الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعالى لا تخفى عليه خافية، بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
13 -
باب وضع الجائحة
(1)
398/ 3323 - عن أبي سعيد الخدري أنه قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثُر دينُه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تصدَّقوا عليه» ، فتصدَّق الناسُ عليه فلم يبلغ ذلك وفاءَ دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك» .
وأخرجه مسلم
(2)
.
399/ 3324 - وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن بِعْتَ من أخيك ثمرًا فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بِمَ تأخذ مال أخيك بغير حق؟» .
وأخرجه مسلم
(3)
.
(4)
قال ابن القيم رحمه الله: حديث مسلم في الجائحة من رواية ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، وهذا صحيح.
والشافعي علل حديث سفيان، عن حميد بن قيس، عن سليمان بن عتيق، عن جابر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بَيع السنين، وأمر بوضع
(1)
هنا ورد هذا الباب في الأصل، وفي «السنن» و «المختصر» يقع بعد الباب الآتي.
(2)
أبو داود (3469)، ومسلم (1556).
(3)
أبو داود (3470)، ومسلم (1554).
(4)
تخريج الحديثين من (هـ)، وقد اختصره المؤلف فحذف من ذكرهم المنذري مع مسلم من أصحاب السنن الذين أخرجوا الحديث.
الجوائح»، بأن قال
(1)
: سمعتُ سفيان يحدث هذا الحديث كثيرًا في طول مجالستي له، لا أحصي ما سمعته يحدثه من كثرته، لا يذكر فيه:«أمر بوضع الجوائح» ، لا يزيد على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنين، ثم زاد بعد ذلك:«وأمر بوضع الجوائح» . قال سفيان: وكان حميد بن قيس يذكر بعد «بيع السنين» كلامًا قبل «وضع الجوائح» ، إلا أني لا أدري كيف كان الكلام؟ وفي الحديث:«أمر بوضع الجوائح» .
وفي الباب حديث عمرة عن عائشة: ابتاع رجل ثمر حائطٍ في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم،فعالجه وقام عليه، حتى تبيَّن له النقصان، فسأل رب الحائط أن يضع عنه، فحلف أن لا يفعل، فذهبت أم المشتري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تَألَّى أن لا يفعل خيرًا؟!» ، فسمع بذلك رب المال، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله هو له.
وعلله الشافعي بالإرسال
(2)
. وقد أسنده يحيى بن سعيد عن أبي الرجال عن عَمرة عن عائشة
(3)
، وأسنده حارثة بن أبي الرجال عن أبيه
(4)
.
(1)
في «الأم» (4/ 116).
(2)
أخرجه الشافعي في «الأم» (4/ 117) من طريق مالك ــ وهو في «الموطأ» (1816) ــ، عن أبي الرجال، عن أمّه عَمرة مرسلًا. ثم قال الشافعي: وحديث مالك عن عمرة مرسل، وأهل الحديث ونحن لا نثبت مرسَلًا.
(3)
أخرجه البخاري (2705)، ومسلم (1557)، وليس فيه ذكر الثمر، وإنما فيه أن أحد الخصمين كان يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء، وهو يقول: واللهِ لا أفعل!
(4)
كذا ذكر البيهقي في «الكبرى» (5/ 305)، و «معرفة السنن» (8/ 89) ثم ذكر أن حارثة ضعيف لا يحتج به عند أهل العلم بالحديث. ولم أجد الحديث من طريق حارثة بن أبي الرجال، ولكن وجدته من رواية أخيه عبد الرحمن بن أبي الرجال ــ وهو صدوق ــ عن أبيه أبي الرجال، عن عمرة، عن عائشة. أخرجه أحمد (24405، 24742)، وابن حبان (5032).
وليس بصريح في وضع الجائحة.
وقد تأوله من لا يرى [وضع]
(1)
الجائحة بتأويلات باطلة:
أحدها: أنه محمول على ما يجتاح
(2)
الناسَ في الأراضي الخراجية التي خراجها للمسلمين، فيوضَع ذلك الخراج عنهم، فأما في الأشياء المبيعات فلا.
وهذا كلام في غاية البطلان، ولفظ الحديث لا يحتمله بوجه. قال البيهقي
(3)
: ولا يصح حمل الحديث عليه، لأنه لم يكن يومئذ على أراضي المسلمين خراج.
ومنها: أنهم حملوه على إصابة الجائحة قبل القبض، وهو تأويل باطل، لأنه خَصَّ بهذا الحكم الثمار وعمَّ به الأحوال، ولم يقيده بقبض ولا عدمه.
ومنها: أنهم حملوه على معنى حديث أنس: «أرأيت إن منع الله الثمرة، فبِمَ يأخذ أحدكم مال أخيه؟» . وهذا في بيعها قبل بدوّ صلاحها.
وهذا أيضًا تأويل باطل، وسياق الحديث يبطله، فإنه علل بإصابة الجائحة لا بغير ذلك.
(1)
زيادة لازمة.
(2)
في الطبعتين: «يحتاج» ، تحريف.
(3)
«معرفة السنن» (8/ 90).
14 -
باب السلف في شيءٍ ثم يُحَوَّلُ إلى غيره
400/ 3322 - عن عطية بن سعد، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن أسلَف في شيءٍ فلا يَصرِفْه إلى غيره» .
وأخرجه ابن ماجه
(1)
، وعطية بن سعد لا يحتج بحديثه.
قال ابن القيم رحمه الله: اختلف الفقهاء في حكم هذا الحديث، وهو جواز أخذ غير المُسْلَم فيه عوضًا. وللمسألة صورتان:
إحداهما: أن يعاوض عن المُسْلَم فيه مع بقاء عقد السَّلَم، فيكون قد باع دين السلم قبل قبضه.
والصورة الثانية: أن ينفسخ العقد بإقالة أو غيرها، فهل يجوز أن يصرف الثمن في عوض آخر غير المسلم فيه؟
فأما المسألة الأولى، فمذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه
(2)
: أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه، لا لمن هو في ذمته ولا لغيره.
وحكى بعض أصحابنا ذلك إجماعًا، وليس بإجماع، فمذهب مالك جوازه
(3)
، وقد نص عليه أحمد في غير موضع، وجوز أن يأخذ عوضه عَرَضًا بقدر قيمة دين السَّلَم وقت الاعتياض ولا يربح فيه.
(1)
أبو داود (3468)، وابن ماجه (2283). وعطية بن سعد هو العوفي، ضعيف الحديث. واستظهر أبو حاتم ــ كما في «العلل» لابنه (1158) ــ أن الصواب: عن عطية، عن ابن عباس موقوفًا عليه.
(2)
انظر: «الأم» (4/ 273 - 274)، و «نهاية المطلب» (5/ 193، 6/ 21)؛ و «الأصل» (2/ 381 - 382، 402)؛ و «بدائع الصنائع» (5/ 214)؛ و «الإنصاف» (12/ 292).
(3)
انظر: «المدونة» (9/ 33 - 35)، و «عقد الجواهر الثمينة» لابن شاس (2/ 757).
وطائفة من أصحابنا خصَّت هذه الرواية بالحنطة والشعير فقط، كما قال في «المستوعب»
(1)
: ومن أسلم في شيءٍ لم يجز أن يأخذ من غير جنسه بحال في إحدى الروايتين. والأخرى: يجوز أن يأخذ ما دون الحنطة من الحبوب، كالشعير ونحوه، بمقدار كيل الحنطة لا أكثر منها ولا بقيمتها، نص عليه في رواية أبي طالب: إذا أسلفت في كَرِّ حنطةٍ فأخذت شعيرًا فلا بأس، وهو دون حقك، ولا تَأخذ مكان الشعير حنطة.
وطائفة ثالثة من أصحابنا جعلت المسألة رواية واحدة وأن هذا النص بناء على قوله في الحنطة والشعير أنهما جنس واحد، وهي طريقة صاحب «المغني»
(2)
.
وطائفة رابعة من أصحابنا: حكوا رواية مطلقة في المكيل والموزون وغيره. ونصوص أحمد تدل على صحة هذه الطريقة وهي طريقة أبي حفص العُكبَري
(3)
وغيره. قال القاضي: نقلت من خط أبي حفص في «مجموعه» : فإن كان ما أسلم فيه مما يكال أو يوزن فأخذ من غير نوعه مثلَ كيله مما هو دونه في الجودة جاز، وكذلك إن أخذ بثمنه مما لا يكال ولا يوزن كيف شاء.
ونقل ابن القاسم
(4)
عن أحمد قلت لأبي عبد الله: إذا لم يجد ما أسلم
(1)
(1/ 712).
(2)
انظره (6/ 416).
(3)
في الأصل: «الطبري» ، تصحيف. والمَكنيُّ بأبي حفص في كتب المذهب اثنان: أبو حفص العُكبَري (ت 387)، وأبو حفص البرمكي (ت 388). والمراد هنا الأول، كما في «مجموع الفتاوى» (29/ 504)، فإن المؤلف صادر عنه.
(4)
ط. الفقي: «أبو القاسم» ، ورسم «ابن» غير محرر في الأصل، والمثبت موافق لما في «مجموع الفتاوى» (29/ 504). وهو أحمد بن القاسم، صاحب أبي عبيد القاسم بن سلّام، حدث عن الإمام أحمد أشياء كثيرة من مسائله. انظر:«تاريخ بغداد» (5/ 573)، و «طبقات الحنابلة» (1/ 135).
فيه ووجد
(1)
غيرَه من جنسه أيأخذه؟ قال: نعم إذا كان دون الشيء الذي له، كأنما
(2)
أسلم في قفيز حنطة موصلي، فقال: يأخذ
(3)
مكانه سُلْتي
(4)
أو قفيزَ شعيرٍ بكَيلَةٍ واحدة لا يزداد، وإن كان فوقه فلا يأخذ، وذكر حديث ابن عباس رواه طاوس عنه: «إذا أسلمتَ في شيءٍ فجاء الأجل فلم تجد الذي أسلمت فيه فخذ عوضًا
(5)
بأنقص منه، ولا تربح مرتين»
(6)
.
ونقل أحمد بن أصرم
(7)
: سئل أحمد عن رجل أسلم في طعام إلى أجل، فإذا حلّ الأجلُ يشتري منه عقارًا أو دارًا؟ فقال: نعم يشتري منه ما لا يكال ولا يوزن.
(1)
في الأصل: «ووجده» خطأ، وهو على الصواب في (هـ).
(2)
كذا في الأصل و (هـ)، وفي «مجموع الفتاوى» (29/ 504):«[قلتُ:] فإنما» وما بين الحاصرتين زيادة من مرتّبي الفتاوى.
(3)
في الأصل و (هـ) والطبعتين: «آخذ» ، والتصحيح من مصدر النقل.
(4)
ط. الفقي: «شلبيا» ، تصحيف. و «السُّلْت» ضرب من الشعير ليس عليه قشر، كأنه حنطة. «الصحاح» (1/ 253).
(5)
كذا في الأصل والطبعتين و «مجموع الفتاوى» ، وسيأتي قريبًا بلفظ «عرضًا» ، وهو الموافق لمصادر التخريج.
(6)
أخرجه عبد الرزاق (14120)، وسعيد بن منصور ــ ومن طريقه ابن حزم في «المحلّى» (9/ 4 - 5) ــ، وابن المنذر في «الأوسط» (10/ 312) بإسناد صحيح.
(7)
كما في «مجموع الفتاوى» (29/ 505).
وقال حرب
(1)
: سألت أحمد فقلت: رجل أسلم إلى رجل دراهم في بر، فلما حلَّ الأجلُ لم يكن عنده بُرّ فقال
(2)
: قَوِّم الشعيرَ بالدراهم فخذ من الشعير؟ فقال: لا يأخذ منه الشعير إلا مثل كَيلِ البر أو أنقص. قلت: إذا كان البر عشرة أجربة يأخذ الشعير عشرة أجربة؟ قال نعم.
إذا عُرف هذا فاحتج المانعون بوجوه:
أحدها: الحديث.
والثاني: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه
(3)
.
الثالث: نهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن
(4)
، وهذا غير مضمون عليه لأنه في ذمة المُسْلَم إليه.
الرابع: أن هذا المبيع مضمون له على المُسلَم إليه، فلو جوَّزنا بيعه صار مضمونًا عليه للمشتري فيتوالى في المبيع ضمانان.
الخامس: أن هذا إجماع، كما تقدم.
هذا جملة ما احتجوا به.
قال المجوزون: الصواب جواز هذا العقد، والكلام معكم في مقامين:
(1)
كما في المصدر السابق، ومثله أيضًا في رواية رواية عبد الله (ص 288) وصالح (1/ 208).
(2)
أي المُسلَم إليه.
(3)
متفق عليه من حديث ابن عمر، وسيأتي في باب بيع الطعام قبل أن يُستوفى.
(4)
أخرجه أحمد (6628، 6671، 6918)، والترمذي (1234) وصححه، والنسائي (4629)، والحاكم (2/ 17)، من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه.
أحدهما: في الاستدلال على جوازه.
والثاني: في الجواب عما استدللتم به على المنع.
فأما الأول، فنقول: قال ابن المنذر
(1)
: ثبت عن ابن عباس أنه قال: «إذا أسلفت في شيء إلى أجل، فإن أخذت ما أسلفت فيه، وإلا فخُذ عَرَضًا أنقص منه، ولا تربح مرتين» . رواه سعيد
(2)
.
فهذا قول صحابي، وهو حجة ما لم يخالَف.
قالوا: وأيضًا فلو امتنعت المعاوضة عليه، لكان ذلك لأجل كونه مبيعًا لم يتصل به القبض، وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؟ فقال:«لا بأس أن تأخذَها بسِعر يومها ما لم تتفرَّقا وبينكما شيء»
(3)
. فهذا بيع للثمن ممن هو في ذمته قبل قبضه بجنس آخر
(4)
، فما
(1)
في «الإشراف» (6/ 114).
(2)
في الأصل وط. الفقي: «شعبة» ، تحريف. وقد سبق في تخريجه قريبًا أن سعيد بن منصور رواه.
(3)
أخرجه أحمد (4883، 5628، 6239)، وأبو داود (3354)، والترمذي (1242)، والنسائي (4582)، وابن حبان (4920)، والحاكم (2/ 44)، كلهم من طريق سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر به.
والحديث أعلّه الأئمة النقاد بالوقف، فإن سماكًا قد تفردّ برفعه وهو سيئ الحفظ، وغيره يرويه موقوفًا على ابن عمر، وهو الصواب. انظر:«العلل» للدارقطني (3072)، و «معرفة السنن» (8/ 113 - 114).
(4)
«بجنس آخر» من (هـ)، وفي الأصل بياض قدر كلمة أو كلمتين، وكتب في الهامش:«بياض في الأصل» .
الفرق بينه وبين الاعتياض عن دين السَّلَم بغيره؟
قالوا: وقد نص أحمد على جواز بيع الدين لمن هو في ذمته ولغيره، وإن كان أكثر أصحابنا لا يحكون عنه جوازه لغير من هو في ذمته، فقد نص عليه في مواضع؛ حكاه شيخنا أبو العباس ابن تيمية
(1)
عنه.
والذين منعوا جواز بيعه لمن هو في ذمته قاسوه على السلم وقالوا: لأنه دَين فلا يجوز بيعه كدين السَّلَم.
وهذا ضعيف من وجهين: أحدهما: أنه قد ثبت في حديث ابن عمر جوازه.
والثاني: أن دين السلم غير مجمع على منع بيعه، فقد ذكرنا عن ابن عباس جوازه، ومالك يُجوِّز بيعه من غير المستسلف.
والذين فرَّقوا بين دين السلم وغيره لم يفرقوا بفرق مؤثر، والقياسُ التسوية بينهما.
وأما المقام الثاني، فقالوا: أما الحديث فالجواب عنه مِن وجهين:
أحدهما: ضعفه كما تقدم.
والثاني: أن المراد به أن لا يصرف المُسلَم فيه إلى سَلَم آخر أو يبيعه بمعيَّن مؤجل، لأنه حينئذ يصير بيع دين بدين، وهو منهي عنه، وأما بيعه بعَرَضٍ
(2)
حاضر من غير ربح فلا محذور فيه، كما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم في
(1)
«مجموع الفتاوى» (29/ 506).
(2)
في الطبعتين: «بعوض» ، والمثبت أقرب إلى رسم الأصل (هـ).
حديث ابن عمر. فالذي نهى عنه من ذلك هو من جنس ما نهى عنه من بيع الكالئ بالكالئ
(1)
، والذي يجوز منه هو من جنس ما أَذِن فيه من بيع النقد لمن هو في ذمته بغيره من غير ربح.
وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه، فهذا إنما هو في الطعام
(2)
المعين أو المتعلقِ به حقُّ التوفية من كيلٍ أو وزنٍ، فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه.
وأما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء، وفائدته سقوط ما في ذمته عنه، لا حدوث ملك له، فلا يقاس بالبيع الذي يتضمن شغل الذمة، فإنه إذا أخذ منه عن دين السلم عرضًا أو غيرَه أسقط ما في ذمته، فكان كالمستوفي دينَه لأن بدله يقوم مقامه، ولا يدخل هذا في بيع الكالئ بالكالئ بحال، والبيع المعروف هو أن يملك المشتري ما اشتراه. وهنا لم يَملِك شيئًا، بل سقط الدين من ذمته.
ولهذا لو وفاه ما في ذمته لم يُقَل: إنه باعه دراهم بدراهم، بل يقال: وفاه حقه، بخلاف ما لو باعه دراهم معينة بمثلها فإنه بيع. ففي الأعيان إذا عاوض عليها بجنسها أو بعين غير جنسها يُسمَّى بيعًا، وفي الدَّين
(3)
إذا وفاها
(1)
أي بيع الدين بالدين، وقد جاء ذلك في حديث ضعيف. أخرجه عبد الرزاق (14440)، والدارقطني (3060، 3061)، والبيهقي (5/ 290). وقال الإمام أحمد وابن المنذر: ليس في هذا حديث يصح، إنما إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين. انظر:«البدر المنير» (6/ 567 - 570)، و «الأوسط» (10/ 118 - 119).
(2)
«الطعام» من (هـ).
(3)
(هـ): «الديون» .
بجنسها لم يكن بيعًا فكذلك إذا وفاها بغير جنسها لم يكن بيعًا، بل هو إيفاء فيه معنى المعاوضة. ولو حلف لَيقضينَّه حقَّه
(1)
غدًا فأعطاه عنه عَرَضًا، بَرَّ في أصح الوجهين.
وجواب آخر: أن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه أُريدَ به بيعه من غير بائعه. وأما بيعه من البائع ففيه قولان معروفان. وذلك لأن العلة في المنع إن كانت توالي الضمانين اطَّرد المنع في البائع وغيره. وإن كانت عدم تمام الاستيلاء، وأن البائع لم تنقطع عُلَقُه عن المبيع بحيث ينقطع طمعه في الفسخ ولا يتمكن من الامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه= لم يطرد النهي في بيعه [ق 187] من بائعه قبل قبضه، لانتفاء هذه العلة في حقه. وهذه العلة أظهر، وتوالي الضمانين ليس بعلة مؤثرة، ولا تنافي بين كون العين الواحدة مضمونةً له من وجه وعليه من وجه آخر، فهي مضمونة له وعليه باعتبارين. وأي محذور في هذا؟ كمنافع الإجارة، فإن المستأجر له أن يُؤَاجِر
(2)
ما استأجره، فتكون المنفعة مضمونة له وعليه، وكالثمار بعد بدوِّ صلاحها، له أن يبيعها على الشجر، وإن أصابتها جائحة رجع على البائع فهي مضمونة له وعليه، ونظائره كثيرة.
وأيضًا: فبيعه من بائعه شبيه بالإقالة، وهي جائزة قبل القبض على الصحيح
(3)
.
(1)
في الأصل و (هـ) وط. المعارف: «حقًّا» ، ولعل المثبت من ط. الفقي هو الصواب، وهو موافق لما في «مجموع الفتاوى» (29/ 513)، والمؤلف صادر عنه.
(2)
في الطبعتين: «يؤجّر» ، والمثبت من الأصل، وهما بمعنى.
(3)
في الأصل والطبعتين: «الصحة» ، والمثبت من (هـ).
وأيضًا: فدين السلم تجوز الإقالة فيه بلا نزاع، وبيع المبيع لبائعه قبل قبضه غير جائز في أحد القولين، فعُلِم أن الأمر في دين السلم أسهل منه في بيع الأعيان. فإذا جاز في الأعيان أن تباع لبائعها قبل القبض فدين السلم أولى بالجواز، كما جازت الإقالة فيه قبل القبض اتفاقًا بخلاف الإقالة في الأعيان.
ومما يوضح ذلك: أن ابن عباس لا يُجوِّز بيع المبيع قبل قبضه، واحتَجّ عليه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه وقال:«أحسب كل شيء بمنزلة الطعام»
(1)
. ومع هذا فثبت عنه أنه جوَّز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح فيه، ولم يفرق بين الطعام وغيره، ولا بين المكيل والموزون وغيرهما؛ لأن البيع هنا من البائع الذي هو في ذمته، فهو يقبضه من نفسه لنفسه. بل في الحقيقة ليس هنا قبض، بل يسقط عنه ما في ذمته فتبرأ ذمته، وبراءةُ الذمم مطلوب في نظر الشرع، لِما في شَغْلها من المفسدة. فكيف يصح قياس هذا على بيع شيءٍ
(2)
غيرِ مقبوضٍ لأجنبي لم يتحصَّل بعدُ ولم تنقطع عُلَقُ بائعه عنه؟
وأيضًا: فإنه لو سلَّم المُسلَمَ فيه ثم أعاده إليه جاز، فأي فائدة في أخذه منه ثم إعادته إليه، وهل ذلك إلا مجرد كلفة ومشقَّةٍ لم تحصل بها فائدة؟ ومن هنا يُعرَف فضل علم الصحابة وفقهِهم على كل من بعدهم.
قالوا: وأما استدلالكم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن، فنحن نقول بموجَبه، وأنه لا يربح فيه، كما قال ابن عباس: «خذ عرضًا بأنقص منه، ولا
(1)
«صحيح مسلم» (1525/ 30).
(2)
الأصل: «شيء بيع» تقديم وتأخير، والمثبت من (هـ).
تربح مرتين». فنحن إنما نُجوِّز له أن يعاوض عنه بسعر يومه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر في بيع النقود في الذمة:«لا بأس إذا أخذتَها بسعر يومها» ، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما جوَّزَ الاعتياض عن الثمن بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.
وقد نص أحمد على هذا الأصل في بدل القرض وغيره من الديون: أنه إنما يعتاض عنه بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.
وكذلك قال مالك: يجوز الاعتياض عنه بسعر يومه، كما قال ابن عباس، لكن مالك يستثني الطعام خاصة؛ لأن مِن أصله أن بيع الطعام قبل قبضه لا يجوز بخلاف غيره
(1)
.
وأما أحمد، فإنه فرق بين أن يعتاض عنه بعرض أو حيوان أو نحوه، وبين
(2)
أن يعتاض بمكيل أو موزون؛ فإن كان بعرض ونحوه جوَّزه بسعر يومه، كما قال ابن عباس ومالك، وإن اعتاض عن المكيل بمكيل، أو عن الموزون بموزون، فإنه منعه لئلا يشبه بيع المكيل بالمكيل من غير تقابض، إذ كان لم توجد حقيقة التقابض من الطرفين، ولكن جوزه إذا أخذ بقدره مما هو دونه، كالشعير عن الحنطة، نظرًا منه إلى أن هذا استيفاء لا معاوضة، كما يستوفى الجيد عن الرديء. ففي العرض جوَّز المعاوضة، إذ لا يشترط هناك تقابض، وفي المكيل والموزون منع المعاوضة، لأجل التقابض، وجوز أخذ قدر حقه أو دونه، لأنه استيفاء، وهذا من دقيق فقهه رضي الله عنه.
(1)
انظر: «الموطأ» (1927، 1928).
(2)
الأصل: «دون» ، والمثبت من (هـ).
قالوا: وأما قولكم: إن هذا الدين مضمون له، فلو جوزنا بيعه لزم توالي الضمانين، فهو دليل باطل من وجهين:
أحدهما: لا توالي ضمانين هنا أصلًا، فإن الدَّين كان مضمونًا له في ذمة المُسْلَم إليه، فإذا باعه إياه لم يصر مضمونًا عليه بحال، لأنه مقبوض في ذمة المسلم إليه، فمِن أي وجه يكون مضمونًا على البائع؟ بل لو باعه لغيره لكان مضمونًا له على المُسْلَم إليه ومضمونًا عليه للمشتري، وحينئذ فيتوالى ضمانان.
الجواب الثاني: أنه لا محذور في توالي الضمانين، وليس بوصف مستلزم لمفسدةٍ يَحرُم العقدُ لأجلها. وأين الشاهد من أصول الشرع لتأثير هذا الوصف؟ وأيُّ حكم علق الشارع فساده على توالي الضمانين؟ وما كان من الأوصاف هكذا فهو طردي لا تأثير له. وقد قدمنا ذكر الصور التي فيها توالي الضمانين. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جوز المعاوضة عن ثمن المبيع في الذمة، ولا فرق بينه وبين دين السلم.
قالوا: وأيضًا فالمبيع إذا تلف قبل التمكُّن من قبضه كان على البائع أداء الثمن الذي قبضه من المشتري، فإذا كان هذا المشتري قد باعه فعليه أداء الثمن الذي قبضه من المشتري الثاني، فالواجب بضمان هذا غير الواجب بضمان الآخر؛ فلا محذور في ذلك.
وشاهده: المنافع في الإجارة، والثمرة قبل القطع، فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة التي لا معارض لها وضعُ الثمن عن [ق 188] المشتري إذا أصابتها جائحة، مع هذا يجوز التصرف فيها. ولو تلفت لصارت مضمونة عليه بالثمن الذي أخذه، كما هي مضمونة له بالثمن الذي دفعه.
قالوا: وأما قولكم: إن المنع منه إجماع، فكيف يصحّ دعوى الإجماع مع مخالفة حبر الأمة ابن عباس، وعالم المدينة مالك بن أنس؟ فثبت أنه لا نص في التحريم، ولا إجماع ولا قياس، وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة كما تقدم، والواجب عند التنازع: الرد إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
فصل
وأما المسألة الثانية: وهي إذا انفسخ العقد بإقالة أو غيرها، فهل يجوز أن يأخذ عن دين السَّلَم عوضًا من غير جنسه؟ فيه وجهان
(1)
:
أحدهما: لا يجوز ذلك حتى يقبضه ثم يصرفه فيما شاء. وهذا اختيار الشريف أبي جعفر، وهو مذهب أبي حنيفة
(2)
.
والثاني: يجوز أخذ العوض عنه. وهو اختيار القاضي أبي يعلى، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مذهب الشافعي
(3)
. وهو الصحيح، فإن هذا عوض مستقر في الذمة، فجازت المعاوضة عليه كسائر الديون من القرض وغيره.
وأيضًا: فهذا مال رجع إليه بفسخ العقد، فجاز أخذ العوض عنه، كالثمن في المبيع.
وأيضًا: فحديث ابن عمر في المعاوضة عما في الذمة صريح في الجواز.
واحتج المانعون بقوله: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» .
(1)
انظر: «المغني» (6/ 418)، و «الإنصاف» (12/ 303 - 304).
(2)
انظر: «بدائع الصنائع» (5/ 181).
(3)
انظر: «الأم» (4/ 276)
قالوا: ولأنه مضمون على المسلم إليه بعقد السلم فلم تَجُز المعاوضة عليه قبل قبضه وحيازته كالمُسْلَم فيه.
قال المجوزون: أما استدلالكم بالحديث، فقد تقدم ضعفه. ولو صح لم يتناول محل النزاع، لأنه لم يصرف المسلم فيه في غيره، وإنما عاوض عن دين السلم بغيره، فأين المسلم فيه من رأس مال السلم؟
وأما قياسكم المنع على نفس المسلم فيه، فالكلام فيه أيضًا، وقد تقدم: أنه لا نص يقتضي المنع منه، ولا إجماع ولا قياس.
ثم لو قدر تسليمه لكان الفرق بين المسلم فيه ورأس مال السلم واضحًا، فإن المسلم فيه مضمون بنفس العقد، والثمن إنما يُضمَن بعد فسخ العقد فكيف يُلْحَق أحدهما بالآخر؟ فثبت أنه لا نص في المنع، ولا إجماع ولا قياس.
فإذا عُرِف هذا فحكم رأس المال بعد الفسخ حكم سائر الديون، لا يجوز أن تُجعل سلَمًا في شيء آخر، لوجهين:
أحدهما: أنه بيع دين بدين.
والثاني: أنه من ضمان المسلم إليه، فإذا جعله سلمًا في شيء آخر ربح فيه، وذلك ربح ما لم يضمن، ويجوز فيه ما يجوز في دين القرض وأثمان المبيعات إذا فُسِخت
(1)
، فإذا أخذ فيه أحد النقدين عن الآخر وجب قبض العوض في المجلس، لأنه صرف بسعر يومه، لأنه غير مضمون عليه.
(1)
غير محرر في الأصل، وفي الطبعتين:«قسمت» ، والصواب ما أثبت.
وإن عاوض عن المكيل بمكيل، أو عن الموزون بموزون من غير جنسه، كقُطن بحرير أو كتّان، وجب قبض عوضه في مجلس التعويض. وإن بيع بغير مكيل أو موزون، كالعقار والحيوان، فهل يُشترط القبض في مجلس التعويض؟ فيه وجهان، أصحهما: لا يشترط، وهو منصوص أحمد. والثاني: يشترط. ومأخذ القولين: أن تأخير قبض العوض يشبه بيع الدين بالدين، فيمنع منه؛ ومأخذ الجواز ــ وهو الصحيح ــ أن النساء بين ما لا يجمعهما علة الربا كالحيوان بالموزون جائز، للاتفاق على جواز سَلَم النقدين في ذلك، والله أعلم.
ونظير هذه المسألة: إذا باعه ما يجري فيه الربا، كالحنطة مثلا بثمن مؤجل، فحل الأجل فاشترى بالثمن حنطة أو مكيلًا آخر من غير الجنس، مما يمتنع ربا النساء بينهما، فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان
(1)
:
أحدهما: المنع. وهو المأثور عن ابن عمر، وسعيد بن المسيب، وطاوس. وهو مذهب مالك وإسحاق
(2)
.
والثاني: الجواز. وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وابن المنذر
(3)
. وبه قال جابر بن زيد، وسعيد بن جبير، وعلي بن الحسين. وهو اختيار صاحب «المغني» وشيخنا
(4)
.
(1)
انظر: «المغني» (6/ 263 - 264)، والمؤلف صادر عنه.
(2)
انظر: «المدونة» (9/ 35، 99)، و «مسائل أحمد وإسحاق» برواية الكوسج (2/ 131 - 132).
(3)
انظر: «الأم» (4/ 159)، و «الأصل» (2/ 506)، و «الإشراف» (6/ 133).
(4)
انظر: «مجموع الفتاوى» (29/ 300 - 301).