الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جَلْسَةُ الاسْتِراحَةِ وهيئتها وذكر الخلاف فيها
قال الإمام في تلخيص الصفة فقرة 122 - 124 تحت عنوان جلسة الاستراحة:
فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية، وأراد النهوض إلى الركعة الثانية كبر وجوبا.
ويرفع يديه أحيانا.
ويستوي قبل أن ينهض قاعدا على رجله اليسرى، معتدلا، حتى يرجع كل عظم إلى موضعه.
وقال في أصل الصفة:
ثم يستوي قاعداً على رجله اليسرى معتدلاً؛ حتى يرجع كل عظم الى موضعه.
قوله: «ثم يستوي قاعدًا» : هو من حديث مالك بن الحويرث؛ أنه كان يقول: ألا أحدثكم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيصلي في غير وقت الصلاة، فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية في أول ركعة؛ استوى قاعداً، ثم قام، فاعتمد على الأرض.
أخرجه الإمام الشافعي في «الأم» «1/ 101» ، والنسائي «1/ 173» ، والبيهقي «2/ 124 و 135» عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثَّقَفي عن خالد الحَذَّاء عن أبي قِلابة قال: كان مالك بن الحُويرث يأتينا فيقول: . .. به.
وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.
وقد تابعه هُشيم عن خالد - مختصراً - بلفظ: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته؛ لم ينهض حتى يستوي قاعداً.
أخرجه البخاري «2/ 240» ، وأبو داود «1/ 134» ، والنسائي أيضاً، والترمذي «2/ 79» ، والدارقطني «132» ، وكذا الطحاوي، والبيهقي. وصححه الترمذي، والدارقطني.
وقد أخرجه البخاري في «صحيحه» «2/ 241» ، وكذا البيهقي «2/ 123» من طريق وهُيب عن أيوب عن أبي قِلابة قال: جاءنا مالك بن الحويرث، فصلى بنا في مسجدنا هذا، فقال: إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة؛ ولكن أريد أن أريكم كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي.
قال أيوب: فقلت لأبي قلابة: وكيف كانت صلاته؟ قال: مثل صلاة شيخنا هذا - يعني: عمرو بن سلمة -.
قال أيوب: وكان ذلك الشيخ يتم التكبير، وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية؛ جلس، واعتمد على الأرض، ثم قام.
وقد تابعه حماد بن زيد عن أيوب نحوه بلفظ: كان إذا رفع رأسه من السجدة الأولى والثالثة التي لا يقعد فيها؛ استوى قاعداً، ثم قام.
أخرجه الطحاوي «2/ 405» ، وأحمد «5/ 53 - 54» .
وهو صحيح أيضاً على شرطهما.
وفي الباب عن عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أبو حُمَيد الساعدي - وهو الآتي بعد هذا -.
وقد قال الترمذي -بعد أن ساق الحديث-: «والعمل عليه عند بعض أهل العلم. وبه يقول إسحاق، وبعض أصحابنا» .
قلت: «وهذا الجلوس يعرف عند الفقهاء بـ «جلسة الاستراحة» »، وقد قال به الشافعي، وكذا داود، وعن أحمد نحوه؛ كما في «التحقيق» «1/ 111» ، وهو الأحرى به؛ لما عرف عنه من الحرص على اتباع السنة التي لا معارض لها.
وقد قال ابن هانئ في «مسائله عن الإمام أحمد» «1/ 57» : «رأيت أبا عبد الله «يعني: الإمام أحمد» ربما يتوكأ على يديه إذا قام في الركعة الأخيرة، وربما استوى جالساً، ثم ينهض».
وهو اختيار الإمام إسحاق بن راهويه؛ فقد قال في «مسائل المروزي» «1/ 147/2» :
«مضت السنة من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمد على يديه ويقوم؛ شيخاً كان أو شاباً» .
وانظر «الإرواء» «2/ 82 - 83» .
واستحبه الإمام ابن حزم في «المحلى» «4/ 124» ، وهو الصواب؛ لعدم ثبوت ما يعارض هذه السنة، وكل ما جاء مما يخالفها لا يثبت؛ كما سنبين ذلك بحوله تعالى وقوته.
قوله: «على رجله اليسرى معتدلاً؛ حتى يرجع كل عظم الى موضعه» هو قطعة من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه.
أخرجه البيهقي «2/ 123» وغيره. وقد سبق ذكره بطوله في «الركوع» [ص 605].
ومنه تعلم أن إنكار الطحاوي «2/ 205» كون جلسة الاستراحة هذه واردة في حديث أبي حميد خطأٌ واضحٌ؛ فإنها فيه كما ترى، وقد نبه على ذلك الحافظ في «التلخيص» «3/ 488» ، واستغرب النووي «3/ 444» ذلك من الطحاوي؛ وإنما اعتمد في إنكاره على روايةٍ في حديث أبي حميد.
أخرجها هو، وأبو داود «1/ 117» من طريق عيسى بن عبد الله بن مالك عن محمد ابن عمروبن عطاء عن عياش بن سهل: أنه كان في مجلس فيه أبوه - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفي المجلس أبو هريرة وأبو أسيد وأبو حُميد الساعدي والأنصار رضي الله عنهم: أنهم تذاكروا الصلاة، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فذكر الحديث. وفيه: أنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى؛ قام، ولم يتورك.
قلت: والجواب: أن هذه الزيادة - وهي قوله: ولم يتورك - ضعيفة؛ لأنه تفرد بها عيسى بن عبد الله بن مالك، وهو مجهول -كما سبق في «الركوع» -.
على أنها لو ثبتت؛ لكان الأخذ بما يخالفها من إثبات هذه الجلسة - كما في الحديث الصحيح - أولى؛ لأنها مثبِتة، وهذه نافية، والمثبِت مقدم على النافي - كما
تقرر في أصول الفقه -.
على أنه من الممكن الجمع بين الروايتين - على فرض تعادلهما في الصحة - بأن يقال: هذه الرواية نفت التورك، ولم تنف الافتراش الثابت في الرواية الأولى؛ فلا تعارض، وإن كان هذا الاحتمال بعيداً. والله أعلم.
هذا، وقد جاء ذكر هذه الجلسة في بعض طرق حديث «المسيء صلاته»: عند البخاري «11/ 31» .
لكن قد أشار هو نفسه إلى أن ذكرها فيه وهم من بعض الرواة، وصرح به البيهقي؛ كما في «الفتح» للحافظ، وقال في «التلخيص» «3/ 488»:«وهو أشبه» .
واعلم أنه روي عنه صلى الله عليه وسلم ما يخالف هذه السنة الصحيحة، فوجب التنبيه عليها؛ لئلا يغتر بها مغتر، فيقع في مخالفة هديه صلى الله عليه وسلم.
فمنها: حديث وائل بن حجر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سجد؛ وقعت ركبتاه إلى الأرض قبل أن تقع كفاه، فلما سجد؛ وضع جبهته بين كفيه، وجافى عن إبطيه، وإذا نهض؛ نهض على ركبتيه، واعتمد على فخذيه.
أخرجه أبو داود وغيره، كما مضى في «السجود» [ص 716]، وذكرنا هناك أنه منقطع؛ لأنه من رواية عبد الجبار بن وائل عن أبيه، وقال النووي «3/ 446»:«حديث ضعيف؛ لأن عبد الجبار بن وائل اتفق الحفاظ على أنه لم يسمع من أبيه شيئاً، ولم يدركه» .
ومنها: حديث أبي هريرة؛ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهض في الصلاة على صُدور قدميه.
أخرجه الترمذي «2/ 80» من طريق خالد بن إلياس عن صالح مولى التوأمة عنه.
وذكره البيهقي «2/ 124» وقال: «وخالد بن إِلياس - ويقال: إياس -: ضعيف» . وكذا قال الترمذي، وزاد: «عند أهل الحديث، وصالح مولى التوأمة: هو
صالح بن أبي صالح، وأبو صالح: اسمه نبهان».
قلت: وهو ضعيف أيضاً؛ كان قد اختلط.
ومنها: عن معاذ بن جبل؛ في حديث له: وكان يمكّن جبهته وأنفه من الأرض، ثم يقوم كأنه السهم لا يعتمد على يديه.
قال الهيثمي «2/ 135» : «وفيه الخَصِيب بن جَحْدَر، وهو كذاب» .
فقد ظهر لك من هذا البيان أنه لا تصح هذه الهيئة المعارضة للهيئة الثابتة.
ومع ذلك؛ فقد اعتمد عليها ابن القيم في «الزاد» «1/ 85 - 86» وفي رسالة «الصلاة» «212» ، ونفى أنه عليه الصلاة والسلام كان يعتمد على يديه إذا نهض وأجاب - تبعاً للطحاوي وغيره - عن حديث مالك وأبي حُميد في جلسة الاستراحة: أنه عليه الصلاة والسلام إِنما كان يفعل ذلك للحاجة حينما أسن وأخذه اللحم، وأنه لم يفعلها تعبداً وتشريعاً! وهذا ظن خاطئ، لا يجوز بمثله رد السنة الصحيحة؛ لاسيما إذا كان قد رواها جمع من الصحابة بلغوا بضعة عشر شخصاً؛ فكيف يجوز أن يخفى على هؤلاء الأجلة أنه صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك للحاجة لا للعبادة؛ لا سيما وفيهم مالك بن الحويرث رضي الله عنه وهو الذي روى عنه صلى الله عليه وسلم قوله له:«صلوا كما رأيتموني أصلي» -؛ مع العلم بأن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فكيف يخفى ذلك على هؤلاء، ثم يعلمه مَنْ جاء مِنْ بعدهم بعدة قرون - مثل الطحاوي، وابن القيم -، ولا دليل لهم على ذلك ولا برهان سوى الظن {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} ؟ ! وليس عجبي أن يسلك هذا السبيل مثلُ الطحاوي الذي نصب نفسه لتأييد مذهب أبي حنيفة -إلا نادراً- ولكن عجبي الذي لا ينتهي سلوك ابن القيم هذا السبيل وهو ناصر السنة، وحامل لوائها، ورافع رايتها! ولكن لا بد لكل جواد من كبوة؛ بل كبوات! ورحم الله إلإمام مالكاً حيث قال: ما منا من أحد إلا رادّ ومردود عليه؛ إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم.
نعم؛ لقد احتج ابن القيم رحمه الله على ترك الاعتماد على اليدين بحديث ذكره في رسالة «الصلاة» عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يعتمد الرجل على
يديه إذا نهض في الصلاة.
ولكن قوله في هذا الحديث: إذا نهض. زيادة غير صحيحة؛ تفرد بها محمد بن عبد الملك الغزال، وهو كثير الخطأ.
فلا يجوزأن يعتمد عليها؛ لا سيما إذا خالفت ما ثبت من هديه صلى الله عليه وسلم كما فعلنا ذلك في «التعليقات الجياد» -.
ولذلك ضعف هذه الزيادة النووي في «المجموع» .
وهناك حجة أخرى ذكرها في «الزاد» عن الخلال، وهي من كلام أحمد رحمه الله، رواه ابنه عبد الله في «مسائله» فقال: سمعت أبي يقول: «إن ذهب رجل إلى حديث مالك بن الحويرث؛ فأرجو أن لا يكون به بأس» .
قلت: ثم ذكر جلسة الاستراحة، قال:«وكان حماد بن زيد يفعله» .
ويعني الإمامُ رحمه الله أن جلسة الاستراحة لم تذكر في حديث «المسيء صلاته» .
وهذه أيضاً حجة غريبة؛ فليس هذا الحديث جامعاً لجميع سنن الصلاة وهيئاتها باتفاق العلماء، فإذا جاءت سنةٌ في حديث غيره؛ وجب الأخذ بها، لا ردها بحديث «المسيء صلاته» وكم من سنن - بل وواجبات - أخذ بها أحمد وغيره لم يرد ذكرها فيه، أفيجوز ردُّها لذلك؟ ! وقد قال الإمام النووي رحمه الله «3/ 443»:
«والجواب عن حديث «المسيء صلاته» : أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علّمه الواجبات دون المسنونات. وهذا معلوم سبق ذكره مرات».
قلت: وكأنه لوضوح ضعف هذه الحجة رجع عنها أحمد إلى حديث مالك بن الحويرث في جلسة الاستراحة - كما قال الخلال، على ما في «الزاد» «1/ 85» -.
وهذا من إنصاف الإمام أحمد رحمه الله ورجوعه إلى الحق والصواب. ثم قال الإمام النووي: «وأما حديث وائل؛ فلو صح؛ وجب حمله على موافقة غيره في إثبات جلسة الاستراحة؛ لأنه ليس فيه تصريح بتركها، ولو كان صريحاً؛ لكان حديث مالك بن الحويرث وأبي حميد وأصحابه مقدماً عليه؛ لوجهين: أحدهما: صحة أسانيدها.
والثاني: كثرة رواتها.
ويحتمل أن يكون وائل رأى النبي صلى الله عليه وسلم في وقت أو أوقات؛ تبياناً للجواز، وواظب على ما رواه الأكثرون.
ويؤيد هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث - بعد أن قام يصلي معه، ويتحفظ العلم منه عشرين يوماً، وأراد الانصراف من عنده إلى أهله -:«اذهبوا إلى أهليكم، ومروهم، وعلِّموهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي» .
وهذا كله ثابت في «صحيح البخاري» من طرق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هذا وقد رآه يجلس للاستراحة، فلو لم يكن هذا هو المسنون لكل أحد؛ لما أطلق صلى الله عليه وسلم قوله:«صلوا كما رأيتموني أصلي» .
وبهذا يحصل الجواب عن فرق أبي إسحاق المروزي بين القوي والضعيف، ويجاب به أيضاً عن قول من لا معرفة له: ليس تأويل حديث وائل وغيره بأولى من عكسه». ثم قال النووي: «واعلم أنه ينبغي لكل أحد أن يواظب على هذه الجلسة؛ لصحة الأحاديث فيها، وعدم المعارض الصحيح لها. ولا تغتر بكثرة المتساهلين بتركها؛ فقد قال تعالى:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} .
[أصل صفة الصلاة (3/ 816)]