الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السكتة قبل الركوع، ورفع اليدين عند تكبيرة الركوع، وبيان ركنية الركوع، ووجوب التكبير
قال الإمام في تلخيص الصفة فقرة 69 - 72:
فإذا فرغ من القراءة سكت سكتة لطيفة بمقدار ما يترادّ إليه نفَسُه.
ثم يرفع يديه على الوجوه المتقدمة في تكبيرة الإحرام.
ويكبر، وهو واجب.
ثم يركع، بقدر ما تستقر مفاصله، ويأخذ كل عضو مأخذه، وهذا ركن.
وقال في أصل الصفة:
ثم كان صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من القراءة؛ سكت سكتةً، ثم رفع يديه؛ على الوجوه المتقدمة في «تكبيرة الافتتاح» وكَبَّر، وركع.
وأمر بهما «المسيء صلاته» فقال له: «إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء، كما أمره الله. .. ثم يكبر الله، ويحمده، ويمجده، ويقرأ ما تيسر من القرآن مما علمه الله وأذن له فيه، ثم يكبر، ويركع، [ويضع يديه على ركبتيه]، حتى تطمئن مفاصله وتسترخي. .. » الحديث.
قوله: «سكت سكتة» يدل على ذلك ما سبق من هديه صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن، وأنه كان يقف عند كل آية. «وهذه السكتة قدرها ابن القيم وغيره بقدر ما يتراد إليه نَفَسُهُ» .
وقد جاء في ذلك حديث صريح من رواية سَمُرة بن جُنْدُب: أنه صلى الله عليه وسلم كان له سكتتان: سكتة حين يكبر، وسكتة حين يفرغ من القراءة عند الركوع.
ولكنه ليس على شرطنا - كما سبق بيانه في «القراءة» -، فتركناه، واستغنينا عنه بما ذكرنا من هديه صلى الله عليه وسلم في القراءة.
وقد أتفق الشافعية على استحباب هذه السكتة - كما في «المجموع» «3/ 395» - واحتجوا على ذلك بحديث سَمُرة هذا.
قال الترمذي «2/ 31» : وبه يقول أحمد، وإسحاق، وأصحابنا.
قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن السكتتين. .. إلخ. ثم قال النووي: قال الشيخ أبو محمد في «التبصرة» : رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال في الصلاة. وفسَّروه على وجهين: أحدهما: وصل القراءة بتكبيرة الركوع، يكره ذلك، بل يفصل بينهما.
والثاني: ترك الطمأنينة في الركوع والاعتدال، والسجود والاعتدال؛ فيحرم أن يصل الانتقال بالانتقال، بل يسكن للطمأنينة انتهى.
والحديث المذكور غريب، أورده الغزالي في «الإحياء» وقال مخرجه العراقي «1/ 139»:«عزاه رَزِين إلى الترمذي، ولم أجده عنده» .
قوله: «رفع يديه» اعلم أنه قد تواتر هذا الرفع عنه صلى الله عليه وسلم، وكذا الرفع عند الاعتدال من الركوع؛ رواه جمع من الصحابة، فنسوق أحاديث من صحت الأسانيد إليهم [ثم ساق الإمام ما صح من ذلك إلى أن قال]: ولم يصح ما يخالف هذه الأحاديث، إلا ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ألا أصلي لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال علقمة: فصلى؛ فلم يرفع يديه إلا أول مرة.
أخرجه أحمد «1/ 388» ، وكذا أبو داود «1/ 120» ، والترمذي «2/ 40» ، والنسائي «1/ 158» ، والطحاوي «1/ 132» ، والبيهقي «2/ 78» ، وابن حزم في «المحلى» «4/ 87» من طرق عن وكيع: ثنا سفيان عن عاصم بن كُلَيب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عنه.
وهذا سند صحيح. رجاله رجال مسلم. وقد حسنه الترمذي، وصححه ابن حزم، وخالفهم آخرون فضعفوه؛ كابن المبارك، والدارقطني، وابن حبان وغيرهم.
والحق أنه صحيح ثابت، لا مطعن في إسناده، وإن كان يستغرب من ابن
مسعود رضي الله عنه أن تخفى عليه هذه السنة مع قِدَمِ صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم! ومع ذلك؛ فليست هي أول سنة عملية خفيت عليه، بل لها أمثلة أخرى: منها: سنة الأخذ بالركب في الركوع؛ فكان رضي الله عنه ينكرها، ويذهب إلى التطبيق، مع ثبوت أنه منسوخ - كما يأتي بيانه قريباً -؛ ولذلك أجمع العلماء على رد ما رواه من التطبيق.
واختلفوا في العمل بحديثه هذا؛ فذهب جمهور علماء الإسلام؛ فقهاؤهم ومحدثوهم في سائر الأقطار والأمصار إلى ترك العمل به، والأخذ بالأحاديث المذكورة المُثْبِتَةِ للرفع في هذين الموضعين عند الركوع والرفع منه، وهو مذهب مالك في آخر قوله، «وهو الذي مات عليه رحمه الله كما رواه ابن عساكر «15/ 78/2» -»، والشافعي، وأحمد وغيرهم. وخالفهم أكثر علماء الكوفة، ومنهم الإمام أبو حنيفة وأصحابه؛ فأعرضوا عن هذه الأحاديث، وأخذوا بحديث ابن مسعود هذا.
وجرى بسبب هذا الخلافِ بين الفريقين نزاعٌ طويل بين أتباعهم ومقلديهم؛ كل ينتصر لإمامه، وما ذهب إليه. والأمر عندي أهون من ذلك؛ فقد ثبت الرفع عنه صلى الله عليه وسلم بالتواتر - كما رأيت -، حتى قال ابن القيم في رسالة «الصلاة» «209»:«إنه صح ذلك عنه صلى الله عليه وسلم؛ كما صح التكبير للركوع، بل الذين رووا عنه رفع اليدين هنا أكثر من الذين رووا عنه التكبير» . اهـ.
فثبوت ذلك لا ينكره إِلا جاهل. وقد اعترف بذلك علماؤنا، لكنهم ذهبوا إلى أنها منسوخة، واحتجوا على ذلك بحديث ابن مسعود. ولا يخفى أن القواعد الأصولية المتفق عليها بين الحنفية ومخالفيهم تأبى القول بالنسخ؛ لأنهم قالوا: إنه لا يجوز القول بالنسخ ما أمكن الجمع بين المتعارضين. وهو ممكن هنا من وجهين:
الأول: أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع أحياناً، أو في غالب الأوقات، ويدع أحياناً.
الثاني: أن يقال: المثبِتُ مقدم على النافي. وهي قاعدة أصولية أيضاً.
وقال البخاري في «جزئه» «7» : «فإذا روى رجلان عن محدث، قال أحدهما: رأيته يفعل. وقال الآخر: لم أره.
فالذي قال: رأيته فعل. فهو شاهد. والذي قال: لم يفعل. فليس هو بشاهد؛ لأنه لم يحفظ الفعل. وهكذا قال عبد الله بن الزبير لشاهدين شهدا أن لفلان على فلان ألف درهم بإقراره. وشهدا أنه لم يقر بشيء: يعمل بقول الشاهدين، ويسقط ما سواه.
وكذلك قال بلال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة.
وقال الفضل بن العباس: لم يصل. وأخذ الناس بقول بلال؛ لأنه شاهد، ولم يلتفتوا إلى قول من قال: لم يصل.
حين لم يحفظ». اهـ.
فهكذا قول من قال من الصحابة: إنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه. مقدم على قول من قال: لم يرفع. لأنه لم يحفظ ما حفظوه، لا سيما وهم جمع، وذاك فرد؛ وهو ابن مسعود.
واستبعاد علمائنا رحمهم الله أن يخفى عليه ذلك لا يُجديهم نفعاً؛ لأن للمعارض أن يعكس ذلك؛ فيقول: وأبعد من ذلك أن يكون ابن مسعود علم النسخ الذي تدّعونه، ويخفى ذلك على جمهور الصحابة، وفيهم بعض الخلفاء الراشدين، فكانوا يعملون بالمنسوخ في زعمكم، ويروونه للأمة لتعمل به؛ لا سيما ابن عمر رضي الله عنه الذي كان إِذا رأى رجلاً لا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع؛ رماه بالحصى. كما رواه البخاري «8» بسند صحيح. فلو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك ذلك؛ لما فعلوا ذلك. على أن ما استبعده علماؤنا، وفروا منه قد وقعوا فيه؛ فإنهم رووا التطبيق عن ابن مسعود، ثم تركوه إلى الأخذ بالأخذ بالركب؛ لأحاديث وردت في ذلك.
والغريب أن هذه الأحاديث - التي ردوا بها تطبيق ابن مسعود - لا تبلغ قوتها قوة أحاديث الرفع - المعارضة لحديث ابن مسعود الفرد في ترك الرفع -. أفلا قالوا: إنه يستبعد أن يخفى على ابن مسعود الأخذ بالركب. فتركوا ذلك؛ لتركه له،
وأخذوا بما رواه من التطبيق؟ ! كلا؛ لم يفعلوا ذلك، وأخذوا بالأحاديث الأخرى المعارضة لحديث ابن مسعود؛ فأصابوا، فكان عليهم أن يأخذوا أيضاً بأحاديث الرفع، ويتركوا حديث ابن مسعود في تركه. وهذا إلزام قوي لا مناص لهم من الأخذ به؛ لولا غَلَبة التقليد على أكثر الناس! وقد احتج بعض علمائنا بحجة أخرى على النسخ؛ وهو حديث جابر بن سمرة مرفوعاً:«ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شُمْسٍ؟ ! اسكنوا في الصلاة» .
أخرجه مسلم وغيره - كما سيأتي في آخر الكتاب [ص 1033 - 1034]-.
والاحتجاج به من أعجب الأشياء - كما قال النووي «3/ 403» -؛ لأن الحديث لم يرد في الرفع عند الركوع والرفع منه؛ بل ورد في رفع الأيدي حالة السلام من الصلاة؛ فإنهم كانوا يشيرون بها إلى الجانبين، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك - كما سيأتي منصوصاً عليه في الحديث نفسه -.
وهذا لا خلاف فيه بين أهل الحديث، ومن له أدنى اختلاط بأهل الحديث - كما قال النووي أيضاً -.
وقال البخاري في «جزئه» «13» : «فأما احتجاج من لا يعلم بهذا الحديث؛ فإنما كان هذا في التشهد لا في القيام» .
قال: «فليحذر امرؤ أن يتقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل.
قال الله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ». اهـ.
فقد تبين أن لا دليل لعلمائنا فيما ذهبوا إليه من النسخ. ومن اللطائف أن بعض المتأخرين المنصفين منهم قد عكس ذلك عليهم؛ ألا وهو أبو الحسن السندي
الحنفي رحمه الله؛ حيث قال في «حاشيته على ابن ماجه» : «قول من قال بالنسخ قول بلا دليل؛ بل لو فرض في الباب نسخ؛ لكان الأمر بعكس ما قالوا، فإن مالك بن الحويرث ووائل بن حُجْر - من رواة الرفع - ممن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم آخر عمره؛ فروايتهما الرفعَ عند الركوع والرفع منه دليلٌ على تأخرِ الرفع، وبطلان دعوى النسخ، فإن كان هناك نسخ؛ فينبغي أن يكون المنسوخ ترك الرفع، كيف وقد روى مالك هذا جلسة الاستراحة، فحملوها على أنها كانت في آخر عمره في سن الكبر، فهي ليس مما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم قصداً؛ فلا تكون سنة! وهذا يقتضي أن لا يكون الرفع الذي رواه ثابتاً لا منسوخاً؛ لكونه آخر عُمُرِه عندهم، فالقول بأنه منسوخ قريب من التناقض. وقد قال صلى الله عليه وسلم لمالك وأصحابه: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
وبالجملة؛ فالأقربُ القول باستنان الأمرين، والرفع أقوى وأكثر». اهـ.
قلت: ولحديث ابن مسعود هذا ذهب ابن حزم إلى سُنِّيَّةِ هذا الرفع المختلف فيه، قال «4/ 88»:«ولولاه؛ لكان فرضاً على كل مُصَلٍّ أن يصلي كما كان عليه الصلاة والسلام يصلي، وكان عليه الصلاة والسلام يصلي رافعاً يديه عند كل خفض ورفع، ولكن لما صح خبر ابن مسعود؛ علمنا أن رفع اليدين فيما عدا تكبيرة الإحرام سنة وندب فقط» . اهـ.
فجعلَ حديث ابن مسعود صارفاً للأمر في حديث مالك: «صلوا. .. » . من الوجوب إلى السنية والاستحباب.
هذا، والذي أعتقده أن أئمتنا الأولين - أبا حنيفة وغيره - لم تبلغهم تلك الأحاديث المتواترة عنه صلى الله عليه وسلم في رفع اليدين في الموضعين المذكورين، ولو بلغتهم؛ لأخذوا بها، وتركوا حديث ابن مسعود؛ كما تركوا حديث التطبيق للأحاديث المعارضة لذلك. ويؤيد ذلك أن أبا حنيفة رحمه الله لما سأله بعض المحدثين عن سبب تركه رفع اليدين؟ قال:«لأنه لم يصح فيه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» . في حكاية ذكرها علماؤنا في كتبهم! فهل يعقل أن يقول عالم مثل أبي حنيفة هذا الجواب
في حديث متواتر رواه عشرون من الصحابة، وعملوا به؟ ! كلا، ثم كلا. ولكن عذره في ذلك أنها لم تبلغه، ولم يكن عنده علم بها؛ فجاز له أن يقول: لم يصح فيه شيء. وبالتالي جاز له ترك العمل بها.
لكن إذا جاز ذلك لأبي حنيفة وأمثاله. المتقدمين؛ فلن يجوز ذلك مطلقاً للمتأخرين من أتباعه الذين أطلعوا على هذه الأحاديث الكثيرة، وعلموا صحتها، وأنه لا ينهض شيء من الأخبار لمعارضتها، فهم إذا تركوها تعصباً لأبي حنيفة، وتقليداً له؛ فهم مع مخالفتهم للسنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، مخالفون أيضاً لإمامهم؛ فإنه رضي الله عنه لأمثال هؤلاء وَجَّه تلك الأقوال المأثورة عنه رضي الله عنه؛ كقوله:«إذا صح الحديث؛ فهو مذهبي» . وقوله: «لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا» . فإذا كان رضي الله عنه لا يُحِل لأحد أن يفتي بقوله في مسألة إلا إذا علم دليله فيها؛ فكيف يجيز لأحد من أتباعه أن يفتي بقوله فيها وقد علم ضعف ما استند إليه بالنسبة للأدلة الصحيحة الأخرى- كما في مسألتنا هذه، وغيرها من المسائل الماضية والآتية -؟ ! فنحن نحمد الله سبحانه وتعالى أن وفقنا لاتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونرجو منه تعالى أن يجزي خير الجزاء الإمام أبا حنيفة وغيره من الأئمة الذين وجهونا هذا الاتجاه الحسن نحو السنة؛ بأمثال هذه الأقوال الجوهرية الثمينة.
فثبت بما ذكرنا أن من ترك السنة الثابتة لقول إمام؛ فهو مخالف له، وهو غير راضٍ عنه. ولذلك خالفه في هذه المسألة غير ما واحد من أتباعه المتقدمين والمتأخرين. وأقدم من وقفنا عليه منهم هو عصام بن يوسف: أبو عِصْمة البَلْخي، تلميذ أبي يوسف رحمه الله، المتوفى سنة «215» ؛ فقد أوردوه في تراجم الحنفية، وذكروا أنه كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه.
وعلّق على ذلك العلامة أبو الحَسَنات اللَّكْنوي في كتابه «الفوائد البهية» : يُعلم منه بطلان رواية مكحول عن أبي حنيفة: «أن من رفع يديه في الصلاة؛ فسدت صلاته» - التي اغتر أمير كاتب الإتقاني بها -؛ فإن عصام بن يوسف كان من ملازمي أبي يوسف، وكان يرفع، فلو كان لتلك الرواية أصل؛ لعلم بها أبو يوسف
وعصام. ثم قال: «ويُعلم أيضاً أن الحنفيَّ لو تَرَكَ في مسألةٍ مذهبَ إمامه لقوة دليل خلافه؛ لا يخرج به عن رِبْقَةِ التقليد، بل هو عين التقليد في صورة ترك التقليد. .. » إلخ كلامه. وقد ذكرناه بتمامه في «المقدمة» فراجعه.
وأما المتأخرون؛ فهم كثيرون والحمد لله، لا سيما حنفية الهند؛ فإنهم - بارك الله فيهم - أكثر المسلمين اليوم علماً وعملاً بالسنة، وأقلهم تعصباً للمذهب، إلا ما وافق الحق منه. فمنهم: أبو الحسن السندي - وقد مضى كلامه في ذلك قريباً -. ومنهم: ولي الله الدهلوي في «حجة الله البالغة» «2 - 10» ، وأبو الحسنات اللكنوي في «التعليق المُمَجَّد على موطأ محمد» «89 - 91» ، والشيخ محمد أنور الكشميري في كتابه «فيض الباري» «2/ 257» . ولولا خشية الإطالة؛ لنقلت كلماتهم في ذلك، فاكتفينا بالإشارة إليها، وإلى مواضعها من كتبهم. فليراجعها من شاء.
وأقول أيضاً: إنه لم يَخْلُ قرن فيما مضى إلا ووجد فيه كثير من الحنفية يعملون بالسنة وإن خالفت المذهب، ولكن موانع - يعلمها أهل العلم - منعت من وصول أخبارهم إلينا، أو تظاهرهم بها أمام أتباعهم المتعصبين. وقد كان الشيخ صالح الحِمْصي رحمه الله وهو من علماء الحنفية - يرى سنية الرفع هذا، ولكنه كان لا يفعل ذلك خوفاً من قيام المتعصبين عليه، كما صارحني بذلك رحمه الله.
ومما يؤيد هذا الرأي أنه وُجد في القرن الثامن من الهجرة بعض الأئمة الحنفية كان يرفع يديه في كل تكبيرة وهو إمام، فجاء في فتوى شيخ الإسلام ما ملخصه «2/ 375 - 380»: مسألة في رجل حنفي؛ صلى في جماعة، ورفع يديه في كل تكبيرة، فأنكر عليه فقيه الجماعة، وقال له: هذا لا يجوز في مذهبك، وأنت مبتدع فيه، وأنت مذبذب؛ لا بإمامك اقتديت، ولا بمذهبك اهتديت. فهل ما فعله نقصٌ في صلاته، ومخالفةٌ للسنة ولإمامه، أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى بعد أن أثبت سنية الرفع عند الركوع والرفع منه، ونفى سنية الرفع مع كل تكبيرة - وتبعه على ذلك تلميذه ابن القيم، ويأتي بيان خطئهما في ذلك في محله إن شاء الله تعالى -، قال شيخ
قال: «ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين؛ فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين؛ كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما. فهذه طرق أهل البدع والأهواء، فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه؛ ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم.
ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلاً بقدره في العلم والدين، وبقدر الآخرين؛ فيكون ظالماً جاهلاً، والله يأمر بالعدل والعلم، وينهى عن الجهل والظلم.
وهذا أبو يوسف ومحمد أتبع الناس لأبي حنيفة، وأعلمهم بقوله، وهما قد خالفاه في مسائل لا تكاد تحصى؛ لَمَّا تبين لهما من السنة والحجة ما وجب عليهما اتباعه، وهما مع ذلك معظِّمان لإمامهما، لا يقال فيهما: مذبذبان! بل أبو حنيفة وغيره من الأئمة يقول القول، ثم تتبين له الحجة في خلافه؛ فيقول بها، ولا يقال له:
مذبذب.
فإن الإنسان لا يزال يطلب العلم والإيمان -؛ بل هذا مهتدٍ زاده الله هدى، وقد قال تعالى:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} .
فالواجب على كل مؤمن موالاة المؤمنين، وعلماء المؤمنين، وأن يقصد الحق، ويتبعه حيث وجده، ويعلم أن من اجتهد منهم فأصاب؛ فله أجران، ومن اجتهد منهم فأخطأ؛ فله أجر لاجتهاده، وخطؤه مغفور له. وعلى المؤمنين أن يتبعوا إمامهم إذا فعل ما يسوغ، وليس لأحد أن يتخذ قول بعض العلماء شعاراً يوجب اتباعه، وينهى عن غيره مما جاءت به السنة».
وقد تعمدت ذكر من ذهب من الحنفية إلى مشروعية الرفع، تنبيهاً للمتعصبين من مشايخنا وأتباعهم، وليعلموا أن هناك من علمائنا من يقول بذلك؛ فإن هؤلاء وأمثالهم في كل عصر كثر، لحصرهم العلم والفقه في كتب معلومة، حتى قال لي بعضهم: إن علمنا - معشرَ الحنفية - محصور في كتابين فقط لا غير: «حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح «و» حاشية ابن عابدين على الدر. .. »! ولقلة اطلاعهم على غيرها لا تكاد تجد فيهم من يعرف غير ما فيها؛ كيف لا، وكثيرون
منهم يعدون قراءة كتب الحديث ومطالعتها تضييعاً للوقت! بل صارحني بعض المشايخ بقوله: «علم الحديث صنعة المفاليس» ! فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد بلغ ببعضهم التعصب في المسألة إلى أن افترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب! فذكر أنه قال عليه الصلاة والسلام: «من رفع يديه في الركوع؛ فلا صلاة له» ! قال الشيخ علي القاري في موضوعاته «81 و 129» : «موضوع. وضعه محمد بن عُكَّاشة الكِرْماني قبّحه الله» . اهـ.
قلت: وفي مقابل هذا حديث: «إن لكل شيء زينة، وزينة الصلاة رفع الأيدي عند كل تكبيرة. .. » الحديث.
أخرجه الحاكم «2/ 538» ، ومن طريقه البيهقي «2/ 74» ، وغيرهما، عن إسرائيل ابن حاتم عن مُقاتِل بن حَيّان عن الأصبغ بن نَبَاتة عن علي رضي الله عنه مرفوعاً به.
سكت الحاكم عليه! وضعفه البيهقي.
وقال الذهبي: «إسرائيل: صاحب عجائب لا يعتمد عليه. وأصبغ: شيعي متروك عند النسائي» .
قلت: وكذا أورده ابن الجوزي في «الموضوعات» ، وقال: إنه موضوع؛ كما في «اللآلي» «2/ 11» للسيوطي، وقال:«وقال الحافظ ابن حجر في تخريجه: إسناده ضعيف جداً» .
قلت: ولم يقف الأمر عند هذا الحَدّ بل تجاوزه إلى تحريف معاني القرآن الكريم! فاسمع ما أورده أبو الحسنات اللكنوي في «التعليق المُمَجَّد» قال «92» : قال صاحب الكنز المدفون والفلك المشحون: وقفت على كتاب لبعض مشايخ الحنفية، ذكر فيها مسائل خلاف، ومن عجائب ما فيه: الاستدلال على ترك رفع اليدين في الانتقالات بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ! وما زلت أحكي ذلك لأصحابنا على سبيل التعجب، إلى أن ظفرت في «تفسير
الثعلبي» بما يَهُون عنده هذا العظيم؛ وذلك أنه حكى في سورة «الأَعْرَاف» عن التنوخي القاضي أنه قال في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} : إن المراد بالزينة رفع اليدينَ في الصلاة! فهذا في هذا الطرف، وذاك في الطرف الآخر. اهـ.
ولقد كانت هذه المسألة وأمثالها مَثَار فتن عظيمة بين الحنفية والشافعية، حتى لقد دفعَتْهم إلى وضع القاعدة المشهورة عند الفريقين:«وتكره الصلاة وراء المخالف في المذهب» ! وهي كراهة تحريم عند علمائنا، ولا تزال آثار هذه القاعدة بادية في مساجدنا! ففيها المحاريب الأربعة، وترى فيها ناساً يصلون مع الإمام، وآخرين ينتظرون إمام مذهبهم! حتى لقد قلت مرة لبعض هؤلاء: حي على الصلاة؛ فإنها أقيمت. فكان جوابه أن قال: «إنها لم تُقَمْ لنا؛ إنها للشافعية» ! وهم بذلك مخالفون لصريح قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا أقيمت الصلاة؛ فلا صلاة إلا المكتوبة» .
رواه مسلم وغيره. وفي لفظ لأحمد: «إلا التي أقيمت» .
وليس يضيق على المتعصب أن يحرف معنى الحديث - كما حرف الآية السابقة الذكر -؛ فيقول: إن معنى الحديث: «إذا أقيمت الصلاة» : أي: الصلاة الكاملة. ولما كانت صلاة الشافعية ناقصة الأجر؛ لم يشملنا الحديث، وسلمنا من مخالفته.
هكذا يقول بعضهم! وهم مدفوعون بالقاعدة المشار إليها آنفاً؛ ظناً منهم أنها قاعدة متفق عليها بين الحنفية؛ لأنه قلما يرى - أو إن شئت قلت: لا يرى - خلافاً فيها.
ولذلك أحببت أن أذكر بعض النقول عن بعض أئمتنا مما يخالف هذه القاعدة المزعومة؛ فقد جاء في مجلة «نور الإسلام» المجلد السادس من السنة الأولى «ج 6 ص 388» :
وذهب أبو بكر الرازي من الحنفية إلى جواز الاقتداء بالمخالف في الفروع بإطلاق.
فقال: يجوز للحنفي الاقتداء بمن خالف مذهبنا من المجتهدين وتقليدهم، وإن رأى ما يبطل الصلاة على رأيه ومذهبه.
ونقل ابن الهُمام عن شيخه سِراج الدين الشهير بـ: «قارئ «الهداية» »: أنه كان يعتقد قول الرازي حتى أنكر مرة أن يكون فساد الصلاة بذلك مروياً عن المتقدمين. وللشيخ محمد عبد العظيم بن فَرُّوخ رسالة اعتمد فيها قول الرازي، وبنى رسالته عليه؛ حيث قال: هذا «يعني: قول الرازي» هو المنصور درايةً، وإن اعتمدوا خلافه روايةً، وهو الذي أميل إليه. وعليه يتمشى ما ذهبنا إليه في هذه الوُرَيقات. ثم قال مُحَرِّر هذا البحث، وهو الأستاذ الفاضل محمد الخضر حسين:«وذهب أبو بكر محمد بن علي القَفَّال - من أكابر علماء الشافعية - إلى أن العبرة باعتقاد الإمام؛ فيصح اقتداء الشافعي بالحنفي أو المالكي، إذا أتى بالصلاة على الوجه الصحيح في مذهبه، وإن لم تكن صحيحة على مذهب المأموم، وتحقق المأموم ذلك» .
قلت: بل جاء عن أبي يوسف رحمه الله أنه صلى خلف هارون الرشيد وقد احتجم، وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ؛ فصلى خلفه أبو يوسف، ولم يُعِدْ. وكان أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الحجامة والرُّعاف. فقيل له: «فإن كان الإمام قد خرج منه الدم، ولم يتوضأ؛ فصلى خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف سعيد بن المسيب
ومالك؟ ! ».
وبالجملة؛ فهذا المذهب الذي ذهب إليه أبو بكر الرازي الحنفي، وأبو بكر القفال - خلافاً للمشهور من مذهبهما - هو الصواب، وهو مذهب مالك وأحمد؛ وذلك لأمرين: الأول: أن القول بخلافه بدعة في الدين؛ لم يقل به أحد من السلف الصالح رضي الله عنهم -كما سبق-. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: «اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كُفيتم، عليكم بالأمر العتيق» . فالأمر العتيق هو هذا.
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «يصلون بكم، فإن أصابوا؛ فلكم ولهم، وإن أخطؤوا؛ فلكم وعليهم» .
أخرجه البخاري «2/ 149» ، وأحمد «2/ 355» واللفظ له.
قال ابن المنذر: «هذا الحديث يرد على من زعم أن صلاة الإمام إذا فسدت؛ فسدت صلاة من خلفه» . كذا في «الفتح» «2/ 149» .
وقال شيخ الإسلام في «الفتاوى» «2/ 381» : «فقد بين صلى الله عليه وسلم أن خطأ الإمام لا يتعدى إلى المأموم، ولأن المأموم يعتقد أن ما فعله الإمام سائغ له، وأن لا إثم عليه فيما فعل؛ فإنه مجتهد، أو مقلد مجتهد، وهو يعلم أن هذا قد غفر الله له خطأه؛ فهو يعتقد صحة صلاته، وأنه لا يأثم إذا لم يُعِدْها، بل لو حكم بمثل هذا؛ لم يجُزْ له نقض حكمه؛ بل كان ينفذه.
وإذا كان الإمام قد فعل باجتهاده - و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} -، والمأموم قد فعل ما وجب عليه؛ كانت صلاة كل منهما صحيحة، وكان كل منهما قد أدى ما يجب عليه، وقد حصلت موافقة الإمام في الأفعال الظاهرة.
وقول القائل: إن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام. خطأ منه؛ فإن المأموم يعتقد أن الإمام فعل ما وجب عليه، وأن الله قد غفر له ما أخطأ فيه، وأنه لا تبطل صلاته لأجل ذلك، ولو أخطأ الإمام والمأموم فسلم الإمام خطأً، واعتقد المأموم جواز متابعته، فسلَّم - كما سلَم المسلمون خلف النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا سلم من اثنتين