الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تاريخ تأليفه:
حسبما يبدو أن أبا العباس كتب صورة مختصرة لهذا الكتاب، بتاريخ سبعين وثمانمائة هجرية- وقد احتفظت بهذه الصورة نسخة فريدة- فيما أعلم- بالخزانة العامة بتطوان رقم (619).
ثم ظلت يده تعمل فيه بالتنقيح والتحرير مدة، وأهم زيادة أضيفت إِليه هي المسائل والصور الفقهية التي أدرجت تحت كل قاعدة، حتى صار علي الصورة التي عليها الآن، ولهذا نراه اختلفت نسخه ما بين زيادة ونقصان، وهذا ليس ببدع، فجل المؤلفين ساروا علي هذا المنوال في تأليفهم، فلنأخذ مثلًا موطأ الإمام مالك، فإن الباحث إذا ما قارن بين صورته الأولى التي كتبت عنه في البداية، ورواها عنه تلاميذه -وهم كثيرون- والصورة الأخيرة التي سمعها عنه يحيى بن يحيى الليثي- وهي التي اشتهرت روايتها بالمغرب، وشرحها الكثيرون، سيجد- لا محالة- البون الشاسع بين هذه الصورة وتلك.
غرض الكتاب وسبب تأليفه:
يفهم غرض الكتاب وسبب تأليفه، مما استهله به مؤلفه "
…
فإنك سألت أيها الفاضل الشريف، الرفيع القدر الأعلى المنيف
…
أن أجمع لك تلخيصا مهذب الفصول، محكم المباني
والأصول، يسهل عليك أمره، ويخف عن الأسماع والقلوب ذكره (2)
…
".
ومن هذه الفقرات القليلة، يتضح أن المؤلف وضع هذا الكتاب تلبية لرغبة سائله، هادفا منه اختيار مجموعة من القواعد الهامة، وإدراج تحت كل قاعدة منها زمرة من الفروع والمسائل الملائمة لها، وبذلك يكون قد سهل الأمر علي الفقيه المختص، والمهتم بالميادين الفقهية- على السواء، ويكفيهم عناء البحث عن المسائل التي تندرج تحت كل قاعدة.
منهاجه:
لقد نهج المؤلف نهج التنويع في إيراده للقواعد، وصيغها، والمسائل التي أدرجها تحت جل منها.
1 -
تنويعه للقواعد: أورد المؤلف في كتابه "الإيضاح" نوعين من القواعد: نوع عام، ونوع خاص، ولكل منهما فروعه الخاصة، وسيأتي مزيد بيان، في الفصل الخامس بحول الله.
2 -
تنويعه لصيغ القواعد:
في غالب الأحيان ما يورد القاعدة في صيغة الاستفهام، للدلالة علي الخلاف المذهبي في أصل القاعدة، كقوله -مثلًا-:"الظن هل ينقض بالظن أم لا؟ (3) ""الصور الخالية من
(2) انظر الملزمة 4 - ص: 6.
(3)
انظر القاعدة (7) ص: 156.
المعنى، هل تعتبر أم لا؟ (4)""الشفعة هل هي بيع أو استحقاق؟ (5) ".
وفي بعض الاحيان يأتي بالقاعدة في صيغة جملة خبرية، إيحاء منه بأن القاعدة مسلمة لا خلاف فيها بين الفقهاء، كـ "الذمة إذا عمرت بيقين، فلا تبرأ إلا بيقين"(6). و "الشك في الزيادة كتحققها (7) ". و "الضرورات تبيع المحظورات (8).
ثم يتبع كل قاعدة بالمسائل والصور الفقهية، التي تقبل الاندراج تحتها، وبتعبير أدق يقوم بتطبيق عملي بالنسبة لكل قاعدة غالبا.
3 -
تنويعه في الفروع والصور:
تري المؤلف يطوف بالباحث في رحلة ممتعة وشاقة في آن واحد- علي مختلف أبواب الفقه، باحثا عن المسائل التي يدرجها تحت قاعدة ما، لا سيما إذا كانت من القواعد العامة، خذ مثلًا قاعدة "الدوام علي الشيء هل هو كابتدائه أم لا؟ (9) ". فإنك ستجد المؤلف يتجول بك في أبواب شتي بدون مراعاة أي ترتيب؛ الإيمان، الصلاة، الطلاق، الحج، العمرة،
(4) القاعدة (66) ص: 288.
(5)
القاعدة (106) ص: 390.
(6)
القاعدة (26) ص: 206.
(7)
القاعدة (27) ص: 208.
(8)
القاعدة (97) ص: 372.
(9)
القاعدة (12) ص: 170.
البيوع، النكاح، الصيد، الضمان، الغصب، الصيام، الكفارات، الظهار الردة، الزكاة
…
الخ.
أما إذا كانت القاعدة من القواعد الخاصة، فغالبا ما يقتصر علي تصيد مسائلها وصورها من باب واحد، كقاعدة:"النكاح من باب الأقوات، أو من باب التفكهات؟ (10) "فإن جميع الأمثلة التي أوردها كتطبيق علي القاعدة، لم تخرج عن إطار باب النكاح.
والشيء الذي يلفت النظر، أن المؤلف يكاد يحصي كل قضية وصورة جري فيها الخلاف المذهبي، من هذا القبيل أو ذاك، وقد يشير إلي الخلاف العالي، وينتهيي في بعض الأحيان- بذكر المذهب الصحيح، والقول الراجع، أو المشهور في المسألة.
مضمن الكتاب:
ضمن أبو العباس كتابه "الإيضاح"، ثمان عشرة ومائة قاعدة، يبتديء بقاعدة:"الغالب هل هو كالمحقق أم لا (11)؟ " وينتهي بقاعدة: "كل ما أدي اثباته إلي نفيه، فنفيه أولي (12) ".
وبين هذه وتلك اورد المؤلف أربعة أقسام من القواعد (13)، أودع في كل منها- غالبا- قضايا متعددة، وفروعا
(10) القاعدة (69) ص: 294.
(11)
القاعدة (1) ص: 143
(12)
القاعدة (118) ص: 412
(13)
انظر الفصل الخامس ص: 82 - 84.
مختلفة، تصل في مجموعها إلي نحو ألفي مسألة وصورة، جلها خلافية- بالإضافة إلي المقدمة، وتقريظه للإيضاح بنفسه في النهاية، واستطراده بعض التنبيهات، والفوائد والحكايات- رغم صغر حجم الكتاب، وهنا تلعب لغة الرموز والتلميحات دورها الفعال، فيضمنه هذا القدر من الأحكام، الذي قد لا يخطر علي بال، وتتزاحم المسائل، وتتشابك الصور والفروع
…
! !
مصادر الكتاب:
اعتمد أبو العباس في تأليفه هذا الكتاب -بالدرجة الأولى- كتب القواعد الفقهية، ثم الأمهات، فسائر دواوين الفقه الهامة، ويمكن ترتيبها حسب إفادته منها- كثرة وقلة -كما يلي:
1 -
قواعد المقري.
2 -
فروق القرافي.
3 -
مختصر ابن الحاجب الفقهي.
4 -
التوضيح للشيخ خليل.
5 -
شرح ابن عبد السلام لمختصر ابن الحاجب.
6 -
مدونة الإمام مالك (رواية سحنون).
7 -
مختصر ابن عرفة.
8 -
نوادر ابن أبي زيد القيرواني.
9 -
البيان والتحصيل لابن رشد.
10 -
المقدمات لابن رشد أيضًا.
11 -
نوازل البرزلي.
12 -
أحكام ابن سهل.
13 -
تبصرة اللخمي
14 -
تعليق المازري
15 -
جامع ابن يونس
16 -
المفيد لابن هشام
17 -
المتيطية لأبي الحسن المتيطيي.
18 -
تعليق أبي عمران الفاسي علي المدونة.
19 -
تعليق السيوري.
20 -
تقييد أبي الفضل راشد الوليدي.
21 -
كتاب "الخصال" لابن زرب
22 -
شرح التهذيب للشار مساحي
23 -
العارضة للقاضي ابن العربي
24 -
أحكام القرآن له أيضًا
25 -
تفسير ابن عطية "المحرر الوجيز"
26 -
إحكام الفصول .. للباجي
27 -
لب الألباب، في مناظرة القباب- للعقباني
28 -
منتهي السول والأمل .. (المختصر الأصلي) لابن الحاجب.
29 -
المجموعة لابن فتوح
30 -
الكافي لابن عبد البر
31 -
الواضحة لابن حبيب.
تقييم الكتاب:
علي رغم ما تكون بيني وبين (إيضاح المسالك) من علاقة وتعاطف- ولو أنها كانت تتكدر في بعض الأحيان، نظرا لما كان يكلفني به من إرهاق ومتاعب قد لا تحتمل- فإن الواجب العلمي يحتم علي تقييمه ووضعه في الميزان- وطبعا - بعد تجردي من كل عاطفة، أو حزازة إزاءه، حتى يكون التقييم نزيها، والبحث يأخذ توازنه بمحاولة إبراز ما للكتاب من مزايا وخصائص، وما عليه من مآخذ وملاحظ.
مزاياه:
لا أدعي تقصي كل خصائص الإيضاح ومزاياه، وإنما سأكتفي برصد أهمها فيما يتصل بالمنهج، والمضمون، والأسلوب:
من حيث المنهج:
1 -
قيامه بالتطبيق العملي (من الكل إِلي الجزء):
ولتنفيذ هذه الخطة نجد المؤلف تارة يجعل القواعد هي المدار والمعيار، فيعرض المسائل والصور الفقهية عليها، فما وجده تنطبق عليه قاعدة ما أدرجه تحتها، وإلا أبعده وعرضه علي قاعدة أخرى، وهكذا دواليك.
وهذه الطريقة في الواقع- صعبة، بعيدة المنال، لا يسلكها إلا ذووا المهارة الفائقة، والموهبة الخاصة، لمعرفة مظان كل
مسألة، في أبواب الفقه المتعددة والمتنوعة، وتشخيصها أمام عينيه كلها، بحيث تجده يستحضر لقاعدة واحدة- غالبا- مسائل عديدة من أبواب متنوعة، تد تصل في بعضها إِلي نحو ثلاثين مسألة.
وهذا يوحي بأن مؤلف الإيضاح كان له باع طويل، واطلاع واسع في مجال الفقه عموما، والفقه المالكي بوجه خاص، وموهبة نادرة، في معرفة مظان كل مسألة مسألة.
وطورا آخر يجعل الباب الواحد من أبواب الفقه هو المدار للقاعدة والأمثلة ولا يتعداه، وهذا -غالبا- ما سلكه في القواعد الخاصة -كما أشرت إِلي ذلك آنفا.
وخذ مثلًا قاعدة "من أَخر ما وجب له عد مسلفا (14) " فإن الأمثلة التي ضمنها لهذه القاعدة تدور في فلك باب الديون.
2 -
إدماجه قاعدتين أو أكثر- تنكيتا علي المقري ضمنيا - في قاعدة واحدة، وإدراجه سائر الأمثلة تحتها، عكس صنيع المقري الذي يورد لكل قاعدة أمثلتها الخاصة، حتى تبدو أحيانا وكأنها تكرار، أو شبه متداخلة مع بعضها البعض، كقاعدة "الملحقات بالعقود، هل تعتبر كجزئها، أو إنشاء ثان (15) .. " أدمج فيها ثلاث قواعد من قاعد المقري مع أمثلتها. وكذلك
(14) انظر القاعدة (88) ص: 345.
(15)
انظر القاعدة (55) ص: 265.
قاعدة "نوادر الصور هل يعطي لها حكم تفسها أو حكم غالبها (16)؟ " أدمج فيها قاعدتي: (761) و (864) من قواعد المقري مع أمثلتها، وكثيرا ما يفعل المؤلف هذا أو ذاك-تفاديا من التكرار وهادفا إلي الضبط والتركيز والاختصار.
المضمون:
قد يعجب القاريء حينما يقارن حجم كتاب (إيضاح المسالك) - بما تضمنه من ثروة فقهية غزيرة تجل عن الوصف، وما حوته كل قاعدة -غالبا- من مسائل وفروع فقهية تفوق الحصر- بشكل لم يسبق ولم يلحق له نظير- فيما أعلم، وإن كان المقري حاول أن يفعل ذلك، إلا أن المسائل التي أدرجها تحت كل قاعدة لا تتعدي الخمس أو السبع- علي الأكثر.
أما صاحبنا فلعله كاد يستوعب ويستقرئ كل المسائل والصور التي تندرج تحت قاعدة ما، وبالأحري المسائل الخلافية منها، الشيء الذي يدعوني إلي القول بأن هذا النوع من الدراسة الفقهية وليد، والبحث فيه طريف وجديد- بغض الطرف عن صعوبته، وحق أن ينسب إلي أبي العباس الونشريسي لما بذل فيه من جمع وتنسيق، وهو مجهود جبار لا ينكر.
- جمع ونسق المؤلف- في الإيضاح- خلاصة ولب ما تفرق في عشرات أمهات الفقه، بعد أن حقق ودقق جل القواعد
(16) انظر القاعدة (54) ص: 263.
والمسائل - إلى حد بعيد، وحرر الكثير منها أتم تحرير، مما جعل البعض يصف كتاب (الإيضاح) بـ "أنه دراسة محررة لأهم القواعد الفقهية، التي بنى عليها خلاف المذهب المالكي (17).
ويذكر البعض الآخر أنه "فلسفة فقهية مفيدة (18)
…
" وهو تقييم له مغزاه وأبعاده، وبعد هذا وذاك، فلا غرابة إن قلت إن "إيضاح المسالك" نادر الوجود عزيز المثال، قد لا يستغني عنه أي فقيه، أو باحث في أسرار الفقه والتشريع.
الأسلوب:
وبتصفح كتاب (الإيضاح) وتتبع قواعده ومسائله، يدرك القارئ أن أسلوب المؤلف يتنوع بتنوع القواعد وصورها، ففي بعض القواعد ومسائلها سيلمح فيها أسلوب الونشريسي بارزا واضحا، يتمنى أن لو يسترسل على تلك الوتيرة من السلاسة والسجع الغير الممل، المعروف به في كثير من تآليفه وفتاواه وتعاليقه، كتعليقه - مثلًا، على كتاب "مثلى الطريقة، في ذم الوثيقة (19) " الذي يقول فيه:
…
قد كد نفسه في شيء لا يعني الأفاضل، ولا يعود عليه في القيامة ولا في الدنيا بطائل، وأفنى طائفة من نفيس عمره في التماس مساوئ طائفة بهم تستباح الفروج، وتملك مشيدات الدور والبروج،
(17) انظر البستان -لابن مريم ص: 54.
(18)
انظر الفكر السامي ج - 4 ص: 99.
(19)
تأليف لابن الخطبيب.
وجعلهم أضحوكة لذوي التهتك والمجانة، وانتزع عنهم جلباب الصدق والديانة (20)
…
". وسيجد نفس الأسلوب في الإيضاح، وبالأحرى في بدايته ونهايته: "فإنك سألت أيها الفاضل الشريف، الرفيع القدر الأعلى المنيف، وصل الله سعدك، ويمن قصدك، وحرس كنفك، وأعز الأثيل شرفك، وأجمل بمنه صونك وأحسن على ما رمته من التحصيل عوني وعونك (21)
…
".
وجاء في خاتمة الكتاب: "
…
هذا نهاية ما قيدت، مما إليه قصدت، وبه وعدت، وإياه أردت، وفيه اجتهدت، من القواعد المحكمة الكافية، الجليلة النافعة الشافية، جمعتها لك هنا من أماكنها، وأبرزتها من مكامنها، على وفق ما سألت، بل فوق ما أملت (22) "
…
وربما سيجد هذا الأسلوب مبثوثا بين ثنايا الإيضاح - هنا وهناك - كقوله: "وجرى بيني وبين من نحا منحى ابن بشير - في الجواب من أعيان الفقهاء - نزاع كبير، وبحث أثير، يضيق هذا الملخص عن حمل سطوره، وضم منثوره (23)
…
" إلا أنه سرعان ما تشعر - فجأة - أن ذلك الأسلوب البارع قد توارى واختفى تماما، وأنك أمام أسلوب من نوع آخر، ولنا معه وقفة بعد قليل.
(20) انظر أزهار الرياض ج 2 - 297 - للمقري.
(21)
انظر صفحة: 140.
(22)
انظر صفحة: 426.
(23)
انظر صفحة: 319.