الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التشهد الأخير وجوب التشهد
ثم كان صلى الله عليه وسلم بعد أنْ يتم الركعة الرابعة يجلس للتشهد الأخير.
وكان يأمر فيه بما أمر به في الأول، ويصنع فيه ما كان يصنع في الأول؛ إلا أنه «كان يقعد فيه متوركاً» ؛ يفضي بِوَرِكِه اليُسرى إلى الأرض، وُيخْرِجُ قدميه من ناحية واحدة. ويجعل اليسرى تحت فخذه وساقه».
[أصل صفة الصلاة (3/ 981)]
هيئة جلوس التشهد الأخير
قال الإمام في تلخيص الصفة فقرة 170 - 173:
إلا أنه يجلس فيه متوركا، يفضي بوركه اليسرى إلى الأرض، ويخرج قدميه من ناحية واحدة، ويجعل اليسرى تحت ساقه اليمنى.
وينصب قدمه اليمنى.
ويجوز فرشها أحيانا.
ويلقم كفه اليسرى ركبته، يعتمد عليها.
اختلاف العلماء في صفة الجلوس في التشهدين
واعلم أن العلماء اختلفوا في صفة الجلوس في التشهدين: فمنهم من قال: يفترش فيهما. وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
ومنهم من قال: يتورك فيهما. وهو قول مالك وأتباعه.
ومنهم من قال: يتورك في كل تشهد يليه السلام، ويفترش في غيره. وهو مذهب الشافعي وأصحابه.
ومنهم من قال: يتورك في كل صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما؛ فرقاً بين الجلوسين. وهو مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه، وهو أسعد الأئمة في هذا المكان بالسنة؛ فإن معه حديثِ أبي حميد هذا ومن معه من الصحابة، وهو نصٌّ في ذلك؛ قال في «زاد المعاد» «1/ 91»: «قال الإمام أحمد ومن وافقه: هذا مخصوص بالصلاة التي فيها تشهدان، وهذا التورك فيها جُعل فرقاً بين الجلوس في التشهد الأول - الذي يسن تخفيفه؛ فيكون الجالس فيه متهيئاً للقيام - وبين الجلوس في التشهد الثاني - الذي يكون الجالس فيه مطمئناً -. وأيضاً فتكون هيئة الجلوس فارقة بين التشهدين، مذكرةً للمصلي حاله فيهما.
وأيضاً فإن أبا حميد إنما ذكر هذه الصفة عنه صلى الله عليه وسلم في الجلسة التي في التشهد الثاني؛ فإنه ذكر صفة جلوسه في التشهد الأول، وأنه كان يجلس مفترشاً، ثم قال: وإذا جلس في الركعة الآخرة. وفي لفظ: فإذا جلس في الركعة الرابعة».
وينبغي أن نسوق أدلة كل مذهب من المذاهب المذكورة؛ ليظهر الحق منها: أما المذهب الأول: فاحتج أصحابه بثلاثة أحاديث: الأول: عن عائشة قالت: وكان صلى الله عليه وسلم يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى. .. الحديث.
وقد سبق في «افتتاح الصلاة» . وهو بعمومه حجة ظاهرة؛ لأنها ذكرت ذلك بعد قولها: في كل ركعتين التحية. فقولها: وكان يفرش. .. إلخ؛ كأنه نص أنه في كل ركعتين أيضاً؛ لكن الحديث - وإن كان في «صحيح مسلم» ؛ فهو - معلّ بالانقطاع كما بَيَّنَّاه هناك. ولو صح؛ لقلنا بجواز الافتراش في التشهد الأخير، وأنه سنة أحياناً، لكنه لم يصح.
الثاني: عن وائل بن حُجْر قال: فلما قعد للتشهد؛ فرش رجله اليسرى، ثم قعد عليها، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى، ووضع مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم عقد أصابعه، وجعل حلقة بالإبهام والوسطى، ثم جعل يدعو بالأخرى.
أخرجه النسائي «1/ 141» ، والدارمي «1/ 314» ، وأحمد «4/ 318» ،
والطحاوي «1/ 152 - 153» ، والبيهقي «2/ 132» .
وسنده صحيح. وأظن أنه تقدم.
قال الطحاوي: «قوله: «يدعو» : دليل على أنه كان في آخر الصلاة».
وهو كما قال، لكن ينبغي أن ينظر: هل كانت هذه الصلاة ثنائية أم رباعية؟ وقد وجدت في «سنن النسائي» «1/ 173» رواية أخرى تُعيِّن ذلك بلفظ: وإذا جلس في الركعتين؛ أضجع اليسرى، ونصب اليمنى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ونصب أصبعه للدعاء.
وإسنادها صحيح أيضاً.
فهذا نص في أن الافتراش إنما كان في الركعتين، والظاهر أن الصلاة كانت ثنائية، ولعلها صلاة الصبح.
وعليه؛ فالحديث لا حجة فيه لهذا المذهب، بل هو حجة للمذهب الرابع - مذهب أحمد -؛ الذي يقول بالافتراش في التشهد الأول في الرباعية، وكذا في الثنائية، وهو حجة على المذهب الثاني والثالث.
الحديث الثالث: إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى، وتَثْني رجلك اليسرى.
أخرجه مالك «1/ 112 - 113» ، وعنه البخاري «2/ 242 - 243» عن عبد الرحمن ابن القاسم عن عبد الله بن عبد الله بن عمر أنه أخبره: أنه كان يرى عبد الله بن عمر يتربع في الصلاة إذا جلس، ففعلته - وأنا يومئذٍ حديث السن -، فنهاني عبد الله، وقال: . .. فذكره. فقلت له: فإنك تفعل ذلك؟ فقال: إن رِجْلَيّ لا تحملاني.
وكذلك أخرجه الطحاوي «1/ 151» ، والبيهقي «2/ 129» .
وأخرجه النسائي «1/ 173» ، والدارقطني «133» ، والبيهقي أيضاً من طريق يحيى ابن سعيد عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن عبد الله به نحوه. وقد سبق لفظ النسائي في «الجلوس بين السجدتين» ، وله عنده - وكذا الدارقطني - ألفاظ أخرى، ثم قال الدارقطني:«كلها صحاح» .
قلت: وهو حجة بإطلاقه، إلا أنه قد جاء عن ابن عمر أيضاً ما يقتضي تقييده بالتشهد الأول في الرباعية أو بالتشهد؛ في الثنائية. وهو: ما أخرجه مالك أيضاً، وعنه الطحاوي، والبيهقي عن يحيى بن سعيد أيضاً: أن القاسم بن محمد أراهم الجلوسَ في التشهد؛ فنصب رجله اليمنى، وثنى رجله اليسرى، وجلس على وركه الأيسر، ولم يجلس على قدمه، ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر، وثني: أن أباه كان يفعل ذلك.
فهذا خلاف ما أفادته رواية القاسم بن محمد التي قبل هذه، ومثلها رواية ابنه عبد الرحمن، فإن لم تُحمل إحدى الروايتين على تشهدٍ والأخرى على تشهد آخر؛ تعارضتا.
قال الحافظ «2/ 243» : «فإذا حُملت رواية القاسم وابنه على التشهد الأول، وروايته الأخيرة على التشهد الأخير؛ انتفى عنهما التعارض، ووافق ذلك التفصيلَ المذكورَ في حديث أبي حميد. والله أعلم» .
هذا كل ما وجدنا لأرباب هذا المذهب من دليل وحجة. وقد ظهر لك بهذا البيان أنه لا يَسلَمُ لهم ولا حجة واحدة.
وأما المذهب الثاني: فقد احتجوا بحديث ابن عمر المذكور قريباً: أنه كان يجلس على وركه الأيسر.
والجواب عنه يتضح مما سبق؛ وهو أن هذه الرواية محمولة على التشهد الأخير؛ جمعاً بينها وبين الرواية المعارضة له، فالروايتان بمجموعهما حجة لأحمد على مالك.
وقد وجدت له حجة أخرى؛ وهو حديث ابن مسعود: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا جلس في وسط الصلاة وفي آخرها على وركه اليسرى: «التحيات. .. » الحديث.
وهذا نص واضح في التورك في التشهدين، ولكنه لا يصح إسناده - كما سبق بيانه في «الافتراش في التشهد» . فراجعه إن شئت -.
ولهم حجة ثالثة، وهو حديث عبد الله بن الزبير هذا.
وأجيب عنه بأنه مجمل، وأنه محمول على التشهد الأخير؛ كما دل عليه حديث أبي حميد قبله. ذكره في «الزاد» «1/ 86» .
وأما المذهب الثالث: فليس لهم حجة سوى ما في روايةٍ من حديث أبي حميد بلفظ:
حتى إذا كان في السجدة التي فيها التسليم؛ أخر رجله اليسرى، فقعد متوركاً على شقه الأيسر.
وقد تقدمت في «الركوع» [ص 605].
وهذا لا حجة فيه؛ لأن سياق الحديث يدل على أن ذلك إنما كان في التشهد الذي يليه السلام من الرباعية أو الثلاثية؛ فإنه ذكر قيامه من الركعتين، ثم قال: حتى إذا كان في السجدة التي فيها التسليم؛ قعد متوركاً.
قال ابن القيم «1/ 92» : «فهذا السياق ظاهر في اختصاص هذا الجلوس بالتشهد الثاني» .
قلت: وأصرح منه رواية البخاري المتقدمة آنفاً بلفظ: فإذا جلس في الركعتين؛ جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى. وإذا جلس في الركعة الآخرة؛ قدم رجله اليسرى. ونصب اليمنى، وقعد على مقعدته.
وهذه نص فيما قاله ابن القيم، وهي تبين أن بعض الرواة أجملوا رواية حديث أبي حميد هذا؛ فلم يذكر صفة جلوسه في التشهد الأول؛ فاغتر به من احتج به لهذا المذهب! وإنما يجب الأخذ بالزائد فالزائد - كما هو معلوم -.
وأما المذهب الرابع: فقد علمت أن حجته هي حديث أبي حميد هذا، وهو نص صريح قاطع في ذلك؛ فهو أقوى المذاهب وأصحها، وهو الذي يجمع بين مختلف الأحاديث المتقدمة الثابتة، ولا يرد شيئاً منها، بخلاف غيره من المذاهب؛ فإنه يلزم أن يَرُد كثيراً من تلك الأحاديث أو بعضها - كما لا يخفى -.
[أصل صفة الصلاة (3/ 982)]