الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم قبض اليدين بعد الرفع من الركوع
الشيخ: سأل سائل آنفًا عن مسألة القبض ووضع اليمنى على اليسرى بعد رفع الرأس من الركوع، فذكر قائلًا لي: إنك تقول: بأن هذا الوضع لم يرد عن السلف، فهل ورد السدل عن السلف؟ فقلت: لا، لم يرد هذا ولا هذا، قال: فإذًا: كيف؟
كان انتهى الكلام إلى هنا، لكن كلامه مفهوم، أو مغزاه مفهوم، وهو: كيف تفرق بين القبض فتعتبره بدعة، وبين السدل فتعتبره سنة، فأجبته بأن السؤال خطأ، قال: وكيف؟ قلنا: السدل لا نعتبره سنة بمعنى أننا نتقرب بذلك إلى الله تبارك وتعالى بخلاف الذين يقبضون فإنهم يعتبرون القبض سنًة كما هو شأنه في القيام الأول، فافترق الأمر في وجهة نظرنا عن وجهة نظرهم، هم يتسننون ويتقربون بالقبض، أما نحن لا نتسنن بالسدل وإنما نقول ما يأتي:
الأصل في العبادات كلها أن يأتي في ذلك نص على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك قاصدًا التقرب إلى الله تبارك وتعالى، فلو أنه فعل فعلًا ما، ولم يظهر في هذا الفعل منه عليه السلام قصد التقرب إلى الله فلا يكون ذلك قربةً تقربنا نحن إلى الله زلفا، بل لا يجوز نحن أن نزيد على فعله عليه السلام نيًة لم ينويها هو في فعله هذا.
ومن هذا الباب يأتي تفصيل القول بين السنن التعبدية والسنن العادية، فالسنن التعبدية هي التي فعلها عليه السلام بقصد العبادة فيسن في المسلم أن يفعل ذلك بنية العبادة، والسنة العادية هي التي لم ينوي فيها عبادًة إنما فعلها عادًة أو فعلها جبلًة، فكل من الأمرين فعله جائز مع فارق كبير: أن السنة التعبدية إذا نوى فيها التقرب إلى الله أثيب، أما السنة العادية فلا يجوز له أن يتقرب بها إلى الله؛ لأنه في هذه الحالة يخالف النبي صلى الله عليه وسلم ليس في مظهر فعله، وإنما في مقصد نيته، ولا شك أن الأمر كما جاء في قوله عليه السلام:«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» فإذا افترضنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل فعلًا بنيًة ما ففعل المسلم الفعل نفسه ولكن بنية مغايرة لنية النبي صلى الله عليه وسلم، فبداهًة أنه لا يكون مقتديًا به بل يكون مخالفًا له في الباطن
وليس في الظاهر، والعبرة دائمًا في الباطن الذي هو موضع النية.
ونضرب على ذلك مثلين اثنين: أحدهما: تمثيلي وتقريبي، والآخر: فعلي واقعي، أما المثل التقريبي: هو أن رجلًا صلى سنة من السنن ولنفترض سنة الفجر، صلاها ركعتين كما كان رسول الله يصليهما، ومن دقته في اتباعه في الشكل والصورة أنه قرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لكنه نوى أن هاتين الركعتين فرض، فهل يكون متبعًا للنبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: لا؛ لأنه خالفه في القصد وفي النية.
وقلت: إن هذا المثل تمثيل، هو تمثيل ليس واقعًا بالنسبة لجماهير المسلمين، ولكن مع الأسف الشديد قد وقع فيه بعض الفرق الضالة التي انحرفت عن دائرة الإسلام، وانطلقت منه بعيدًا بسبب كثير من عقائدها المكفرة ألا وهي الفرقة القاديانية، وأظنكم أنكم تعلمون أن من ضلال هذه الفرقة أنه تعتقد بجواز مجيء أنبياء بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه بالفعل جاء أحدهم وهو: ميرزا غلام أحمد القادياني، يؤمنون به أنه نبي مرسل من ربه، وأن المسلم الذي لا يؤمن بهذا النبي فهو كافر.
من عقائد هؤلاء أن ركعتي الفجر واجبة، فإذًا: من صلى هاتين الركعتين في الصورة كما صلاها الرسول بنية أخرى فبداهة أنه لم يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
نأتي إلى مثال واقعي: ما يقع من كثير من الناس الطيبين والحريصين على الاقتداء بالنبي الكريم، فبعضهم مثلًا يطيل ويوفر شعر رأسه، رأينا هذا نحن في بعض البلاد السورية من يفعل ذلك، ربما في غيرها، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ولا نذهب بكم بعيدًا.
فالأقرب مثالًا العمامة: العمامة لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم تعمم، فهل هذه العمامة من سنن العادة أم من هي من سنن العبادة؟ إذا نظرنا إلى الفعل مجردًا عن نية أو قصد قلنا: إنها من سنن العادة؛ لأنه كما جاء في بعض الآثار: العمائم تيجان العرب، فالعمامة لم يأت بها الرسول عليه السلام وإنما هي من عادات العرب، ومن متطلبات بيئتهم وإقليمهم الذي يغلب عليه تارًة الحرارة وتارة البرودة، فهم يستعلمون في
سبيل دفع الحر والقر.
كذلك مثلًا: الرسول صلى الله عليه وسلم ثبت في الصحيحين أنه كان لنعليه قبالان، الإبهام في سير، والأربع أصابع في سير، ماذا تسمونه عندكم اليوم هذا النعل؟
مداخلة: لا يوجد هنا اسم.
الشيخ: المقصود: عندنا في سوريا مثلًا يسمونه: الشاروخ، أو يسمونه: الصندل، أو ما شابه ذلك.
فمن الثابت في السنة الصحيحة كما ذكرنا آنفًا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في نعليه قبالان، فلو قصد مسلم أن يتقرب إلى الله بالعمامة، أو بالقلنسوة، أو بالنعل الموصوف آنفًا يكون قد خالف السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت لدينا أنه فعل هذا وهذا وهذا بقصد التقرب إلى الله تبارك وتعالى.
وعلى خلاف ذلك: لو تقصد المسلم أن يلبس اللباس البياض، قد يقال: أن هذا أيضًا عادة، نقول: لو وقف الأمر عند لباس الرسول عليه السلام هذا اللباس لحشرناه مع الأمثلة السابقة، ولكن حينما قال عليه السلام كما صح ذلك عنه:«خير ثيابكم البياض فألبوسها أحياءكم وكفنوا فيها موتاكم» فرجع هذا النوع من اللباس من العاديات إلى التعبديات.
قد يمكن أن يقول قائل: إن العمائم كاللباس الأبيض حيث جاء في فضلها أمور، فنقول: لم يصح في فضل العمامة شيء يخرجها من العاديات إلى التعبديات، والحديث المشهور القائل:«صلاة بعمامة تفضل سبعين صلاة بغير عمامة» فهو حديث ضعيف كما كنت بينت ذلك في سلسلة الأحاديث الضعيفة، لعل ذلك في المجلد الأول من الأربعة التي طبعت.
وفهم هذه الأمور على الوجه الصحيح يبعد الإنسان عن الغلو في الدين، والعكس بالعكس تمامًا، عندنا في الشام بعض الناس تراهم حسرًا وحالقي اللحى، لكنه إذا ما انتصب قائمًا للصلاة أخرج من جيبه منديلًا وكوره على رأسه، يزعم بأن
بهذه الصورة وبهذه الشكلية تنقلب صلاته إلى سبعين صلاة! ونحن حينما بينا ضعف هذا الحديث إسنادًا، بينا أيضًا نكارته متنًا، . .. لو أن من العمامة فضيلة ما ما يبلغ شأن هذه الفضيلة مبلغ صلاة الجماعة، وأنتم تعلمون قول الرسول عليه السلام:«صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس -وفي رواية- بسبع وعشرين درجة» فكيف تكون هذه الخرقة التي يكورها صاحبها على رأسه تجعل صلاته بدون أي جهد جهيد بسبعين صلاة، هذا حديث منكر سندًا ومتنًا.
إذا عرفنا هذه القاعدة، وعرفنا الضابط فيها، فأبعد ما يكون أن يدخل الإنسان في صلاته أمرًا لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد التقرب بذلك إلى الله تبارك وتعالى.
إذا تبين لنا هذا واقتنعنا به إن شاء الله، نعود لنقول: ماذا كان يكون فعل المسلم المصلي لو لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أي حديث في وضع اليدين في القيام الأول، ماذا كان يفعل؟ هل يتصنع شيئًا متكلفًا إياه من عند نفسه، أم يدع يديه على سجيتهما وعلى طبيعتهما، أن يضعهما على الصدر، أو فوق السرة، أو تحت السرة على خلاف المذاهب المعروفة اليوم؟ في ظني أنه لا أحد يقول في الجواب عن مثل هذه الفرضية: أنه لو لم يثبت في السنة الوضع في القيام الأول لوضعنا، وإنما لتركنا الوضع؛ لأن الوضع فعل زائد على السدل، والسدل على العكس من ذلك فعل طبيعي، فلا يجوز إذا والحال هو الحاصل، لا يجوز مقابلة السدل بالوضع، فكما نقول نحن: إن الوضع في القيام الثاني ما دام أنه لم يأت عن السلف فلا يشرع فلا يقال: إذن هل جاء السدل؟ فنقول أيضًا بكل صراحة: إنه لم يأت، ولكن لا يرد علينا ما يرد على أولئك لما وضحناه وبيناه آنفًا.
هذا ما حضر في بال الشيخ الكبير مما يسر الله عز وجل، ونرجو الله أن يوفقنا لصواب ما نقول.
(فتاوى جدة (5) /00: 00: 01)