الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(99) بَابٌ: فِي التَوَلِّي يَوْم الزَّحْفِ
2646 -
حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ، نَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عن جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عن الزُّبَيْرِ بْنِ خِرِّيتٍ، عن عِكْرِمَةَ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "نَزَلَتْ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشْرَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ جَاءَ تَخْفِيفٌ (1) فَقَالَ:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} قَرَأَ أَبُو تَوْبَةَ إِلى قَوْلِهِ: (2){يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} ،
===
(99)
(بَابٌ: فِي التَّوَلِّي (3) يَوْمَ الزَّحْفِ)
2646 -
(حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، نا ابن المبارك، عن جرير بن حازم، عن الزبير بن خريت، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}) أي: لا يجوز لهم أن يفروا من عشرة أمثالهم، ويجب عليهم أن يثبتوا لهم صابرين (فشق ذلك) وصعب (على المسلمين حين فرض الله عليهم أن لا يفر) مسلم (واحد من عشرة) كفار.
(ثم إنه جاء) أي نزل (تخفيف) من ربهم (فقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ}، قرأ أبو توبة إلى قوله: {يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}) وتمام الآية: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (4).
وكتب مولانا محمد يحيى المرحوم من تقرير شيخه: يعني بذلك علم الظهور، فإن العلم وإن كان حاصلًا له تعالى من قبل، لكنه لم يتعلق بالحادث
(1) في نسخة: "بتخفيف".
(2)
في نسخة: "مائة".
(3)
قال الموفق: لا يجوز الفرار عن ضعفهم في قول عامة أهل العلم وإن خاف الهلاك، انظر:"المغني"(13/ 186). (ش).
(4)
سورة الأنفال: الآية 65 - 66.
قَالَ: فَلَمَّا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْعِدَّةِ (1) نَقَصَ مِنَ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خَفَّفَ عَنْهُمْ". [خ 4652]
2647 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نَا زُهَيْرٌ، نَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى حَدَّثَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ: أَنَّهُ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً، فَكُنْتُ فِيمَنْ حَاصَ، فَلَمَّا بَرَزْنَا قُلْنَا: كَيْفَ نَصْنَعُ وَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الزَّحْفِ، وَبُؤْنَا بِالْغَضَبِ،
===
ما لم يحدث، فالحدوث إنما هو باعتبار التعلق، فإن تعلق الشيء بالشيء لا يمكن إلَّا وأن يوجد المتعلق، فالعلم بالمتعلق بالحادث بحيث حدوثه إنما يوجد بعد حدوثه، انتهى.
(قال) ابن عباس: (فلما خفف الله عنهم من العدة) لمقاومة الكفار (نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم)، وإنما أخبر ابن عباس بهذا، لعله علم من نفسه، وكذلك علم من الصحابة من سماعهم.
2647 -
(حدثنا أحمد بن يونس، نا زهير، نا يزيد بن أبي زياد، أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه، أن عبد الله بن عمر حدثه: أنه كان في سرية (2) من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال) ابن عمر:(فحاص الناس حيصة) أي: انهزموا انهزامًا (فكنت فيمن حاص، فلما برزنا)، وفي نسخة:"فرغنا" في المكتوبة بين السطور، وفي رواية:"نفرنا إلى المدينة".
(قلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، وبؤنا) أي: رجعنا (بالغضب)
(1) في نسخة: "العدد".
(2)
ولا يبعد أن تكون سرية مؤتة، فإن ابن عمر كان فيها، وقد وقع فيها بعض الانهزام، وقال المسلمون لما رجع أهل السرية: أنتم الفَرَّارون؛ قال عليه السلام: "بل العكَّارون"، كما في "الخميس"(2/ 72)، وفي "العون" (7/ 221): أخرجه الترمذي وابن ماجه. قلت: وأخرجه السيوطي في "الدر المنثور"(4/ 38). (ش).
فَقُلْنَا: نَدْخُلُ الْمَدِينَةَ فَنَثْبُتُ فِيهَا لِنَذْهَبَ وَلَا يَرَانَا (1) أَحَدٌ، قَالَ: فَدَخَلْنَا فَقُلْنَا: لَوْ عَرَضْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ كَانَتْ لَنَا تَوْبَةٌ أَقَمْنَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ ذَهَبْنَا، قَالَ: فَجَلَسْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا: نَحْنُ الْفَرَّارُونَ (2)، فَأَقْبَلَ إِلَيْنَا فَقَالَ:"لَا بَلْ أَنْتُمْ الْعَكَّارُونَ"، قَالَ: فَدَنَوْنَا فَقَبَّلْنَا يَدَهُ فَقَالَ: "أَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ". [ت 1716، جه 3704، حم 2/ 70، ق 9/ 76]
===
أي بغضب من الله سبحانه وتعالى (فقلنا: ندخل المدينة) ليلًا (فنثبت) وفي نسخة: "فنبيت"(فيها) أي في المدينة مختفين (لنذهب) اللام فيها لام كي، علة لقوله: ندخلها ليلًا، وتقديره: لنذهب إلى بيوتنا ليلًا، ثم نذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقال: لنذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يرانا أحد، وقال بعض المدرسين: يحتمل أن يكون صيغة أمر، وما كتب بين السطور "لنذهب إلى الغزو مرة ثانية" فغير متبادر إلى الذهن بل هو بعيد.
(ولا يرانا أحد، قال: فدخلنا) أي أردنا دخول المدينة (فقلنا) أي فيما بيننا: (لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم) لكان خيرًا، أو الجزاء (فإن كانت لنا توبة أقمنا) في المدينة (وإن كان غير ذلك ذهبنا) أي عنها إلى حيث شاء الله تعالى.
(قال) ابن عمر: (فجلسنا) أي: مترصدين (لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر، فلما خرج) رسول الله صلى الله عليه وسلم (قمنا إليه) وفي رواية: فقال: "من القوم"؟ (فقلنا: نحن الفرارون، فأقبل) أي توجه (إلينا، فقال: لا، ) أي: ليس أنتم الفرارون (بل أنتم العكارون) الكرارون العطافون على الكفار.
(قال: فدنونا فقبَّلنا يده، فقال: أنا فئة المسلمين) أي: ملجأهم،
(1) في نسخة: "فلا يرانا".
(2)
في نسخة: "الفارون".
2648 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ الْمِصْرِيُّ، نَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، نَا دَاوُدُ، عن أَبِي نَضْرَةَ، عن أَبِي سَعِيدٍ قَالَ:"نَزَلَتْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} ". [السنن الكبرى للنسائي 11203]
===
وهذا جواب عما ارتكز في قلوبهم من الشبهة بمخالفة الآية وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (1)، فظنوا أنهم فروا غير متحرفين للقتال وغير متحيزين إلى فئة، لأنه لم تكن لهم فئة هناك، فأزال صلى الله عليه وسلم هذه الشبهة، وقال:"وليتم أدباركم متحيزين إلى فئة، لأني أنا فئتكم، ففرحوا بذلك واطمأنت نفوسهم".
وكتب مولانا محمد يحيى المرحوم من تقرير شيخه رحمه الله: قوله: فقال: "لا بل أنتم العَكَّارون"، لا يخلو الفرار يومئذ أن يكون جائزًا لهم أولا، وعلى الأول فظاهر أنهم لم يكونوا ممن فر فرارًا استحق الوعيد عليه، وعلى الثاني فتوجيه إخراجهم عنهم أنهم لما ندموا، وعلموا أعظم ما اقترفوا فيه، سقط عنهم ذنبهم، فلم يبق عليهم شيء، وعلى الوجهين فصح تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم وإدخالهم في الاستثنائين المذكورين في قوله تعالى:{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} ، ولا يترتب عليهم الجزاء المترتب على {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} ، وهذا هو الوجه في إيراد المؤلف هذه الآية ها هنا.
2648 -
(حدثنا محمد بن هشام) بن شبيب بن أبي خيرة بكسر المعجمة وفتح التحتانية، السدوسي، أبو عبد الله البصري، نزيل مصر، قال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي: صالح، وقال فِي موضع آخر: لا بأس به، وقال ابن يونس: كان ثقة ثبتًا حسن الحديث، (المصري نا بشر بن المفضل، نا داود) بن أبي هند، (عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: نزلت في يوم بدر: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}).
(1) سورة الأنفال: الآية 16.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
* * *
===
واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية، هل هو خاص في أهل بدر؟
فقال قوم: هو لأهل بدر خاصة، لأنهم لم يكن لهم أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدوه وينهزموا عنه، فأما اليوم فلهم الانهزام، هكذا روي عن الحسن البصري والضحاك وأبي سعيد الخدري وغيرهم، وروي عن يزيد بن حبيب بسند فيه ابن لهيعة قال:"أوجب الله لمن فر يوم بدر النار"، قال:{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} ، فلما كان يوم أحد بعد ذلك، قال:{إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} (1)، ثم كان حنين بعد ذلك بتسع سنين فقال:"ثم وليتم مدبرين، ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء".
وقال آخرون: بل هذه الآية حكمها عام في كل من ولَّى الدبر عن العدو منهزمًا، روي ذلك عن ابن جرير الطبري (2).
وأولى التأويلين في هذا الباب بالصواب قول من قال: حكمها محكم، وأنها نزلت في أهل بدر، وحكمها ثابت في جميع المؤمنين إذا لقوا العدو أن لا يولوهم الدبر منهزمين إلَّا لتحرف لقتال أو التحيز إلى فئة من المؤمنين حيث كانت من أرض الإسلام. والحمد لله رب العالمين.
وكتب على تمام حديث الباب على حاشية النسخة المكتوبة: هذا هو النصف الأول من السنن المجزء اثنين وثلاثين جزءًا بتجزئة الخطيب، وهذا النصف منه ستة عشر جزءًا، والله المعين الميسِّر.
* * *
(1) سورة آل عمران: الآية 155.
(2)
انظر: "جامع البيان" للطبري (6/ 202، 203).
بسم الله الرحمن الرحيم
أَخْبَرَنَا الإمَامُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ بْنِ ثَابِتٍ الْخَطِيبُ الْبَغدَادِيُّ قَالَ: أَنَا الإمَامُ الْقَاضِي أَبُو عَمْرٍو الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْهَاشِمِيُّ قَالَ: أَنا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَمْرٍو اللُّؤْلُؤِي، قَالَ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- قَالَ:
===
بسم الله الرحمن الرحيم
(أخبرنا الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي قال: أنا الإمام القاضي أبو عمرو القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، قال: أنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي قال: ثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني في المحرم سنة خمس وسبعين ومائتين - رحمه الله تعالى- قال: )
هذا السند مذكور في النسخة القادرية والكانفورية ونسخة "العون"، وليس بمكتوب في النسخة المكتوبة الأحمدية ولا في المصرية، والظاهر أن ذكره في هذا المحل غير مناسب، بل المحل المناسب لذكره أول "كتاب السنن".
(100)
بَابٌ: فِي الأَسِيرِ (1) يُكْرَهُ عَلَى الْكُفْرِ
2649 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَنَا هُشَيْمٌ وَخَالِدٌ، عن إِسْمَاعِيلَ، عن قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عن خَبَّابٍ قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً (2) فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟
===
(100)
(بَابٌ: فِي الأَسِيرِ)
أي المسلم (يُكْرَهُ) بصيغة المجهول من الإكراه (عَلَى الْكُفْرِ) أي ما حكمه؟ هل تجري كلمة الكفر على اللسان أم لا؟
2649 -
(حدثنا عمرو بن عون قال: أنا هشيم وخالد، عن إسماعيل، عن قيس بن أبي حازم، عن خباب) - بفتح المعجمة وتشديد الموحدة - ابن الأرت - بفتح الهمزة والراء وتشديد المثناة الفوقية - كنيته أبو عبد الله، شهد بدرًا، وكان قينًا في الجاهلية، نزل الكوفة، ومات بها سنة 37 هـ، وكان من المهاجرين الأولين.
قال ابن سعد (3): أصابه سَبْيٌ، فبيع بمكة، ثم حالف بني زهرة، وأسلم قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وكان من المستضعفين الذين يُعَذَّبُون بمكة، وحكى الباوردي أنه أسلم سادس ستة، ذكر أن عمر بن الخطاب سأله عما لقي في ذات الله فكشف ظهره، فقال عمر: ما رأيت كاليوم، فقال: يا أمير المؤمنين! لقد أوقدت لي نار، فما أطفأها إلَّا شحمي، ذكره السهيلي (4).
(قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد) أي: جاعل وسادة (بردة) وهي الشملة المخططة (في ظل الكعبة، فشكونا إليه) أي ما نلقى من مشركي مكة من العذاب (فقلنا: ألا تستنصر) أي من الله تعالى (لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ ) أن ينجينا
(1) في نسخة: "المسلم".
(2)
في نسخة: "بُرْدَهُ".
(3)
"الطبقات الكبرى"(3/ 164).
(4)
انظر: "الروض الأنف"(2/ 122).
فَجَلَسَ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ فَقَالَ: "قَدْ كَانَ مَنْ (1) قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ فِرْقَتَيْنِ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عن دِينِهِ، وُيمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ لَحْمٍ وَعَصَبٍ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عن دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ
===
من أذى الكفار (فجلس) بترك التوسد (محمرًّا وجهه) من الغضب على استعجالهم، وقيل: من أثر النوم.
(فقال) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد كان من قبلكم) في الأمم الماضية (يؤخذ الرجل) المؤمن ظلمًا، فيكره على الكفر فيأبى (فيحفر له في الأرض) حفيرة فيدخل فيها (ثم يؤتى بالمنشار) وهو آلة من الحديد، له أسنان ينشر به العود (فيجعل) أي المنشار (على رأسه فيجعل) أي ذلك الرجل (فرقتين) أي: شقتين (ما يصرفه ذلك) أي التعذيب (عن دينه، ويمشي) بصيغة المجهول، أي: لحمه (بأمشاط الحديد ما دون) أي: ما سوى أو ما فوق (عظمه من) بيانية للفظ ما (لحم وعصب)، ولفظ "البخاري":"ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه".
قال الحافظ: وللأكثر "ما" بدل "من"(ما يصرفه ذلك) التعذيب الشديد (عن دينه).
قال الحافظ (2): قال: هذه تسلية لهم، وإشارة إلى الصبر حتى تنقضي المدة المقدورة، وإلى ذلك الإشارة بقوله في آخر الحديث:"ولكنكم تستعجلون".
(والله ليتمن الله هذا الأمر) أي: الدين القيّم (حتى يسير الراكب ما بين صنعاء).
قال في "المعجم"(3): وصنعاء موضعان، أحدهما: باليمن وهي العظمى، وأخرى: قرية بالغوطة من دمشق. قال الحافظ في "الفتح"(4): يحتمل أن يريد
(1) في نسخة: "من كان".
(2)
"فتح الباري"(12/ 316 - 317).
(3)
"معجم البلدان"(3/ 426).
(4)
"فتح الباري"(6/ 620).
وَحَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّه وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ" (1). [خ 3612، سنن النسائي الكبرى 8593، حم 5/ 109 - 110]
===
صنعاء اليمن وبينها وبين حضرموت من اليمن أيضًا مسافة بعيدة نحو خمسة أيام، ويحتمل أن يريد صنعاء الشام، والمسافة بينهما أبعد بكثير، والأول أقرب (وحضرموت) - بالفتح ثم السكون وفتح الراء والميم- وهي ناحية واسعة في شرقي عدن بقرب البحر، وحولها رمال كثيرة، تعرف بالأحقاف، وبها قبر هود عليه السلام، وبين حضرموت وصنعاء اثنان وسبعون فرسخًا، وقيل: مسيرة أحد عشر يومًا (ما يخاف إلَّا الله) أي: لا يخاف أحد من الناس (والذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون).
قال الحافظ (2): قال ابن بطال: إنما لم يُجِب النبي صلى الله عليه وسلم لسؤال خباب ومن معه بالدعاء على الكفار مع قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (3)، وقوله:{فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} (4)؛ لأنه علم أنه قد سبق القدر بما جرى عليهم من البلوى ليؤجروا عليها، كما جرت به عادة الله تعالى في أتباع الأنبياء، فصبروا على الشدة في ذات الله، ثم كانت لهم العاقبة بالنصر وجزيل الأجر، قال: فأما غير الأنبياء فواجب عليهم الدعاء عند كل نازلة، لأنهم لم يطلعوا على ما اطلع عليه النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وقال ابن بطال: أجمعوا على أن من اكره على الكفر، واختار القتل أنه أعظم أجرًا عند الله ممن اختار الرخصة، وأما غير الكفر فإن أكره على أكل الخنزير وشرب الخمر مثلًا، فالفعل أولى، وقال بعض المالكية: بل يأثم إن منع من أكل غيرها، فإنه يصير كالمضطر على أكل الميتة إذا خاف على نفسه الموت فلم يأكل.
(1) في نسخة: "تُعَجِّلُون".
(2)
"فتح الباري"(12/ 316 - 317).
(3)
سورة غافر: الآية 60.
(4)
سورة الأنعام: الآية 43.