ذلك بالكتابة، وإن أثرها في ذلك لعظيم، ويستثنى من ذلك شرعًا تعاطي الضرب باليد في إقامة الحدود والتعازير على المسلم المستحق لذلك، وفي التعبير باللسان دون القول نكتة، فيدخل فيه من أخرج لسانه على سبيل الاستهزاء، وفي ذكر اليد دون غيرها من الجوارح نكتة، فيدخل فيها اليد المعنوية كالاستيلاء على حق الغير بغير حق، وفيه من أنواع البديع تجنيس الاشتقاق وهو كثير.
(والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) هو بمعنى الهاجر، وإن كان لفظ المفاعل يقتضي وقوع الفعل من اثنين، لكنه هنا للواحد كالمسافر، ويحتمل أن يكون على بابه، لأن من لازم كونه هاجرًا وطنه مثلًا أنه مهجور من وطنه، والهجرة ضربان: ظاهرة، وباطنة، فالباطنة ترك ما تدعو إليه النفس الأمَّارة بالسوء والشيطان، والظاهرة الفرار بالدين من الفتن، وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتَّكلوا على مجرد التحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه، ويحتمل أن يكون ذلك قيل بعد انقطاع الهجرة لما فتحت مكة تطييبًا لقلوب من لم يدرك ذلك، بل حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى الله عنه (1).
(1) انظر: "فتح الباري"(1/ 53، 54).