الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فمن محاسن الشريعة الكاملة الحكيمة: منعُ المشتري من التصرف فيه حتى يتم استيلاؤه عليه، وتنقطع عُلَق البائع، وينفطم عنه، [ق 192] فلا يطمع في الفسخ والامتناع من الإقباض، وهذا من المصالح التي لا يُهملها الشارع، حتى إن من لا خبرة له من التجار بالشرع يتحرَّى ذلك ويقصده، لما في ظنه من المصلحة وسدِّ باب المفسدة. وهذه العلة أقوى من تَينِك العلتين.
وعلى هذا، فإذا باعه من بائعه قبل قبضه
(1)
جاز على الصحيح، لانتفاء هذه العلة. ومن علّل النهي بتوالي الضمانين يمنع بيعه من بائعه لوجود العلة، فبيعه من بائعه يشبه الإقالة، والصحيح من القولين جواز الإقالة قبل القبض وإن قلنا: هي بيع.
وعلى هذا خرج حديث ابن عمر في الاستبدال بثمن المبيع والمصارفة عليه قبل قبضه، فإنه استبدال ومصارفة مع العاقد، لا مع غيره.
16 -
باب في الرجل يبيع ما ليس عنده
412/ 3361 - عن عمرو بن شعيب، قال: حدثني أبي، عن أبيه ــ حتى ذكر عبد الله بن عمرو ــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَحِلُّ سَلَف وبيع، ولا شرطانِ في بيع، ولا ربحُ ما لم تضمن، ولا بيعُ ما ليس عندك» .
وأخرجه النسائي وابن ماجه والترمذي
(2)
، وقال: حسن صحيح. ويشبه أن يكون صحّحه لتصريحه فيه بذكر عبد الله بن عمرو، ويكون مذهبه في الامتناع من الاحتجاج بحديث عمرو بن شعيب إنما هو الشكّ في إسناده لجواز أن يكون
(1)
الأصل: «باعه قبل قبضه من بائعه» ، والمثبت من (هـ) أوضح.
(2)
أبو داود (3504)، والنسائي (4611)، وابن ماجه (2188)، والترمذي (1234).
الضمير عائدًا على محمد بن عبد الله بن عمرو، فإذا صرَّح بذكر عبد الله بن عمرٍو انتفى ذلك. هذا كلام المنذري
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: هذا الحديث أصل من أصول المعاملات، وهو نص في تحريم الحِيَل الربوية، وقد اشتمل على أربعة أحكام:
الحكم الأول: تحريم الشرطين في البيع، وقد أشكل على أكثر الفقهاء معناه من حيث إن الشرطين إن كانا فاسدين فالواحد حرام، فأي فائدة لذكر الشرطين؟ وإن كانا صحيحين لم يَحْرُما.
فقال ابن المنذر
(2)
: قال أحمد وإسحاق فيمن اشترى ثوبًا واشترط على البائع خياطته وقِصارته، أو طعامًا واشترط طحنه وحمله: إن شرط أحدَ هذه الأشياء فالبيع جائز، وإن شرط شرطين فالبيع باطل. وبهذا فسّره القاضي أبو يعلى
(3)
وغيره.
وعن أحمد في تفسيره رواية ثانية، حكاها الأثرم
(4)
، وهو أن يشتريها على أن لا يبيعها من أحد ولا يطأها؛ ففسّره بالشرطين الفاسدين.
وعنه رواية ثالثة، حكاها إسماعيل بن سعيد الشالَنْجي
(5)
عنه، هو أن يقول: إذا بعتَها فأنا أحق بها بالثمن، وأن تخدمني سنة. ومضمون هذه
(1)
في «المختصر» (5/ 147 - 150)، والفقرة مثبتة من (هـ).
(2)
في «الإشراف» (6/ 124)، والمؤلف صادر عن «المغني» (6/ 322).
(3)
كما في «المغني» (6/ 322).
(4)
المصدر السابق.
(5)
المصدر السابق.
الرواية أن الشرطين يتعلقان بالبائع، فيبقى له فيها عُلقتان: علقة قبل التسليم، وهي الخدمة؛ وعلقة بعد البيع، وهو كونه أحق بها. فأما اشتراط الخدمة فيصح، وهو استثناء منفعة المبيع مدةً، كاستثناء ركوب الدابة ونحوه. وأما شرط كونه أحق بها بالثمن، فقال في رواية المرُّوذي
(1)
: هو في معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا شرطان في بيع» ، يعني لأنه شرط أن يبيعه إياه، وأن يكون البيع بالثمن الأول، فهما شرطان في بيع.
وروى عنه إسماعيل بن سعيد
(2)
جواز هذا البيع. وتأوله بعض أصحابنا على جوازه مع فساد الشرط، وحمل رواية المرُّوذي على فساد الشرط وحده. وهو تأويل بعيد، ونصُّ أحمد يأباه.
قال إسماعيل بن سعيد: ذكرت لأحمد حديث ابن مسعود أنه قال: «ابتعتُ من امرأتي زينب الثقفية جارية، وشرطتُ لها: إنْ
(3)
بعتُها فهي لها
(4)
بالثمن الذي ابتعتُها به، فذكرت ذلك لعمر، فقال: لا تَقرَبْها ولأحدٍ فيها شرط»
(5)
. فقال أحمد: البيع جائز، و «لا تقربها» لأنه كان فيها شرط واحد للمرأة، ولم يقل عمر في ذلك: البيع فاسد.
(1)
كما في «المغني» (6/ 171).
(2)
كما في «المغني» (6/ 171)، وسيأتي قريبًا لفظ روايته بتمامه.
(3)
الأصل: «أني» ، والتصحيح من (هـ) و «المغني» .
(4)
من (هـ)، وفي الأصل:«لي» خطأ، وإنما يصحّ لو كان أوّله: «اشترطَتْ عليه: أنّك إن بعتَها
…
»، كما هو لفظ «الموطأ» .
(5)
أخرجه مالك في «الموطأ» (1801)، وعبد الرزاق (14291)، وابن المنذر في «الأوسط» (10/ 235).
فهذا يدل على تصحيح أحمد للشرط من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه قال: «لا تقربها» ، ولو كان الشرط فاسدًا لم يمنع من قربانها.
الثاني: أنه علل ذلك بالشرط، فدل على أن المانع من القربان هو الشرط، وأنَّ وطأها يتضمن إبطال ذلك الشرط، لأنها قد تحمل فيمتنع عودها إليه
(1)
.
الثالث: أنه قال: «كان فيها شرط واحد للمرأة» ، فذِكْره وحدةَ الشرط يدل على أنه صحيح عنده، لأن النهي إنما هو عن الشرطين.
وقد حكى عنه بعض أصحابنا رواية صريحة: أن البيع جائز والشرطَ صحيح. ولهذا حمل القاضي
(2)
منعه من الوطء على الكراهة، لأنه لا معنى لتحريمه عنده مع فساد الشرط. وحمله ابن عقيل على الشبهة، للاختلاف في صحة هذا العقد.
وقال القاضي في «المجرد»
(3)
: ظاهر كلام أحمد: أنه متى شرط في العقد شرطين بطل، سواءٌ كانا صحيحين أو فاسدين لمصلحة العقد أو لغير مصلحته، أخذًا بظاهر الحديث وعملًا بعمومه.
وأما أصحاب الشافعي وأبي حنيفة
(4)
فلم يفرقوا بين الشرط
(1)
في الأصل: «لأنه قد تحمل .... إليها» ، والتصحيح من (هـ).
(2)
كما في «المغني» (6/ 171)، وفيه قول ابن عقيل الآتي.
(3)
كما في «المغني» (6/ 322).
(4)
انظر: «الحاوي الكبير» (5/ 312 - 313)، و «المهذب» (9/ 451 - 453 مع المجموع)؛ و «الأصل» (2/ 441) للشيباني، و «المبسوط» (13/ 23).
والشرطين، وقالوا: يَبْطل البيعُ بالشرط الواحد
(1)
لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط
(2)
، وأما الشروط الصحيحة فلا تؤثر في العقد وإن كثرت. وهؤلاء ألغوا التقييد بالشرطين، ورأوا أنه لا أثر له أصلًا.
وكل هذه الأقوال بعيدة عن مقصود الحديث، غيرُ مرادة منه.
فأما القول الأول، وهو أن يشترط حمل الحطب وتكسيره، وخياطة الثوب وقِصارته، ونحو ذلك= فبعيد، فإن اشتراط منفعة البائع في المبيع إن كان فاسدًا فسد الشرط والشرطان. وإن كان صحيحًا فأي فرق بين منفعة أو منفعتين أو منافع؟ لا سيما والمصححون لهذا الشرط قالوا: هو عقد قد جمع بيعًا وإجارة، وهما معلومان لم يتضمّنا غررًا، فكانا صحيحين. وإذا كان كذلك فما الموجِب لفساد الإجارة على منفعتين وصحتِها على منفعة؟ وأي فرق بين أن يشترط على بائع الحطب حملَه، أو حمله ونقلَه، أو حمله وتكسيرَه؟
وأما التفسير الثاني، وهو الشرطان الفاسدان، فأضعف وأضعف، لأن
(1)
أي مما لا يقتضيه مطلق العقد وليس متعلقًا بمصلحته.
(2)
أخرجه وكيع في «أخبار القضاة» (3/ 46)، والطبراني في «الأوسط» (4361)، والحاكم في «معرفة علوم الحديث» (ص 393)، وأبو نعيم في «مسند أبي حنيفة» (ص 160)، وابن عبد البر في «التمهيد» (22/ 185 - 186)، كلهم من طريق عبد الله بن أيوب القِرَبي الضرير، عن محمد بن سليمان الذهلي، عن عبد الوارث بن سعيد، عن أبي حنيفة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
إسناده واهٍ ومتنه منكر، فعبد الله القِرَبي متروك، والذهلي لم أعثر له على ترجمة، ولفظه مخالف لما ثبت من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:«لا يحل شرطان في بيع» . وانظر: «السلسلة الضعيفة» (491).
الشرط الواحد الفاسد منهي عنه، فلا فائدة في التقييد بشرطين في بيع، وهو يتضمن زيادةً في اللفظ، [ق 193] وإيهامًا بجواز الواحد. وهذا ممتنع على الشارع مثلُه، لأنه زيادة مخِلَّة بالمعنى.
وأما التفسير الثالث، وهو أن يشترط أنه إن باعها فهو أحق بها بالثمن، وأن ذلك يتضمن شرطين: أن لا يبيعها لغيره وأن يبيعه إياها بالثمن= فكذلك أيضًا، فإنّ كلَّ واحدٍ منهما إن كان فاسدًا فلا أثر للشرطين، وإن كان صحيحًا لم يفسد بانضمامه إلى صحيح مثله، كاشتراط الرهن والضمين، واشتراط التأجيل والرهن، ونحو ذلك.
وعن أحمد في هذه المسألة ثلاث روايات:
إحداهن: صحة البيع والشرط.
والثانية: فسادهما.
والثالثة: صحة البيع وفساد الشرط.
وهو رضي الله عنه إنما اعتمد في الصحة على اتفاق عمر وابن مسعود على ذلك. ولو كان هذا هو الشرطين في البيع لم يخالفه لقولِ أحدٍ على قاعدة مذهبه، فإنه إذا كان عنده في المسألة حديث صحيح لم يتركه لقول أحد، ويَعْجَب ممن يخالفه من صاحب أو غيره.
وقوله في رواية المرُّوذي: هو في معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا شرطان في بيع» ، ليس تفسيرًا منه صريحًا، بل تشبيه وقياس على معنى الحديث، ولو قُدِّر أنه تفسير فليس بمطابق لمقصود الحديث، كما تقدم.
وأما تفسير القاضي في «المجرد» ، فمِن أبعدِ ما قيل في الحديث
وأفسدِه، فإنَّ شرط ما يقتضيه العقد، أو ما هو من مصلحته، كالرهن والتأجيل والضمين ونقد كذا= جائز بلا خلاف، تعددت الشروط أو اتحدت.
فإذا تبين ضعف هذه الأقوال فالأولى تفسير كلام النبي صلى الله عليه وسلم بعضه ببعض، فنفسِّر كلامَه بكلامه فنقول: نظير هذا نهيه صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة، وعن بيعتين في بيعة. فروى سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة
(1)
.
وفي «السنن»
(2)
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من باع بيعتين في بيعةٍ فله أوكسهما أو الربا» .
وقد فُسِّرت البيعتان في البيعة بأن يقول: أبيعك بعشرة نقدًا، أو بعشرين نسيئةً، وهذا بعيد من معنى الحديث من وجهين:
أحدهما: أنه لا يدخل الربا في هذا العقد.
الثاني: أن هذا ليس بصفقتين، إنما هو صفقة واحدة بأحد الثمنين؛ وقد ردَّده بين الأَوكَس
(3)
أو الربا، ومعلوم أنه إذا أخذ بالثمن الأزيد في هذا العقد لم يكن ربا، فليس هذا معنى الحديث.
وفُسِّر بأن يقول: خُذ هذه السلعة بعشرة نقدًا، وآخذها منك بعشرين نسيئة، وهي مسألة العينة بعَينها. وهذا هو المعنى المطابق للحديث، فإنه إذا كان مقصوده الدراهم العاجلة بالآجلة فهو لا يستحق إلا رأس ماله، وهو
(1)
سبق تخريجه (ص 470).
(2)
أي «سنن أبي داود» ، وقد سبق تخريجه (ص 458).
(3)
في الأصل وط. الفقي: «الأوليين» ، وفي ط. المعارف:«الأوكسين» ، كلاهما تحريف.
أوكس الثمنين، فإن أخذه أخذ أوكسهما، وإن أخذ الثمن الأكثر فقد أخذ الربا؛ فلا محيد له عن أوكس الثمنين أو الربا.
ولا يحتمل الحديث غير هذا المعنى. وهذا هو بعينه الشرطان في بيع، فإن الشرط يطلق على العقد نفسه لأنهما تشارطا على الوفاء به فهو مشروط، والشرط يُطلَق على المشروط كثيرًا، كالضرب
(1)
على المضروب، والحلق على المحلوق، والنسخ على المنسوخ. فالشرطان كالصفقتين سواء، فشرطان في بيع كصفقتين في صفقة.
وإذا أردت أن يتضح لك هذا المعنى فتأمل نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر عن بيعتين في بيعة، وعن سلف وبيع ــ رواه أحمد
(2)
ــ، ونَهْيَه في هذا الحديث عن شرطين في بيع، وعن سلف وبيع
(3)
؛ فجمع السلف والبيع مع الشرطين في البيع، ومع البيعتين في البيعة.
وسرُّ ذلك: أن كِلا الأمرين يؤول إلى الربا، وهو ذريعة إليه. أما البيعتان في بيعة فظاهر، فإنه إذا باعه السلعة إلى شهر ثم اشتراها منه بما شرط له، كان قد باع بما شرط له بعشرة
(4)
نسيئة. ولهذا المعنى حرم الله ورسوله العينة.
(1)
في الطبعتين بعده: «يُطلق» خلافًا للأصل.
(2)
رقم (6628) من حديث عبد الله بن عمرو، وليس ابن عمر، وقد سبق التنبيه على ذلك. وهو نفس حديث الباب إلا أن لفظه:«بيعتين في بيعة» ، والذي في حديث الباب ــ وهو لفظ أكثر الروايات ــ:«شرطين في بيع» ، وهما بمعنى.
(3)
النهي عن سلف وبيع هو الحكم الثاني من الأحكام الأربعة التي ذكرها المؤلف في مطلع كلامه (ص 513).
(4)
ط. المعارف: «لعُسرة» ، تصحيف.
وأما السلف والبيع، فلأنه إذا أقرضه مائة إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة، فقد جعل هذا البيع ذريعةً إلى الزيادة في القرض الذي موجَبه رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك. فظهر سرُّ قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع» ، وقولِ ابن عمر:«نهى عن بيعتين في بيعة وعن سلف وبيع» ، واقترانِ إحدى الجملتين بالأخرى لمّا كانا سُلَّمًا إلى الربا.
ومن نظر في الواقع وأحاط به علمًا فهم مرادَ الرسول صلى الله عليه وسلم من كلامه، ونزّله عليه. وعلم أنه كلامُ من جُمِعت له الحكمة، وأوتي جوامع الكلم، فصلوات الله وسلامه عليه، وجزاه أفضل ما جزى نبيًّا عن أمته. وقد قال بعض السلف: اطلبوا الكنوز تحت كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما كان موجب عقد القرض رد المثل من غير زيادة كانت الزيادة ربا. قال ابن المنذر
(1)
: أجمعوا على أن المُسْلِف إذا شرط على المستسلف زيادةً أو هديةً فأسلف على ذلك= أن أخذ الزيادة على ذلك ربا. وقد روي عن ابن مسعود وأبيّ بن كعب وابن عباس أنهم نَهَوا عن قرضٍ جرَّ منفعة
(2)
.
وكذلك إن شرط أن يُؤَجِّره داره أو يبيعه شيئًا لم يَجُزْ، لأنه سُلَّم إلى الربا، ولهذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
ولهذا منع السلف رضي الله عنهم من قَبول هدية المقترض إلا أن يحتسبها
(1)
في «الإشراف» (6/ 142)، و «الأوسط» (10/ 407)، والمؤلف صادر عن «المغني» (6/ 436).
(2)
أسند هذه الآثار ابن المنذر في «الأوسط» (10/ 407 - 408). وأخرجها أيضًا ابن أبي شيبة (21058، 21059، 21068).
المُقرِض من الدين، فروى الأثرم
(1)
: أن رجلًا كان له على سمّاك عشرون درهمًا، فجعل يهدي إليه [ق 194] السمك، ويُقَوِّمه حتى بلغ ثلاثة عشر درهمًا، فسأل ابن عباس فقال: أعطه سبعة دراهم.
وروي عن ابن سيرين أن عمر أسلف أُبيَّ بن كعب عشرة آلاف درهم، فأهدى إليه أبيُّ بن كعب من ثمرة أرضه، فردَّها عليه ولم يقبلها
(2)
، فأتاه أُبي فقال: لقد علم أهل المدينة أني من أطيبهم ثمرة، وأنه لا حاجة لنا، فبِمَ منعتَ هديتنا؟ ثم أهدى إليه بعد ذلك فقبل
(3)
. فردّه عمر لما توهَّم أن يكون بسبب القرض، فلما تيقَّن أنه ليس بسبب القرض قبله. وهذا فصل النزاع في مسألة هدية المقترض.
وقال زِرّ بن حُبَيش: قلت لأُبي بن كعب: إني أريد أن أسير إلى أرض الجهاد إلى العراق، فقال: إنك تأتي أرضًا فاشٍ بها الربا، فإن أقرضتَ رجلًا قرضًا، فأتاك بقرضك ليؤدي إليك قرضك ومعه هدية، فاقبض قرضك واردُد عليه هديته
(4)
. ذكرهن الأثرم.
(1)
كما في «المغني» (6/ 437)، وأخرجه بنحوه عبد الرزاق (14651)، وابن المنذر في «الأوسط» (10/ 407)، والبيهقي (5/ 349 - 350).
(2)
في الأصل وط. المعارف: «يقبله» ، والتصويب من مصدر النقل.
(3)
ذكره في «المغني» (6/ 437) وعزاه إلى الأثرم، وأخرجه بنحوه عبد الرزاق (14647)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (11/ 114 - 115)، والبيهقي (5/ 349) وقال:«هذا منقطع» ، أي لأن ابن سيرين لم يُدرك القصة.
(4)
أخرجه عبد الرزاق (14652)، وابن أبي شيبة (21059)، وابن المنذر في «الأوسط» (10/ 408)، والبيهقي (5/ 349).
وفي «صحيح البخاري»
(1)
عن أبي بردة بن أبي موسى قال: قدمت المدينة، فلقيت عبد الله بن سلام ــ فذكر الحديث، وفيه: ثم قال لي: إنك بأرض فيها الربا فاشٍ، فإذا كان لك على رجل دين، فأهدى إليك حِمْل تِبْن، أو حمل قَتٍّ، أو حمل شعير، فلا تأخذه فإنه ربا.
قال ابن أبي موسى
(2)
: ولو أقرضه قرضًا ثم استعمله عملًا، لم يكن يستعمله مثله قبل القرض، كان قرضًا جرّ منفعة. قال: ولو استضاف غريمَه، ولم تكن العادة جرت بينهما بذلك= حسب له ما أكله.
واحتج له صاحب «المغني» بما روى ابن ماجه في «سننه»
(3)
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقْرَضَ
(4)
أحدكم قرضًا فأَهدى إليه، أو حمله على دابته، فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك».
واختلفت الرواية عن أحمد فيما لو أقرضه دراهم، وشرط عليه أن يوفّيه إياها ببلد آخر ولا مؤنة لحملها، فروي عنه أنه لا يجوز
(5)
. وكرهه الحسن وجماعة
(6)
،
(1)
برقم (3814).
(2)
في «الإرشاد» (ص 236)، والمؤلف صادر عن «المغني» (6/ 438).
(3)
رقم (2432) من طريق عتبة بن حميد الضبي، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس. إسناده ضعيف لضعف عتبة بن حميد، وقد روي عن أنس موقوفًا، وهو أشبه. أخرجه الطحاوي في «معاني الآثار» (11/ 116) والبيهقي في «شعب الإيمان» (5144). وانظر:«سنن البيهقي» (5/ 350).
(4)
ط. الفقي: «اقترض» ، خطأ.
(5)
انظر: «المغني» (6/ 436).
(6)
منهم ميمون بن أبي شبيب، أخرجه ابن أبي شيبة (21428، 21429) عنه وعن الحسن البصري. وانظر: «الأوسط» (10/ 417).
ومالك والأوزاعي والشافعي
(1)
.
وروي عنه الجواز، نقله ابن المنذر
(2)
؛ لأنه مصلحة لهما، فلم ينفرد المُقرض
(3)
بالمنفعة، وحكاه
(4)
عن علي، وابن عباس، والحسن بن علي، وابن الزبير، وابن سيرين، وعبد الرحمن بن الأسود، وأيوب، والثوري، وإسحاق. واختاره القاضي
(5)
.
ونظير هذا: لو أفلس غريمه فأقرضه دراهم يوفيه كلَّ شهر شيئًا معلومًا من ربحها جاز، لأن المُقرض لم ينفرد بالمنفعة.
ونظيره: لو كان له عليه حنطة، فأقرضه دراهم يشتري له بها حنطة ويوفيه إياها.
ونظير ذلك أيضًا: إذا أقرض فلّاحه ما يشتري به بقرًا يعمل بها في أرضه، أو بَذْرًا يَبْذُره فيها. ومنعه ابن أبي موسى
(6)
، والصحيح جوازه، وهو اختيار صاحب «المغني»
(7)
؛ وذلك لأن المستقرض إنما يقصد نفع نفسه،
(1)
انظر: «الكافي» لابن عبد البر (2/ 728 - 729)، و «الأوسط» (10/ 417)، و «الأم» (4/ 65).
(2)
في «الأوسط» (10/ 417) عنه وعن إسحاق، وانظر:«مسائلهما» برواية الكوسج (2/ 32).
(3)
في الأصل والطبعتين: «المقترض» ، خطأ.
(4)
أي ابن المنذر في «الأوسط» (10/ 415 - 417)، وقد أسند هذه الآثار أيضًا ابن أبي شيبة (21418 - 21427).
(5)
انظر: «المغني» (6/ 437)، وهو ما رجحه أبو محمد أيضًا.
(6)
في «الإرشاد» (ص 237).
(7)
(6/ 440).
ويحصل انتفاع المقرض ضمنًا، فأشبه أخذ السَّفْتَجَة به وإيفاءَه إياه في بلد آخر، من حيث إنه مصلحة لهما جميعًا.
والمنفعة التي تجرّ إلى الربا في القرض، هي التي تخص المقرض كسكنى دار المقترض وركوب دوابه، واستعماله، وقبول
(1)
هديته؛ فإنه لا مصلحة له في ذلك بخلاف هذه المسائل، فإن المنفعة مشتركة بينهما، وهما متعاونان عليها، فهي من جنس التعاون والمشاركة.
وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن
(2)
، فهو كما ثبت عنه في حديث عبد الله بن عمر حيث قال له: إني أبيع الإبل بالبقيع بالدراهم وآخذ الدنانير، وأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم. فقال:«لا بأس إذا أخذتها بسعر يومها وتفرقتما وليس بينكما شيء»
(3)
، فجوز ذلك بشرطين:
أحدهما: أن يأخذها بسعر يوم الصرف، لئلا يربح فيها وليستقر ضمانه.
والثاني: أن لا يتفرقا إلا عن تقابض، لأنه شرط في صحة الصرف لئلا يدخله ربا النسيئة.
والنهي عن ربح ما لم يضمن قد أشكل على بعض الفقهاء علّته. وهو من محاسن الشريعة، فإنه لم يتم عليه استيلاء، ولم تنقطع عُلَق البائع عنه، فهو يطمع في الفسخ والامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه، وإن أقبضه إياه فإنما يقبضه على إغماض وتأسّف على فوت الربح، فنفسه متعلقة به لم ينقطع طمعها منه. وهذا معلوم بالمشاهدة، فمِن كمال الشريعة
(1)
في الأصل وط. المعارف: «قبول» بدون واو العطف، والصواب إثباتها.
(2)
وهو الحكم الثالث من الأحكام الأربعة التي اشتمل عليها الحديث.
(3)
سبق تخريجه.
ومحاسنها النهي عن الربح فيه حتى يستولي عليه ويكون من ضمانه، فييأس البائع من الفسخ وتنقطع علقه عنه.
وقد نص أحمد
(1)
على ذلك في الاعتياض عن دين القرض وغيره: أنه إنما يعتاض
(2)
عنه بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.
فإن قيل: هذا ينتقض عليكم بمسألتين:
إحداهما: بيع الثمار بعد بدو صلاحها، فإنكم تجوّزون لمشتريها أن يبيعها على رؤوس الأشجار ويربح فيها، ولو تلفت بجائحة لكانت من ضمان البائع، فيلزمكم أحد أمرين: إما أن تمنعوا بيعها، وإما أن لا تقولوا بوضع الجوائح، كما يقول الشافعي وأبو حنيفة، بل تكون من ضمانه، فكيف تجمعون بين هذا وهذا؟
المسألة الثانية: أنكم تجوِّزون للمستأجر أن يُؤَجِّر العين المستأجرة بمثل الأجرة وزيادة، مع أنها لو تلفت لكانت من ضمان المؤجر، فهذا ربح ما لم يضمن.
قيل: النقض الوارد إما أن يكون بمسألة [ق 195] منصوص عليها أو مُجمَعٍ على حكمها، وهاتان المسألتان غير منصوص عليهما ولا مجمع على حكمهما، فلا يَرِدان نقضًا، فإن في جواز بيع المشتري ما اشتراه من الثمار على الأشجار كذلك روايتان منصوصتان عن أحمد
(3)
.
(1)
سبق عزو كلامه.
(2)
في الأصل: «يعتاد» ، تحريف سماعي.
(3)
انظر: «الإنصاف» (12/ 191 - 192).
فإن مُنع البيع بطل النقض، وإن جوّزنا البيع ــ وهو الصحيح ــ فلأن الحاجة تدعو إلى ذلك، فإن الثمار قد لا يمكن بيعها إلا كذلك، فلو منعناه من بيعها أضررنا به، ولو جعلناها من ضمانه إذا تلفت بجائحة أضررنا به أيضًا، فجوَّزنا له بيعها لأنها في حكم المقبوض بالتخلية بينه وبينها، وجعلناها من ضمان البائع بالجائحة، لأنها ليست في حكم المقبوض من جميع الوجوه، ولهذا يجب عليه تمام التسليم بالوجه المحتاج إليه. فلما كانت مقبوضة من وجه غير مقبوضة من وجه رتّبنا على الوجهين مقتضاهما، وهذا من ألطف الفقه.
وأما مسألة الإجارة، فاختلفت الرواية عن أحمد في جواز إجارة الرجل ما استأجره بزيادة على ثلاث روايات
(1)
:
إحداهن: المنع مطلقًا، لئلا يربح فيما لم يضمن، وعلى هذا فالنقض مندفع.
والثانية: أنه إن جدد فيها عمارة جازت الزيادة، وإلا فلا، لأن الزيادة لا تكون ربحًا بل هي في مقابلة ما أحدثه من العمارة. وعلى هذه الرواية أيضًا فالنقض مندفع.
والثالثة: أنه يجوز أن يؤجرها بأكثر مما استأجرها مطلقًا، وهذه مذهب الشافعي
(2)
. وهذه الرواية أصح، فإن المستأجر لو عطَّل المكان وأتلف منافعه بعد قبضه لتلفت من ضمانه، لأنه قبضه القبض التام، ولكن لو
(1)
انظر: «الإنصاف» (14/ 338 - 339).
(2)
انظر: «المهذب» (15/ 306 مع تكملة المجموع).
انهدمت الدار لتلفت من مال المؤجّر لزوال محل المنفعة، فالمنافع مقبوضة ولهذا له استيفاؤها بنفسه وبنظيره، وإيجارُها والتبرع بها. ولكن كونها مقبوضةً مشروط ببقاء العين، فإذا تلفت العين زال محل الاستيفاء، فكانت من ضمان المؤجر.
وسرّ المسألة: أنه لم يربح فيما لم يضمن، وإنما ربح فيما
(1)
هو مضمون عليه بالأجرة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تبع ما ليس عندك»
(2)
فمطابق لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، لأنه إذا باع ما ليس عنده فليس على ثقة من حصوله، بل قد يحصل له وقد لا يحصل، فيكون غررًا، كبيع الآبق والشارد والطير في الهواء، وما تحمل ناقته ونحوه.
قال حكيم بن حزام: يا رسول الله، الرجل يأتيني يسألني البيع ليس عندي فأبيعه منه، ثم أمضي إلى السوق، فأشتريه وأسلمه إياه، فقال:«لا تبع ما ليس عندك»
(3)
.
وقد ظنّ طائفة أن السَّلَم مخصوص من عموم هذا الحديث، فإنه بيع ما ليس عنده. وليس كما ظنوه، فإن الحديث إنما تناول بيع الأعيان، وأما السَّلَم
(1)
«ربح فيما» سقطت من ط. الفقي.
(2)
هو الحكم الرابع والأخير.
(3)
أخرجه أحمد (15311)، وأبو داود (3503)، والترمذي (1232، 1235)، والنسائي (4613) من حديث يوسف بن ماهَك، عن حكيم بن حزام.
قال الترمذي: حديث حسن. وقد قيل: إن يوسف لم يسمع من حكيم بدليل رواية أحمد (15316) وابن حبان (4983) وفيها: «عبد الله بن عصمة» بينهما، ولفظها:«إذا اشتريت بيعًا، فلا تبعه حتى تقبضه» ، وقد سبق تخريجه (ص 498 - 499).