الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 -
باب ما جاء في ذكاة الجنين
299/ 2709 - عن أبي سعيد ــ وهو الخدري ــ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنين، فقال:«كُلُوهُ إن شئتم» . وقال مسدد: قال: قلنا: يا رسول الله، ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة، في بطنها الجنينُ، أنُلْقيه أم نأكله؟ فقال:«كلوه إن شئتم، فإنّ ذكاتَه ذكاةُ أمِّه» .
وأخرجه ابن ماجه والترمذي
(1)
وقال: حسن. آخر كلامه. وفي إسناده مُجالد بن سعيد الهَمْداني، تكلم فيه غير واحد
(2)
.
300/ 2710 - وعن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ذكاة الجنين ذكاةُ أمه»
(3)
.
فيه عبيد الله بن أبي زياد المكي القداح، وفيه مقال
(4)
.
وأخرجه الإمام أحمد في «المسند»
(5)
عن أبي عُبيدة الحدَّاد عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي الودّاك عن أبي سعيد مرفوعًا: «ذكاة الجنين ذكاة أمّه» . وهذا إسناد حسن، ويونس وإن تُكلِّم فيه فقد احتجَّ به مسلم في «صحيحه»
(6)
.
(1)
أبو داود (2827)، الترمذي (1476)، وابن ماجه (3199)، كلهم من طريق مجالد بن سعيد، عن أبي الودّاك، عن أبي سعيد.
(2)
إلا أنه قد توبع، تابعه يونس بن أبي إسحاق عن أبي الودّاك كما سيأتي.
(3)
«سنن أبي داود» (2828) من طريق عتّاب بن بشير، عن عبيد الله بن أبي زياد القدّاح المكي، عن أبي الزبير، عن جابر.
(4)
ولكنه لم يتفرّد به عن أبي الزبير، بل له ثلاث متابعات على ضعف فيها، وبمجموعها يثبت الحديث وتنتهض به الحجة. انظر:«التلخيص الحبير» (4/ 156 - 157).
(5)
برقم (11343). أخرجه أيضًا ابن حبان (5889).
(6)
كلام المنذري مثبت من (هـ)، وفيه تصرّف يسير من المؤلف.
والبراء بن عازب.
وقوله في بعض ألفاظه
(1)
: «فإن ذكاته ذكاة أمه» مما يبطل تأويل من رواه بالنصب وقال: ذكاة الجنين ذكاةَ أمه
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: وهذا باطل من وجوه:
أحدها: أن سياق الحديث يبطله، فإنهم [ق 156] سألوه عن الجنين الذي يوجد في بطن الشاة: أيأكلونه أم يُلقونه؟ فأفتاهم بأكله ورفع عنهم ما توهَّموه من كونه ميتة بأنّ ذكاةَ أمه ذكاةٌ له، لأنه جزء من أجزائها كيَدِها
(3)
ورأسها، وأجزاءُ المذبوح لا تفتقر إلى ذكاة مستقلة.
والحمل ما دام جنينًا فهو كالجزء منها، لا يُفرَد
(4)
بحكم، فإذا ذُكِّيت الأم أتت الذكاة على جميع أجزائها التي من جملتها الجنين. فهذا هو القياس الجلي لو لم يكن في المسألة نص.
الثاني: أن السؤال لابد وأن يقع عنه
(5)
الجوابُ، والصحابة لم يسألوا عن كيفية ذكاته، ليكون قوله:«ذكاته كذكاة أمّه» جوابًا لهم، وإنما سألوا عن
(1)
وهو لفظ حديث أبي سعيد الخدري أول الباب.
(2)
كلام المنذري بتمامه مثبت من (هـ)، والمجرد لم يذكر منه إلا الفقرة الأخيرة، وفيها زيادة وتصرّف من المؤلف عمّا في «المختصر» (4/ 120 - 121).
(3)
(هـ): «كبدنها» .
(4)
في الطبعتين: «ينفرد» خلافًا للأصل.
(5)
في الأصل: «عين» ، وفي «هـ»:«عن» ، ولعل الصواب ما أثبت، وأصلحه في ط. الفقي هكذا:«أن الجواب لابد وأن يقع عن السؤال» .
أكل الجنين الذي يجدونه بعد الذبح، فأفتاهم بأكله معلِّلًا جَرَيان
(1)
ذكاة أمه عليه، وأنه لا يحتاج إلى أن يُفرد بالذكاة.
الثالث: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق فهمًا لمراده بكلامه، وقد فهموا من هذا الحديث اكتفاءَهم بذكاة الأم عن ذكاة الجنين، وأنه لا يحتاج أن يُفرد بذكاة، بل يؤكل. قال عبد الله بن كعب بن مالك: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: «إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمّه»
(2)
، وهذا إشارة إلى جميعهم.
قال ابن المنذر
(3)
: كان الناس على إباحته، لا نعلم أحدًا منهم خالف ما قالوه، إلى أن جاء النعمان
(4)
، فقال: لا يحل، لأن ذكاة نفسٍ لا تكون ذكاة نفسَين.
الرابع: أن الشريعة قد استقرت على أن الذكاة تختلف بالقدرة والعجز،
(1)
ط. الفقي: «حلالًا بجريان» ، تحريف.
(2)
أخرجه عبد الرزاق (8641) وابن عبد البر في «الاستذكار» (5/ 264) بإسناد صحيح. وعبد الله بن كعب بن مالك من كبار التابعين، وقيل: وُلد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
(3)
ليس في القدر المطبوع من «الأوسط» و «الإشراف» ، وقد نقله الموفق في «المغني» (13/ 309).
(4)
هو أبو حنيفة، وهذا القول:«لا تكون ذكاةُ نفسٍ ذكاةَ نفسَين» كان يرويه أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قولَه، كما في «الموطأ» برواية محمد بن الحسن (652). ولعل إبراهيم قال ذلك في مسألة أخرى غير مسألة ذكاة الجنين، لأنه ثبت من طرق صحيحة عنه أنه قال:«الجنين ذكاته ذكاة أمه» . أخرجها الفسوي في «المعرفة والتأريخ» (2/ 792) ومن طريقه البيهقي (9/ 336).
فذكاة الصيد الممتنع: بجَرْحه في أي موضعٍ كان، بخلاف المقدور عليه، وذكاة المتردية لا يمكن إلا بطعنها في أي موضع كان، ومعلوم أن الجنين لا يتوصل إلى ذبحه بأكثر من ذبح أمه، فيكون «ذكاةُ أمه ذكاةٌ له» هو محضَ القياس.
الخامس: أن قوله: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» جملة خبرية، جُعل الخبر فيها نفسَ المبتدأ، فهي كقولك: غذاء الجنين غذاء أمه. ولهذا جُعلت الجملةُ اسمَ
(1)
«إن» وخبرَها في قوله: «فإن ذكاتَه ذكاةُ أمه» . وإذا كان هكذا لم يَجُز في «ذكاة أمه» إلا الرفع، ولا يجوز نصبه لبقاء المبتدأ بغير خبر، فيخرج الكلام عن الإفادة والتمام، إذ الخبرُ محل الفائدة، وهو غير معلوم.
السادس: أنه إذا نصب «ذكاة أمه» فلا بد وأن يُجعل الأول في تقدير فعلٍ لينتصب عنه المصدر، ويكون تقديره: يُذكَّى الجنينُ ذكاةَ أمه، أو: ذكُّوا الجنينَ ذكاةَ أمه، ونحوه. ولو أريد هذا المعنى لقيل: ذكوا الجنين ذكاة أمه، أو يُذكَّى، كما يقال: اضربْ زيدًا ضربَ عمرٍو، أو: يُضرب، ونحوه.
فأما أن يقال: ضَرْبُ زيدٍ ضَرْبَ عمروٍ، ويُنصب الثاني على معنى: اضربْ زيدًا ضربَ عمرٍو= فهذا لا يجوز، وليس كلامًا عربيًّا، إلا إذا نُصِب الجُزءان معًا، فتقول: ذكاةَ الجنين ذكاةَ أمه، وهذا مع أنه خلاف رواية الناس وأهل الحديث قاطبة، فهو أيضًا ممتنع، فإن المصدر لا بد له من فعل يعمل فيه، فيؤول التقدير إلى: ذكوا ذكاةَ الجنين ذكاةَ أمه، ويصير نظير قولك:«ضَرْبَ زيدٍ ضربَ عمرٍو» بنصبهما، وتقديره: اضربْ ضربَ زيدٍ ضربَ
(1)
ط. الفقي: «لتتميم» ، وفي ط. المعارف:«ليتم» ، كلاهما تحريف.
عمرٍو، وهذا إنما يكون فيه المصدر بدلًا من اللفظ بالفعل إذا كان مُنَكَّرًا، نحو «ضربًا زيدًا» أي اضربْ زيدًا. ولهذا كان قولك:«ضربًا زيدًا» كلامًا تامًّا، وقولك:«ضَرْبَ زيدٍ» ليس بكلام تام، فإن الأول يتضمن: اضربْ زيدًا ــ بخلاف الثاني فإنه مفرد فقط ــ، فيعطي ذلك معنى الجملة، فأما إذا أضفته وقلتَ: ضرْبَ زيدٍ، فإنه يصير مفردًا ولا يجوز تقديره باضرِبْ زيدًا، ويدل على بطلانه:
الوجه السابع: وهو أن الجنين إنما يُذكَّى مثلَ ذكاةِ أمه إذا خرج حيًّا، وحينئذ فلا يؤكل حتى يذكى ذكاةً مستقلة، لأنه حينئذ له حكم نفسه. وهم لم يسألوا عن هذا، ولا أجيبوا به، فلا السؤال دل عليه، ولا هو جواب مطابق لسؤالهم، فإنهم قالوا: نذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله؟ فقال: «كلوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه» . فهم إنما سألوه عن أكله: أيحل لهم أم لا؟ فأفتاهم بأكله، وأزال عنهم ما عَلِم أنه يقع في أوهامهم من كونه ميتةً بأنه ذُكِّيَ بذكاة الأم.
ومعلوم أن هذا الجواب والسؤال لا يطابق: «ذَكُّوا الجنين مثلَ ذكاة أمه» ، بل كان الجواب حينئذ: لا تأكلوه إلا أن يخرج حيًّا، فتذكُّونه ذكاةً
(1)
مثلَ ذكاةِ أمه، وهذا ضد مدلول الحديث، والله أعلم.
وبهذا يُعلم فساد ما سلكه أبو الفتح ابن جِنِّي
(2)
وغيرُه في إعراب هذا الحديث، حيث قالوا:«ذكاةُ أمه» ، على تقدير مضاف محذوف، أي ذكاة الجنين مثلُ ذكاةِ أمّه، وحَذْفُ المضاف وإقامةُ المضاف إليه كثير. وهذا إنما
(1)
«فتذكونه ذكاة» من (هـ)، وفي الأصل:«فذكاته» .
(2)
فقد ألّف في إعرابه رسالة، نقل منها السيوطي في «عقود الزبرجد» (1/ 257 - 260).