الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني خلاف العلماء في كيفية تطهير الماء المتنجس
مدخل في ذكر الضوابط الفقهية:
• كل ماء كثير زال تغيره بنفسه فإنه يعود طهورًا.
• النجس يطهر بالاستحالة على الصحيح، فالمتنجس أولى أن يطهر بزوال أثر النجاسة.
• انتقال الماء من الطهورية إلى النجاسة حسي وليس تعبديًا، كانتقال النجس إلى عين طاهرة على الصحيح.
• الحكم بوجود الشيء يدور مع أثره وجودًا وعدمًا، فينزل وجود أثر الشيء منزلة وجوده، وعدمه منزلة عدمه استدلالًا بوجود الأثر على وجود المؤثر، وبانتفائه على انتفائه
(1)
.
• ما دفع النجاسة عن غيره دفعها عن نفسه من باب أولى.
• التراب أحد الطهورين يرفع الحدث بشرطه ويزيل الخبث، وهل يُطهِّر الماء النجس قولان للتردد، هل التراب مزيل للنجاسة أو ساتر لها؟
(2)
.
(1)
تخريج الفروع على الأصول للزنجاني (ص: 269).
(2)
إذا زال تغير الماء بطرح الزعفران أو المسك فلا يطهر عند الشافعية؛ لأن الرائحة مستترة برائحة غيره، فالحاصل استتار لا زوال، فإن زال تغير الماء النجس بالتراب فقولان عند الشافعية؛ للتردد هل التراب مزيل أو ساتر، والصحيح أنه مزيل، فالتراب أطلق عليه طهور، والطهور: هو ما يطهر غيره، فيستخدم في رفع الحدث كالتيمم، ويستخدم في رفع الخبث، كتطهير الإناء من ولوغ الكلب، وتطهير النعل بدلكها بالتراب، وتطهير ذيل المرأة الذي أصابته نجاسة، وغيرها، والله أعلم.
• كل ماء مستعمل لم يتغير بما استعمل فيه فهو طهور على الصحيح.
• ورود النجاسة على الماء كورود الماء على النجاسة على الصحيح إن تغير بها تنجس وإن لم يتغير بقي على طهارته.
[م-49] اختلف العلماء في كيفية تطهير الماء المتنجس على أقوال، مع اتفاقهم على أن الماء الكثير لا ينجس إلا بالتغير، واختلفوا في القليل هل ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة، أو يشترط أن يتغير بها، وقد سبق تحرير الخلاف.
القول الأول: مذهب الحنفية.
فرق الحنفية بين ماء البئر وغيره من المياه، فمسائل البئر عندهم على خلاف القياس، بينما الجمهور لم يفرقوا بين ماء البئر وغيره من المياه.
فإذا وقعت في الأواني أو في الحوض الصغير نجاسة، فلهم في تطهير الماء بشرط زوال تغيره إن وجد ثلاثة أقوال:
قيل: إذا دخل فيه ماء آخر، وخرج الماء منه طهر، وإن قل إذا كان الخروج حال دخول الماء فيه.
وقيل: لا يطهر إلا بخروج ما فيه.
وقيل: لا يطهر إلا بخروج ثلاثة أمثال ما كان فيه من الماء، وسائر المائعات كالماء في القلة والكثرة
(1)
.
• تعليل الحنفية:
أن الماء النجس إذا دخل فيه ماء آخر، وخرج الماء منه، وكان خروج الماء حال دخول الماء الجديد فيه؛ أصبح بمنزلة الماء الجاري، والماء الجاري لا ينجس إلا بالتغير.
(1)
تبيين الحقائق (1/ 23)، بدائع الصنائع (1/ 87)، شرح فتح القدير (1/ 81).
القول الثاني: مذهب المالكية.
قالوا: الماء المتغير بالنجاسة إما أن يزول تغيره بنفسه، أو بصب ماء مطلق عليه
(1)
، أو بإضافة تراب ونحوه.
فإن تغير الماء بنفسه، فإما أن يكون الماء قليلًا أو كثيرًا، ولم يجدوا في ذلك حدًّا بين القليل والكثير، فالقليل أواني الوضوء ونحوها، والكثير ما عداها.
فإن كان قليلًا فهو نجس اتفاقًا عندهم.
وإن كان الماء الذي تغير بنفسه كثيرًا فلأصحاب مالك فيه قولان:
الأول: أنه طهور؛ لأن الحكم بالنجاسة إنما هو لأجل التغير وقد زال والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، كالخمر يتخلل، وقد رجح هذا ابن رشد.
وقيل: إنه نجس؛ لأن النجاسة عندهم لا تزال إلا بالماء المطلق، وليس حاصلًا هنا فيستمر بقاء النجاسة.
ومع أنهم حكموا بنجاسته، إلا أنهم قيدوا الحكم بالنجاسة مع وجود غيره، أما إذا لم يوجد إلا هو فيستعمله بلا كراهة مراعاة للخلاف.
قلت: وهذا يدل على ضعف القول بنجاسته عندهم؛ لأنهم لو جزموا بالنجاسة لما صح استعماله مطلقًا، سواء وجد غيره أم لم يوجد؛ لأنه إذا لم يوجد إلا ماء نجس صار الى التيمم، كما هو الحال إذا وجد ماء متغير بالنجاسة، فهذا الاستثناء دليل على ضعف القول بالنجاسة عندهم، والله أعلم.
وإن زال تغير الماء بالنجاسة بإضافة ماء مطلق، فهو طهور اتفاقًا عندهم، حتى ولو كان المضاف قليلًا، ولا يشترط أن يبلغ الماء قلتين عندهم فلا يشترطون إلا شرطين:
أحدهما: أن يكون الماء المضاف ماء مطلقًا أى ليس ماء نجسًا ولا طاهرًا.
(1)
وهذا القيد أخرج الماء النجس والماء الطاهر؛ لأنه ليس ماء مطلقًا عندهم.
الثاني: أن يزول تغيره بالإضافة.
وإن زال تغيره بإلقاء طين فينظر:
فإن لم يتغير الماء بالطين فقد طهر، وإن تغير الماء بما ألقي فيه فالأظهر النجاسة عملًا بالاستصحاب
(1)
.
• وجه القول بذلك:
أن الماء لما تكدر بالتراب صار التراب ساترًا للنجاسة، والأصل وجودها.
القول الثالث: مذهب الشافعية.
الشافعية يفرقون بين الماء القليل والماء الكثير إذا لاقى نجاسة ولم يتغير، فينجس الأول عندهم دون الثاني، وعلى هذا يقسم الشافعية الماء إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون الماء أكثر من قلتين، فلا ينجس إلا بالتغير، وفى تطهيره ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يزول تغيره بنفسه؛ لأن الماء يطهر غيره، فكونه يطهر نفسه من باب أولى.
الحالة الثانية: أن يزول تغيره بإضافة ماء آخر عليه، سواء كان المضاف طاهرًا أم نجسًا، قليلًا أم كثيرًا، صب عليه الماء أو نبع فيه، فإذا زال تغيره طهر.
الحالة الثالثة: أن يزول تغيره بنزح بعضه فإنه يطهر، بشرط أن يكون الباقي بعد النزح قلتين فأكثر غير متغير، فإن بقي دونهما لم يطهر بلا خلاف عند الشافعية.
القسم الثاني: من الماء النجس: أن يكون الماء قلتين، وهذا لا ينجس إلا بالتغير. وفى التطهير له حالتان:
الأولى: أن يزول تغيره بنفسه.
(1)
انظر الخرشي (1/ 80، 81) ومنح الجليل (1/ 42، 43)، وشرح الزرقاني على مختصر خليل (1/ 20، 21) وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 46، 47)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 41، 42).
الثانية: أن يزول تغيره بإضافة ماء آخر عليه. ولو كان المضاف نجسًا أو قليلًا.
القسم الثالث: أن يكون الماء المتنجس دون القلتين، وهذا الماء ينجس عندهم بمجرد ملاقاة النجاسة، ولو لم يتغير.
ففي تطهيره طريقة واحدة، وهي أن يزول تغيره بإضافة ماء آخر عليه حتى يبلغ قلتين، حتى ولو كان هذا الماء المضاف نجسًا، ما دام أنه إذا بلغ قلتين فقد زال تغيره فإنه يطهر.
أما إذا أضيف إليه ماء دون القلتين ففيه وجهان عندهم:
الأول: قيل: يكون طاهرًا غير مطهر.
لماذا كان طاهرًا، وقد لاقى النجاسة، وهو قليل؟
قالوا: لأن الماء القليل إنما ينجس بالنجاسة إذا وردت عليه، أما إذا ورد الماء على النجاسة كما هو الحال هنا فلا ينجس.
ولماذا إذا لا يكون طهورًا؟
قالوا: لأنه ماء استعمل في إزالة النجاسة.
الوجه الثاني: قالوا لا يطهر، لأنه ماء استعمل في إزالة النجاسة، هذه الطرق في تطهير الماء النجس بالماء عند الشافعية.
أما تطهيره بالتراب فقد وافقوا المالكية.
قالوا: إذا طرح فيه تراب وزال تغيره.
فإما أن يكون الماء كدرًا أو صافيًا، فإن كان صافيًا فقد طهر جزمًا.
وإن كان الماء كدرًا بما ألقي فيه.
فقيل: يطهر؛ لأن التغير قد زال فصار كما لو زال بنفسه أو بماء آخر. وصحح الأكثرون أنه لا يطهر
(1)
.
(1)
المجموع (1/ 183 - 191)، ومغني المحتاج (1/ 22، 23)، والحاوي (1/ 339)، روضة الطالبين (1/ 20، 21)، منهاج الطالبين (1/ 3)، شرح زبد ابن رسلان (1/ 28، 29)، المهذب (1/ 7).
• وجه القول بأنه لا يطهر:
تقدم أن الماء إذا صار كدرًا بالتراب أن التراب ربما يكون ساترًا للنجاسة، وليس مزيلًا لها، فالأصل وجود النجاسة حتى نتيقن أنها زالت.
القول الرابع: مذهب الحنابلة.
طريقة الحنابلة في تطهير الماء المتنجس بالماء قريبة من تقسيم الشافعية إلا أنهم خالفوهم في مواضع يسيرة.
فقسم الحنابلة الماء المتنجس أولًا إلى قسمين:
الأول: قسم تنجس ببول آدمي أو عذرته المائعة.
الثاني: وقسم تنجس بسائر النجاسات.
أما الماء الذي تنجس بغير بول آدمي وعذرته المائعة فإنه يمكن أن نقسمه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون الماء دون القلتين. وفي هذه الحال إما أن تكون نجاسته بالتغير، أو بالملاقاة ولو لم يتغير.
فيشترط لتطهير الماء المتنجس بالملاقاة شرط واحد، هو أن تضيف إليه قلتين من الماء الطهور، وبالتالي يصبح طهورًا فإن أضفت إليه دون القلتين لم يطهر.
التعليل: لأن الماء القليل لا يدفع النجاسة عن نفسه فكيف يدفعها عن غيره لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)
(1)
.
لو قال قائل: لنفرض أن الماء المتنجس بالملاقاة قلة واحدة فأضفت إليها قلة أخرى حتى أصبح الماء قلتين فهل يطهر؟
أكثر الأصحاب على أنه لا يطهر، وهو المشهور من المذهب، وحكى بعضهم
(1)
سبق الكلام عليه، وأنه حديث صحيح، انظر رقم (79).
وجهًا بالتطهير، وصوبه صاحب الإنصاف.
وإن كانت نجاسة الماء القليل بالتغير ففي هذه الحالة تضيف إليه قلتين من الماء الطهور ثم تنظر هل زال التغير أم بقي؟ فإن زال فقد طهر، وإن لم يزل فإنك تضيف إليه حتى يذهب تغيره.
أما إذا أضفت إليه دون القلتين فإن الماء يكون نجسًا حتى ولو زال تغيره وهذا هو المذهب.
وقيل: إنه يكون طهورًا حتى على قواعد المذهب. أو القائلين بالنجاسة ولو لم يتغير. قالوا: لأن الماء إنما ينجس بالنجاسة إذا كانت واردة عليه وهنا قد ورد الماء على النجاسة.
ولو قلنا بنجاسة الماء هنا لقلنا بنجاسة الماء إذا صب على ثوب نجس إلا أن يكون قلتين، ولما كان الدلو مطهرًا لبول الأعرابي، لأنه بالتأكيد ليس قلتين ولا حتى قلة.
هذه الطريقة في تطهير الماء عند الحنابلة رحمهم الله إذا كان الماء أقل من قلتين.
الحالة الثانية: إذا كان الماء قلتين، فله طريقان:
الأول: أن تضيف إليه قلتين فأكثر حتى يذهب تغيره بالنجاسة، وقد علمت مما سبق لماذا يشترطون إضافة القلتين، ولم لا يعتبرون ما دون القلتين؟ فلا داعي لإعادته. وهذا الشرط خالفوا فيه الشافعية.
الثاني: هل يزول تغيره بنفسه، فالمشهور من المذهب أنه إذا زال تغيره بنفسه، وهو قلتان طهر، وفيه وجه آخر في المذهب أنه لا يطهر بناء على أن النجاسة في المذهب لا تطهر بالاستحالة، وهذا على رأي من يرى أن النجاسة نجاسة عينية وليست حكمية.
وقيل: إنه طاهر، لأنه لا يكون طهورًا وقد أزيلت به النجاسة، ولا يكون نجسًا وهو ماء كثير غير متغير، قاسوه على الماء القليل إذا كان آخر غسلة زالت بها النجاسة.
الحالة الثالثة: إذا كان الماء أكثر من قلتين فلهم ثلاث طرق:
الأولى: أن تضيف إليه قلتين بشرط أن يزول التغير وقد سبق لك التعليل من اشتراط القلتين.
الثانية: أن يزول تغيره بنفسه، وهذا هو المشهور من المذهب وسبق لكم في المذهب ثلاثة أوجه.
الثالثة: أن ينزح منه فيبقى بعد النزح قلتان فأكثر غير متغير.
مثاله: عندنا ماء ثلاث قلال أو أربع
…
سقطت فيه ميتة فغيرت رائحة الماء. فقام رجل فنزح منها ماء حتى ذهبت رائحة النجاسة. فهل يطهر الماء؟
الجواب: إن كان الماء الباقي قلتين فأكثر فقد طهر.
وهذه هي الطريقة في تطهير الماء على المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
وأما التراب ففيه وجهان:
الأول: أنه لا يطهر. قال في الإنصاف: على الصحيح من المذهب؛ لأن النجاسة عندهم لا تزال إلا بالماء المطلق.
قال ابن عقيل: التراب لا يطهر لأنه يستر النجاسة بخلاف الماء.
الثاني: يطهر بذلك، لأن علة نجاسته التغير، وقد زال فيزول الحكم بنجاسته كما لو زال بمكثه
(1)
.
القسم الثاني: من الماء النجس: أن يكون متنجسًا ببول آدمي أو عذرته المائعة، فإن كانت النجاسة لم تغيره وكان لا يشق نزحه فتطهيره بإضافة ما يشق نزحه إليه وإن كان الماء يشق نزحه، وقد تغير بالنجاسة فله ثلاث حالات:
الأولى: أن يضاف إليه ما يشق نزحه.
الثانية: أن يزول تغيره بنفسه.
(1)
المغني (1/ 52)، المبدع (1/ 58)، الإنصاف (1/ 66)، المحرر (1/ 2، 3)، الكافي (1/ 10)، كشاف القناع (1/ 38).
الثالثة: أن ينزح منه فيبقى بعده قلتان غير متغيرتين
(1)
.
خلاصة ما سبق:
التطهير تارة يكون بالإضافة، وتارة يكون بنفسه، وتارة يكون بالنزح.
فإن كان التطهير بالإضافة، فيشترط له شروط:
الأول: أن يكون الماء المضاف طهورًا، وهذا شرط عند المالكية، والحنابلة، وليس بشرط عند الشافعية، إذ لا مانع أن تضيف عندهم ماء نجسًا إذا كان بإضافته سوف يزول تغير الماء بالنجاسة.
الثاني: أن يكون المضاف كثيرًا -قلتان فأكثر- وهذا شرط للحنابلة، وليس بشرط عند المالكية، والشافعية.
الثالث: أن يبلغ الماء قلتين بعد الإضافة. وليس بشرط عند المالكية، وأما الحنابلة فلا يكفي هذا عندهم لأنهم يشترطون أن يكون المضاف نفسه قلتين.
• تطهير الماء بزوال تغيره بنفسه:
المالكية، والشافعية، والحنابلة يشترطون أن يكون الماء كثيرًا، والمالكية لم أقف على حد لهم في القليل والكثير، بينما الحنابلة والشافعية يحدونه بالقلتين.
أما التغير بالنزح، فالشافعية والحنابلة يشترطون أن يبقى بعد النزح ماء كثير غير متغير.
والصحيح: أنه متى زال تغير الماء على أي وجه، قليلًا كان أو كثيرًا، حتى ولو كان عن طريق المعالجة كالتقطير مثلًا
…
فإنه يطهر؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، ولا علة للتنجس إلا لكونه متغيرًا بالنجاسة وقد زال، والله أعلم.
* * *
(1)
المبدع (1/ 56)، وانظر المراجع السابقة.