الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة بالإصْبَعِ في التشهد والنظر إليها وتحريكها
قال الإمام في تلخيص الصفة فقرة 137 - 139:
ويشير بإصبعه السبابة إلى القبلة.
ويرمي ببصره إليها.
ويحركها يدعو بها من أول التشهد إلى آخره.
وقال في أصل الصفة:
وكان صلى الله عليه وسلم إذا جلس [يتشهد]؛ وضع كفَّه اليسرى على ركبته اليسرى [باسطَها عليها]، ويقبضُ أصابعَ كفِّه اليمنى كلها، ويشير بإصبعه التي تلي الإبهام [في القبلة، ويرمي ببصره إليها - أو نحوها -].
قال الترمذي: «والعمل عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين؛ يختارون الإشارة في التشهد. وهو قول أصحابنا» . يعني: أهل الحديث.
وهو قول أثمتنا الثلاثة؛ فقد قال الإمام محمد - بعد أن ساق الحديث -: «وبصنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ، وهو قول أبي حنيفة» . وقد ذكر أبو يوسف في «الأمالي» كما ذكر محمد - على ما في «فتح القدير» وغيره -.
فالعجب من كثير من علمائنا الحنفية كيف أنهم اختاروا ترك الإشارة في التشهد مع ثبوت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم وعن أئمتهم أيضاً، وقد ألف في ذلك الشيخ المحقق ملا علي القاري رسالة نفيسة أثبت فيها هذه السنة، ورد على من خالفها، وأسماها «تزيين العبارة لتحسين الإشارة» .
ومن المهم بالنسبة للمقلدين أن نلخص أهم ما جاء فيها؛ فقد ساق الأحاديث الصريحة في الإشارة: منها: حديث ابن عمر وابن الزبير المتقدمين.
ومنها: حديث وائل بن حُجر - الآتي قريباً [ص 850]-.
ومنها: حديث أبي هريرة، وأبي حميد الساعدي، ونُمير الخُزاعي، وخُفَاف الغفاري، ومعاذ بن جبل، وأنس بن مالك، وعقبة بن عامر، وعبد الرحمن بن أبزى.
وقد خرجها كلها وساق ألفاظها، وقد أضربنا صفحاً عن ذكر أكثرها؛ لأنها ليست على شرطنا. ثم قال الشيخ عليٌّ بعد ذلك «ص 10»:«فهذه أحاديث كثيرة بطرق متعددة شهيرة، ولا شك في صحة أصل الإشارة؛ لأن بعض أسانيدها موجود في «صحيح مسلم» .
وبالجملة؛ فهو مذكور في «الصحاح الستّة» وغيرها؛ مما كاد أن يصير متواتراً؛ بل يصح أن يقال: إنه متواتر معنىً؛ فكيف يجوز لمؤمن بالله ورسوله أن يعدل عن العمل به، ويأتي بالتعليل في معرض النص الجليل؛ مع أن ذلك التعليل مدخول، صَدَرَ من العليل، وهو ما قيل - نقلاً عن بعض المانعين للإشارة - بأن فيها زيادة رفع لا يحتاج إليها، فيكون الترك أولى؛ لأن مبنى الصلاة على الوقار والسكينة، وهو مردود بأنه لو كان الترك أولى؛ لما فعله صلى الله عليه وسلم، وهو على صفة الوقار والسكينة في المقام الأعلى، ثم لا شك أن الإشارة الى التفريد مع العبادة بالتوحيد نور على نور، وزيادة سرور على سرور؛ فهو محتاج إليه؛ بل مدار الصلاة والعبادة والطاعة عليه.
وعلل بعضهم بأن فيه موافقة فرقة الرافضة، فكان تركه أولى؛ تحقيقاً للمخالفة أيضاً! [وهذا] ظاهر البطلان من وجوه: اما أولاً: فلأن عامتهم - على ما نشاهدهم في زماننا - لا يشيرون أصلاً، وإنما يشيرون بأيديهم عند السلام، ويضربون على أفخاذهم؛ تأسفاً على فوت الإسلام.
فينقلب التعليل عليهم حجة لنا.
وأما ثانياً: فلأنه على تقدير صحة النسبة اليهم؛ فليس كل ما يفعلونه نحن مأمورون بمخالفتهم به حتى يشمل أفعالهم الموافقة للسنة - كالأكل باليمين ونحو ذلك -؛ بل يستحب ترك موافقتهم فيما ابتدعوه وصار شعاراً لهم - كما هو مقرر في المذهب -، كوضع الحجر فوق السجادة؛ فإنه وإن كانت السجدة على جنس الأرض أفضل باتفاق الأئمة مع جوازها على البساط والفَرْوِ ونحوهما عند أهل
السنة؛ لكن وضع نحو الحجر والمدر فوق السجادة بدعة ابتدعوها، وصار علامة لمعشرهم، فينبغي الاجتناب عن فعلهم؛ لسببين: أحدهما: نفس موافقتهم في البدعة؛ كما ورد في الحديث: «خالفوا اليهود والنصارى» .
وثانيهما: رفع التهمة. وقد ورد: «اتقوا مواضع التهم» (1).
ونظيره: الوقوف للدعاء في المستجار؛ فإنه صار من ذلك الشعار، وكذا: الخروج من مكة إلى يلملم للإحرام خارج الحرم مع الاتفاق على جواز ما ذكر عند أرباب العلم وأصحاب الحكم؛ بخلاف ما إذا شاركونا في سنة مستمرة؛ كالخروج لإحرام العمرة إلى التنعيم والجِعِرَّانة.
فالحاصل: أن مخالفة المبتدعة في الأمر المباح يستحسن؛ زجراً لهم، ورجوعاً إلى الصلاح.
وأما الإشارة المذكورة الثابتة على نهج الصواب؛ فليست من هذا الباب.
ثم من أدلتها الإجماع؛ إذ لم يعلم من الصحابة ولا من علماء السلف خلاف في هذه المسألة، ولا في جواز هذه الإشارة، ولا في تصحيح هذه العبارة؛ بل قال به إمامنا الأعظم وصاحباه، وكذا الإمام مالك، والشافعي، وأحمد، وسائر علماء الأمصار والأعصار؛ على ما ورد به صحاح الأخبار والآثار، وقد نص عليها مشايخنا المتقدمون والمتأخرون، فلا اعتداد لما عليه المخالفون، ولا عبرة لما ترك هذه السنة الأكثرون من سكان ما وراء النهر وأهل خراسان، والعراق والروم وبلاد الهند؛ ممن غلب عليهم التقليد، وفاتهم التحقيق والتأييد من التعلق بالقول السديد». ثم ساق أقوال المشايخ في إثبات الإشارة، وفي صفتها، ثم قال «18»: «وقد أغرب الكَيْداني حيث قال: والعاشر من المحرمات: الإشارة بالسبابة كأهل الحديث. أي: مثل إشارة جماعةٍ يجمعهم العلم بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام! وهذا منه خطأ عظيم، وجرم جسيم، منشؤه الجهل عن عقائد الأصول،
(1) ولا أصل له مرفوعاً، كما في «الضعيفة» «113» [الناشر].
ومراتب الفروع من النقول، ولولا حسن الظن به وتأويل كلامه بسببه؛ لكان كفراً صريحاً، وارتداداً صحيحاً! فهل يجهل المؤمن أن يُحَرِّمَ ما ثبت فِعله منه صلى الله عليه وسلم ما كاد نقله أن يكون متواتراً، ويمنعَ جواز ما عليه عامة العلماء كابراً عن كابر مكابراً؟ ! والحال: أن الإمام الأعظم، والهمام الأقدم قال: لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعرف مأخذه من الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، والقياس الجلي في المسألة.
وقال الشافعي: إذا صح الحديث على خلاف فعلي؛ فاضربوا قولي على الحائط، واعملوا بالحديث الضابط.
فإذا عرفت هذا؛ فاعلم أنه لو لم يكن نص الإمام على المرام؛ لكان على المقتفين من أتباعه من العلماء الكرام - فضلاً عن العوام - أن يعملوا بما صح عنه عليه الصلاة والسلام.
وكذا لو صح عن الإمام - فرضاً - نفيُ الإشارة، وصح إثباتها عن صاحب البشارة؛ فلا شك في ترجيح المثبت المسند إليه صلى الله عليه وسلم. كيف وقد طابق نقله الصريح ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام بالإسناد الصحيح؟ ! فمن أنصف ولم يتعسف؛ عرف أن هذا سبيل أهل التَّدَيُّن من السلف والخلف، ومن عدل عن ذلك؛ فهو هالك بوصف الجاهل المعاند المكابر؛ ولو كان عند الناس من الأكابر.
وغاية ما يعتذر به عن بعض المشايخ حيث منعوا الإشارة وذهبوا إلى الكراهة: عدم وصول الأحاديث إليهم، وقد ورد اختلاف فعلها وتركها عليهم، فظنوا أن تركها أولى».
قال: «فالجاهل بالأخبار النبوية والآثار المصطفوية لما رأى أن بعض الناس يشيرون عملاً بالسنة، وبعضهم يتركون الإشارة، إما للجهل، أو للكسل، أو للغفلة؛ فقال: تركها أولى؛ لأنها زيادة في المبنى على أصل المعنى. فجاء بعده غيره وقال: هي مكروهة.
وأراد أنها كراهة تنزيه؛ لكن لم يجعل عليه من تنبيه! فتوهم مَنْ بعدهم أنه حرام، وحسب أنه في الدين لعظيم؛ بناءً على أن الكراهة إذا أطلقت؛ فهي كراهة تحريم! ثم
قال مَنْ بعده: ما كره؛ فهو حرام عند محمد؛ لا سيما وهو متعلق بعبادة الأحد! ! فانظر كيف تدرج الجهلُ، وتركب في نظر العقل العاري عن النقل إلى أن جعل السنة المشهورة من الأمور المنهية المحرمة المهجورة! فاعلم أن تعريف الحرام: ما ثبت نهيه بالدليل القطعي من الكتاب والحديث.
ومن القواعد المقررة أن تحريمَ المباحِ حرامٌ؛ فكيف السنة الثابتة عنه عليه الصلاة والسلام؟ ! مع أنه يكفي في موجب تكفير الكيداني إهانةُ المحدِّثين الذين هم عمدة أئمة الدين المفهوم من قوله: كأهل الحديث. المفضية إلى قلة الأدب المقتضي لسوء الخاتمة؛ إذ من المعلوم أن أهل القرآن أهل الله، وأهل الحديث أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم! وأُنشد في هذا المعنى:
أهل الحديث هُمُ أهل النبي وإن لم. .. يصحبوا نَفْسَهُ أنفاسَه صحبوا أماتنا الله على محبة المحدثين وأتباعهم من الأئمة المجتهدين، وحشرنا مع العلماء العاملين تحت لواء سيد المرسلين. والحمد لله رب العالمين». اهـ كلامه رحمه الله.
هذا؛ وفي «التعليق الممجد على موطأ محمد» لعبد الحي اللكنوي «106» : «وقد ذكر ابن الهُمَام في «فتح القدير» ، والشُّمُنِّي في «شرح النقاية» وغيرهما أنه ذكر أبو يوسف في «الأمالي» مثل ما ذكر محمد.
فظهر أن أصحابنا الثلاثة اتفقوا على تجويز الإشارة؛ لثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بروايات متعددة وطرق متكثرة، لا سبيل إلى إنكارها، ولا إلى ردها. وقد قال به غير واحد من العلماء؛ حتى قال ابن عبد البر:«إنه لا خلاف في ذلك» .
وإلى الله المشتكى من صنيع كثير من أصحابنا من أصحاب الفتاوى - كصاحب «الخلاصة» و «البزّازية الكبرى» و «العَتّابية» و «الغِياثية» و «الولوالجية» و «عمدة المُفْتِي» و «الظهيرية» وغيرها - حيث ذكروا أن المختار هو عدم الإشارة! بل ذكر بعضهم أنها مكروهة! والذي حملهم على ذلك سكوتُ أئمتنا عن هذه المسألة في ظاهر الرواية، ولم يعلموا أنه قد ثبت عنهم بروايات متعددة، ولا أنه ورد في أحاديث متكثرة.
فالحذر الحذر من الاعتماد على قولهم في هذه المسألة مع كونه مخالفاً لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ بل وعن أئمتنا أيضاً، بل لو ثبت عن أئمتنا التصريح بالنفي، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الإثبات؛ لكان فِعل الرسول وأصحابه أحق وألزم بالقبول؛ فكيف وقد قال به أئمتنا أيضاً؟ ! ».
وقد ذكر نحو هذا في كتابه «عمدة الرعاية» «1/ 38» ، وتعجب كل العجب من المشايخ المذكورين الذين اختاروا ترك الإشارة وكراهتها، ثم قال:«وزاد عليهم الكَيْداني في «خُلاصته» نغمةً في الطنبور؛ فعدها من المحرمات»! وقال في حاشية «غيث الغمام على إمام الكلام» «ص 41» : «هذا القول من الأقوال الخبيثة المردودة؛ لمخالفته لما ثبت عن أئمتنا الثلاثة من سنية الإشارة -كما صرح به محمد في «موطئه» ، وأبو يوسف في «الأمالي» -. والعجب مِنْ جَمْعٍ مِنَ الحنفية كيف أفتوا بكراهة الإشارة مع ثبوتها عن صاحب الشرع وإمام المذهب؟ ! ».
قلت: وأعجب من ذلك أن هؤلاء المفتين يقولون بأن باب الاجتهاد مغلق من بعد القرون الأربعة، ثم هم يجتهدون في هذه المسألة، فيخالفون فيها نصوص أئمتهم المقلَّدين، والآثارَ المرويةَ عن الصحابة والتابعين، والأحاديثَ الصحيحةَ عن سيد المرسلين؛ مع أنه «لا اجتهاد في معرض النص» باتفاقهم، فليتهم لم يقولوا قولهم هذا! وليتهم وقفوا عنده! والله المستعان.
وقد كان جرى بحث بيني وبين بعض مشايخي حول هذه المسألة؛ فإنه من القائلين بالمنع رغم كونه قد اطلع على الأحاديث المشار إليها، وعلى أقوال الأئمة الواردة في ذلك.
فقلت له: لم لا ترفع أصبعك في الصلاة؟ ! فاحتج بحجتين: الأولى قديمة معروفة، وقد سبقت في كلام القاري -وهي كون الصلاة مبنية على السكون والهدوء، وأجاب عنها بما تقدم.
أما أنا؛ فقلت له: «إذا جاء الأثر؛ بطل النظر، ولا رأي مع النص» ! وهل مثلك إلا مثل من يقول: أنا لا أركع في الصلاة، ولا أسجد؛ لأن في ذلك من الحركات
والانتقالات ما لا يتفق مع الصلاة أو السكون فيها! وهل لك ما تجيبه على ذلك إلا أن تقول: إن الذي أمرنا بالسكون في الصلاة هو الذي أمرنا بهذه الحركات والانتقالات، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} ، فهذا الجواب هو جوابنا لك وكفى. فسكت! وأما حجته الأخرى؛ فهي قوله: لما كان العلماء قد اختلفوا في صفة الرفع؛ فبعضهم يقول: يرفع المسبحة مع قبض الأصابع الأخرى. وبعضهم يقول: يبسط هذه الأخرى ويرفع المسبحة. وبعضهم يقول: يرفعها عند النفي ويضعها عند الإثبات.
وبعض يعكس ذلك. وبعضهم يقول: يقبض الأصابع عند وضع اليدين في أول التشهد. وبعضهم إنما يفعل ذلك عند التهليل. وبعضهم يحرك المسبِّحة. وبعضهم لا يحركها. فلما رأيناهم اختلفوا في ذلك؛ تركنا هذه السنة؛ لأننا لم نعرف صفتها! فقلت له: لا يلزم من الاختلاف في صفة شيء ما تركُهُ مطلقاً أو إنكاره! وإلا؛ لزمك أن تترك أشياء كثيرة اختلف فيها العلماء حتى علماء مذهبك! فخذ مثالاً على ذلك: سنية وضع اليمنى على اليسرى في القيام في الصلاة؛ فبعضهم يقول بأن السنة القبض. وبعضهم: الوضع. وبعضهم: الجمع بينهما. هذا في مذهبك. وأما في المذاهب الأخرى؛ فالخلاف أشد؛ فبعضها تقول بأن الوضع يكون تحت السرة. وبعضها: فوقها. وبعضها: على الصدر. بل إن الإمام مالكاً لا يرى مشروعية الوضع مطلقاً - في رواية عنه -؛ فهل تترك أنت هذه السنة لهذه الاختلافات في كيفيتها؛ بل وفي أصلها أيضاً؟ ! فبهت.
ثم قلت: لا ينجيك من هذه الاختلافات إلا الرجوع إلى ما أمرنا الله تعالى به في قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .
هذا ما قلته وقتئذٍ، والأمر يحتاج إلى شيء من التفصيل: أما وضع اليدين في القيام؛ فقد سبق بيان ما يثبت في السنة من ذلك في محله.
وأما المسألة التي نحن فيها؛ فاعلم أن تلك الاختلافات لا أصل لها في السنة؛