الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مما يؤكد أن الكتاب فريد نوعه - في منهاجه، ومضمونه، وأسلوبه.
وليس معنى هذا أن "إيضاح المسالك" قد خلا من كل هفوة، وارتفع عن كل مأخذ وزلة؟ .
إن الحديث اللاحق سيتكفل برصد بعض هناته، ومأخذنا عليه.
مأخذنا على الإِيضاح:
على الرغم من المرتبة التي احتلها مؤلف الإيضاح في الميادين الفقهية بشهادة كثير من جهابذة فقهاء عصره، كابن غازي، وابن عسكر، وسواهما - فإن (حامل لواء المذهب المالكي في عصره (24)
…
) قد انزلق وارتكب هنات في كتابه "الإيضاح"، وهي جلية واضحة للعيان، يمكن رصد أهمها فيما يلي:
1 -
في طليعة ما يؤخذ عليه: إهماله النهج التأليفي الصحيح، وأداء الأمانة العلمية - بعدم نسبته النقول إلى أهلها، والسكوت عن مصادرها - غالبًا، إذ تراه يعتمد - في الدرجة الأُولى - على قواعد المقري، ثم فروق القرافي، فمختصر ابن الحاجب، والتوضيح: ومع ذلك لا يشير إليها إلا نادرًا، ولا سيما قواعد المقري التي افتن في النقل منها، فتراه - تارة - ينقل القواعد وأمثلتها بالحرف، كالقواعد التالية مثلًا
(24) انظر السلوة ج 2 ص: 153 لأبي عبد الله محمد بن جعفر الكلتاني.
"الكفارة هل تتعلق باليمين أو بالحنث (25) ""الجهل هل ينتهض عذرا أم لا (26)؟ ""الأصل منع المواعدة، بما لا يصح وقوعه في الحال حماية (27) "إلى غير ذلك - وهو كثير.
وتارة تراه ينقل منها بعض الأمثلة فقط، وأحيانًا أخرى ينقلها مع تصرف بسيط (28). وتجده في قاعدة "تقديم الحكم على شرطه، هل يجزئ ويلزم أم لا؟ " يقتبس جميع الأمثلة من فروق القرافي (29)، كما أخذ قاعدة:"الترك هل هو كالفعل أم لا؟ " و"الشك في النقصان كتحققه" من مختصر ابن الحاجب دون أمثلتها (30).
وكذلك قاعدة، التخيير في الجملة، هل يقتضي التخيير في الأبعاض أم لا؟ " (31) نقلها من التوضيح دون أمثلتها؛ كل ذلك دون أن يشير - لا من قريب ولا من بعيد إلى المصدر الَّذي اقتبس منه، أو نقل عنه.
2 -
وقوعه فيما انتقده - مرارًا - على المقري ضمنيًا - من تكراره للقواعد، ناسيًا أو متناسيًا أنَّه هو بدوره وقع في ذلك،
(25) المقري: القاعدة (773) - اللوحة (49 - ب).
(26)
انظر قواعد المقري: القاعدة (780) - اللوحة (50 - أ).
(27)
انظر قواعد المقري: القاعدة (890) - اللوحة (56 - أ).
(28)
تتبع ذلك في تعاليق التحقيق، وهناك نبهت عليها.
(29)
الفرق (33) ج - 1 - ص: 196 - 200.
(30)
انظر مختصر ابن الحاجب - اللوحة (20 - ب).
(31)
انظر التوضيح ج - 1 - ورقة (139).
كما يتضح ذلك جليا، في الأمثلة التالية:
أ -"الموجود شرعا، هل هو كالموجود حقيقة أم لا؟ ""الموجود حكما، هل هو كالموجود حقيقة أم لا؟ "(32).
ب - "المعدوم معنى، هل هو كالمعدوم حسا أم لا؟ ""النهي هل يصير المنهى عنه كالمعدم أم لا؟ "(33)
ج - "من الأصول المعاملة بنقيض المقصود الفاسد""من استعجل الشيء قبل أوانه، فإنه يعاقب بحرمانه"(34).
إلى غيرها من القواعد التي كررها - وكان الأجدر به أن لا يفعل، ولكن سبحان الَّذي لا يغفل ولا ينسى.
3 -
لم يوف بما التزم به في مقدمة الكتاب: "
…
أجمع لك تلخيصا مهذب الفصول
…
" - باستطراده بعض الحكايات - ولو أَنها قليلة، وكان من الأليق الاستغناء عنها.
4 -
إغفاله بعض القواعد الهامة، ولا سيما ما كان أصلها أحاديث نبوية مثل:"الأمور بمقاصدها (35) " "العادة
(32) انظر ص: 148 و 339.
(33)
انظر ص: 289 و 377.
(34)
انظر ص: 322.
(35)
أصل هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات
…
" الحديث أخرجه الأئمة الستة وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب، وينبني على هذه القاعدة كثير من الأحكام انظر الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 12 و 27، والأشباه والنظائر للسيوطي ص: 28 وما بعدها.
محكمة (36)" "الحدود تسقط بالشبهات" (37) "الضرر يزال (38)" "الميسور لا يسقط بالمعسور (39) ".
إلى غير ذلك من القواعد العامة التي يتفرع عن كل منها قواعد فقهية فرعية وأحكام كثيرة.
5 -
إيراده بعض القواعد في صيغ مطولة - عكس ما تعارف عليه الفقهاء من صوغهم للقواعد، في أقصر عبارة، وأوسع دلالة - مثل ما فعل في القواعد الآتية:
أ- "المترقبات إذا وقعت، هل يقدر حصولها يوم وجودها؛ كأنها فيما قبل كالعدم؟ أو يقدر أنها لم تزل حاصلة من حين حصلت أسبابها التي أثمرت أحكامها وأسند الحكم إليها (40)؟ .
(36) محكمة بتشديد الكاف المفتوحة، اسم مفعول من التحكيم. وأصل هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم:"ما رآه المسلمون حسنًا، فعند الله حسن". أخرجه أحمد في مسنده، وقيل من قول عبد الله بن مسعود موقوفًا عليه. والمراد بالعادة في هذه القاعدة هو المعرف بنوعيه: اللفظي والعملي. ويتفرع عنها كثير من القواعد الفرعية كقولهم: "المعروف عرفًا، كالمشروط شرطا" و"المعروف بين التجار، كالمشروط بينهم" و"التعيين بالعرف، كالتعيين بالنص". انظر الأشباه والنظائر للسيوطي ص: 40، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص: 46 - 52.
(37)
أصلها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "ادرأوا الحدود بالشبهات".
انظر الأشباه والنظائر لابن نجيم ص: 64 - 65، والأشباه للسيوطي ص:67.
(38)
أصلها حديث الرسول (ص): "لا ضرر ولا ضرار" رواه مالك في الموطأ، وابن ماجه، والدارقطني وغيرهم. انظر ابن نجيم ص: 43، والسيوطي ص:47.
(39)
أصلها قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم .. " .... الحديث". انظر السيوطي ص: 85 وما بعدها.
(40)
القاعدة (32) ص: 219.
ب - "من عجل ما لم يجب عليه، هل يعد مسلفا ليقتضي من ذمته إذا حل الأجل إلا في المقاصة: - وهو المشهور أو مؤديًا - ولا سلف ولا اقتضاء - وهو المنصور لأنَّه إنما قصد إلى البراءة والقضاء (41)؟ ".
ج - العوض الواحد إذا قابل محصور المقدار وغير محصوره، هل يفضل عليهما أو يكون للمعلوم، وما فضل للمجهول وإلا وقع مجانا (42)؟ ".
6 -
اعتماد المؤلف على أكثر من ثلاثين مصدرا فقهيا، والتقاطه عدة أمثلة لقاعدة واحدة - غالبا - من مختلف أبواب الأمهات، ونقله أحيانا نفس العبارات
…
جعل الكتاب صعبًا للغاية، أو على الأقل - بالنسبة لمن كان مثلى ذا بضاعة مزجاة في الميادين الفقهية.
7 -
كم من واحد ينخدع بالمظاهر والعناوين الجذابة و
…
ذلك ما حدث لي بالضبط مع "إيضاح المسالك" إذ لم أشعر - في الواقع - أني خودعت، إلا بعد أن بدأت في التحقيق و
…
لذا أوصي القارئ - مقدما - أن لا يغتر بالعنوان، فإنه بعد أن يقرأ الديباجة، والتقديم الموجز، الذي يتسم بسمة المقدمات؛ من: السجع والتشويق والصنعة سيفاجأ بأسلوب معقد، ومسائل صعبة التطبيق، ومنهج وعر المسالك، صعب المرتقى، حتَّى بلغ تطبيقه في بعض القواعد - حد الإعجار مما جعل جل ما تضمنه الكتاب، أقرب إلى الرموز والألغاز منه إلى الإيضاح
(41) القاعدة (89) ص: 346.
(42)
القاعدة (71) ص: 297.
والبيان، فصاحبنا لا يعرف الملل، ولا يسأم الترحال المتواصل! ! فتراه يتجول بالباحث في عالم الفقه كلّه - مرة تلو الأخرى - منقبًا بعقله الوقاد في كل باب ودرب، عن الفروع الواردة، والمسائل الشاردة - التماسًا لراحتها من نقاش الفقهاء الحاد، وتشريحها بينهم من جديد! ! - حتَّى إذا ما عثر عليها قادها ليربطها بقاعدة ما - طوعا أو كرها - بسلاسل من الأدلة، وقد يضع عليها علامة الاستفهام، تارة يصرح، وأخرى يلمح إلى مصادرها، والقول الراجح فيها، وفي أغلب الأحيان يلتزم الصمت المطبق "ولست أدري أكان يتعمد ذلك ليختبر كفاءة وذكاء من يحأول تعقب أثره ليتركه يتيه في متاهات مظانها، متصفحا أمهات الفقه - الواحدة تلو الأخرى، أياما وربما أسابيع وشهورًا؟ أو أن طبيعة المسائل وتشتتها هي التي أرغمته أن يتجه هذا الاتجاه الصعب، المنهك للقوى والأعصاب؟ ! !
ورغم هذا كلُّه فلا أعتقد أن هذه المأخذ ستغض من قيمة الكتاب، وتنقص من محاسنه ومزاياه، ما دام قدم لنا ذخيرة فقهية هائلة، لا تقدر بثمن، وطبقها تطبيقا عمليا على القواعد والأصول، ولا يخفى ما للتطبيق العملي من أهمية قصوى، ومزايا لا تحصى - في عصرنا الحاضر وحتى لو لم يكن له من المحاسن إلا هاتان؛ لرجحتا على كل هفوة قيلت فيه، أو يمكن أن تقال، علاوة على أن الخطأ والنسيان، لا ينجو منهما أي إنسان مهما كان:
ومن ذا الَّذي ترضى سجاياه كلها .. كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه.