الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- فترة ما بين (834 - 874 هـ)(1431 - 1469 م) - وهي التي قضاها بمسقط رأسه (الجزائر)، وتصور طور طفولته وشبابه من حياته.
- وفترة ما بين (874 - 914 هـ)(1469 - 1508 م) - وقد عاشها بالمغرب (فاس) وتمثل طور الكهولة والشيخوخة.
ويبدو أن لكل من العصرين، أو الفترتين -على الأصح- أثره الخاص في نفس صاحبنا، سواء من الناحية السياسية، أو الاجتماعية، أو الفكرية؛ لذا سأحاول تسليط بعض الأضواء على هذه النواحي الثلاث:
1 - الحياة السياسية في كلا البلدين:
أ- الحالة السياسية بالجزائر:
شاءت الأقدار الإلهية أن يرى أبو العباس الونشريسي نور الحياة -والدولة الزيانية الحاكمة-آنذاك- بالجزائر تمر بأحلك فتراتها، وتعاني أشد ما تعاني من الفوضى، والاضطرابات الداخلية، والتمزقات السياسية: نتيجة ضعف جل ملوك هذه الدولة، وانهماكهم في التنافس والتهالك على تسنم العرش
الجزائري، الذي أضحى تحت رحمة ملوك الحفصيين منذ أن
تخلت عنه -لظروف قاهرة- دولة بني مرين في حدود (812 - 827 هـ)(6).
وحاول الزيانيون -غير مرة- التخلص من سيطرتهم، وإبعاد هذا الكابوس الجاثم على صدورهم، وإزالة الخناق المطوق لرقابهم، لكن بدون طائل.
فهذا أبو العباس أحمد الزياني الملقب بـ (المعتصم بالله) رغم أن الحفصيين هم الذين ولوه عرش تلمسان (866 - 866 هـ)(7)(1431 - 1461 م)(8) - فإنه لم يكد يستوي على قدميه حتى ثار ضدهم، وأعلن رفض دعوتهم سنة (837 هـ- 1433 م)(9) متخيلا أنهم سيتغاضون عن محاولته الاستقلال عنهم، وأنهم سيعدلون عن سياستهم المتبعة: القتل، أو حبس كل من سولت له نفسه الخروج عن طاعتهم وتعيينهم -في محله- من يخطب باسمهم، ويأتمر بأمرهم.! ! فلم يصدق تخيله.
لكون أبي فارس الحفصي بمجرد ما وصله الخبر، زحف بجيش جرار على الجزائر، قاصدا العاصمة (تلمسان) بيد أنه-
(6) الاستقصا للناصري ج- 4 - ص: 91 طبع دار الكتاب- الدار البيضاء المغرب، وتاريخ الجزائر العام للجيلالي- ج- 2 ص: 189، طبع مكتبة الحياة- بيروت.
(7)
من الصدق أنه ولوه في نفس السنة التي ولد فيها الونشريسي.
(8)
تاريخ الجزائر العام-ج- 2 - ص: 189.
(9)
نفس المصدر- ج- 2 - ص: 191.
من سوء حظه، وحسن حظ خصمه- أنه وافاه أجله قبل الوصول إليها، فاضطر جيشه إلى الرجوع إلى تونس (10)، فتنفس أبو العباس (العاقل) الصعداء، وراح ينعم بشيء من الاستقرار، لكن هذا الاستقرار لم يدم طويلا، إذ سرعان ما فوجئ بعصيان أخيه (أبي يحيى) وإعلان الثورة عليه، تسانده بعض القبائل التي سئمت حكم السلطان، فهرع إلى تلمسان مع أنصاره، وحاصرها مدة، وحينما استعصمت عليه اتجه إلى وهران، فاحتلها سنة (840 هـ)(11)(1437 م) - بغير قتال، وحاول السلطان- مرارا مطاردته، إلا أن النجاح لم يحالفه في البداية، لصمود أخيه، واستماتة أنصاره، وانشغال السلطان بمقاومة ثورة أخرى شنها عليه أبو زيان محمد (المستعين بالله) الذي زودته حكومة تونس بالجند والعتاد، وتمكن من السيطرة على كثير من الولايات، واتخذ مدينة الجزائر مركزا لإنشاء دولته، وكاد أن يستفحل أمره، لو لم يقض عليه أبو يحيى (صاحب وهران) واستولى على ما كان بيده، وأحس أبو العباس (العاقل) -أكثر من ذي قبل- بالخطر الذي يهدد ملكه، وصمم العزم على القضاء على أخيه (أبي يحيى) قبل أن يقضى عليه، فاحتدمت بينهما حروب منهكة، إلى أن رجحت كفة أبي العباس في النهاية، بالانتصار على أخيه، واستيعادته جميع الولايات إلى حظيرة مملكته،
(10) تاريخ الجزائر العام ج- 2 - ص: 191.
(11)
نفس المصدر.
واعتقد بذلك أنه قضى علي كل الثورات المتلاحقة وأنه سينعم بشيء من الطمأنينة، ولم يكن يتوقع أن أبا ثابت (المتوكل علي الله)(حفيد أخيه) سيقوم بثورة عارمة ضده، وأن نهاية حكمه ستكون علي يده.
وفعلا فقد نزل أبو ثابت المتوكل علي العاصمة (تلمسان) كالصاعقة سنة (866 هـ-1461 م)(12) وطرد منها السلطان (عم أبيه) ونفاه إلى الأندلس، وفي نفس الوقت أعلن استقلاله عن الدولة الحفصية، (13) وما كادت تصل هذه الأنباء إلى تونس، حتى هب سلطانها أبو عمرو عثمان الحفصي بجيش عارم؛ مكتسحا به جل الولايات والقبائل الجزائرية، وبدل أن يحاول أهلها رد زحفه ومقاومته، صاروا يقدمون له التمر والحليب، معلنين بذلك ترحابهم به، وسخطهم علي حكم السلطان أبي ثابت الذي وجد نفسه مهددا بالخطر، وأن حكمه وشيك الانهيار إن لم يتدارك الأمر عن عجل، فلم يجد حيلة تنقده من تلك الورطة خيرا من إيفاده نخبة من كبار العلماء، ليتشفعوا له لدى السلطان الحفصي، فنفذها ونجحت حيلته، ثم قفل السلطان الحفصى راجعا إلى عاصممة ملكه، (14) بعد أن عين بعض الولاة والقواد بنفسه، غير أن أبا ثابت لم يأخذ العبرة بهذه الهزيمة، إذ ما لبث أن عاد إلى التمرد، بإعلانه رفض الدعوة الحفصية للمرة الثانية،
(12) تاريخ الجزائر العام ج 2 ص 193.
(13)
نفس المصدر ص 193.
(14)
نفس المصدر ص 194.
سنة (868 هـ 1463 م)(15) فقام الجيش الحفصي بحملة تأديبية، واسعة النطاق، أخضع لسلطته كثيرا من الجهات، ثم يمم العاصمة (تلمسان) فأحاط بها إحاطة السوار بالمعصم، فما كان من أبي ثابت إلا الاستسلام، وإهداء بنته لأحد الأمراء الحفصيين كعربون على إخلاصه، وكتابة البيعة -للسلطان الحفصي- بيده، جاء فيها: "شهد على نفسه عبد الله المتوكل عليه، محمد لطف الله به، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأعطى بنته بكرا للمولى أبي زكرياء يحيى بن المولى المسعود دون خطبة
…
(16) ".
هكذا كانت عجلة الأحداث تسير في الجزائر خلال هذه الحقبة، عراك وفتن داخلية، وثورات مضنية متتالية، والتطاحن على الملك والرئاسة -أصبح شيئًا مألوفا- بين الإخوة تارة، وبين الملوك المتجاورين تارة أخرى، والإسبان يخططون في خفاء، لاحتلال القواعد والثغور الإسلامية، والمراكز الاستراتيجية على البحرين: المتوسط والأطلسي، حتى لا تقع النجدة لمسلمي الأندلس، الذين كانوا يعيشون محنتهم الأخيرة، فاحتل الإسبان (فعلا) مدينة بونة (عنابة (17)) تمهيدا للسطو على المراكز الأخرى، والبرتغاليون -بدورهم- اشرأبت أعناقهم لأخذ حقهم في الغنيمة، فأخذوا
(15) نفس المصدر ص 195.
(16)
نفس المصدر ص 195.
(17)
عنابة مدينة تقع في أقصى الطرق الشرقي للجزائر على بعد 100 كيلو متر من حدود تونس مع الجزائر، وتبدل اسمها عدة مرات من (هبو) و (هبونة) و (زاوة) و (بونة) إلى اسمها الحالي عنابة. انظر مجلة العربي ع 178 ص:83.
يستعدون للاستيلاء على ميناء وهران- للمرة الثانية- دون أن يحرك حكام الجزائر- آنئذ- ساكنا للدفاع عن ثغورهم التي صارت تتساقط في يد العدو تباعا، ولا التفتوا إلى تضرعات أهل الأندلس، واستغاثاتهم المتكررة، وربما انتقد أبو العباس الونشريسي- وقد عرف بصراحته وتصلبه في الحق، وغيرته على الإسلام- موقف أبي ثابت السلبي إزاء نداءات الأندلس، وسياسته الفاشلة لعدم تبصره بتصريف الأمور بتعقل وحكمة، فلو عامل السلطان الحفصي بدهاء وحنكة، لما لحقته تلك الهزيمة والإهانة، بل ولاستماله إلى التعاون معه على محاربة العدو الأكبر، الذي كان يعيث فسادا في الأندلس المسلمة، ويستعمل كل الوسائل البشعة لاستئصال أهلها وقلع جذور الإسلام منها، وهاهو ذا بلغت به الجرأة إلى اقتحامه الشواطيء الجزائرية وغيرها- تحديا واستكبارا، وربما غضب الونشريسي لذلك، واستنكر على السلطان مواقفه المزرية جهارا، فحملته أنفة الملوك على طرد صاحبنا من تلمسان، وانتهاب داره.
كما يحتمل أن الونشريسي أتهم بالتحريض على مشايعة الملك الحفصي، ومبايعته له، أو على الأقل كان من ضمن الذين رحبوا به أثناء قيامه بحملة تأديبية، معلقين عليه آمالهم أن يعمل على طرد العدو من شواطئهم بعد أن يئسوا وتيقنوا من عجز أبي ثابت وسلبيته إزاء الأندلس، وتوفير الأمن الداخلي، والذود عن حوزة الوطن
…
ومن الغريب أن كتب التراجم تمر بهذا الحادث مر الكرام دون أن تذكر أي سبب أو تعليل، بل وحتى إسم السلطان، الذي