الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) باب من شواهد نبوته صلى الله عليه وسلم وبركته
[2192]
عَن جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لَأَعرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبلَ أَن أُبعَثَ، إِنِّي لَأَعرِفُهُ الآنَ.
رواه أحمد (5/ 89)، ومسلم (2277)، والترمذيُّ (3624).
ــ
(2)
ومن باب: شواهد نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
قوله: إني لأعرف حجرًا كان يسلِّم عليَّ قبل أن أبعث) يعني: أنه كان يسلِّم عليه بالنبوة والرسالة قبل أن يشافهه الملك بالرسالة. ذكر العلماء بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله: أنه كان من لطف الله بنبيه صلى الله عليه وسلم أن قدَّم له مقدِّمات، وخصَّه ببشائر وكرامات، درَّجَهُ بذلك إلى أطوارٍ، لينقطع بذلك عن مألوفات الأغمار (1)، ويتأهل على تدريج لقبول ما يُلقى إليه، ولتسهُيل مشافهة الملك عليه، فكان صلى الله عليه وسلم يرى ضياءً وأنوارًا، ويسمع تسليمًا وكلامًا، ولا يرى أشخاصًا، فيسمع الحجارة والشجر تناديه، ولا يرى أحدًا يناجيه، إلى أن استوحش من الخلق، ففرَّ إلى الحق، فحُبِّبت إليه الخلوة، فكان سبب هذه الحبوة، مشافهة الملك فقبل فملك، وقد قدَّمنا: أن الصحيح من مذاهب أئمتنا: أن كلام الجمادات راجع إلى أن الله تعالى يخلق فيها أصواتًا مقطعة من غير مخارج، يفهم منها ما يفهم من الأصوات الخارجة من مخارج الفم، وذلك ممكن في نفسه. والقدرة القديمة لا قصور فيها، فقد أخبر بها الصادق، فيجب له التصديق. كيف لا؟ وقد سمع من حضر تسبيح الحصى في كفه، وحنين الجذع والمسجد قد غصَّ بأهله.
و(قوله: إني لأعرفه الآن) يعني: أنه صلى الله عليه وسلم كان وقت حدَّثهم بهذا الحديث
(1)"الأغمار": جمع غُفر، وهو مَن لم يُجرِّب الأمور.
[2193]
وعن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: رَأَيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَحَانَت صَلَاةُ العَصرِ فَالتَمَسَ النَّاسُ الوَضُوءَ فَلَم يَجِدُوهُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَضُوءٍ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ يَدَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَن يَتَوَضَّئُوا مِنهُ قَالَ: فَرَأَيتُ المَاءَ يَنبُعُ مِن تَحتِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ النَّاسُ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِن عِندِ آخِرِهِم.
وفي رواية: دَعَا بِمَاءٍ فَأُتِيَ بِقَدَحٍ رَحرَاحٍ، فَجَعَلَ القَومُ يَتَوَضَّئُونَ فَحَزَرتُ مَا بَينَ السِّتِّينَ إِلَى الثَّمَانِينَ، قَالَ: فَجَعَلتُ أَنظُرُ إِلَى المَاءِ يَنبُعُ مِن بَينِ أَصَابِعِهِ.
رواه أحمد (3/ 132)، والبخاريُّ (169)، ومسلم (2279)(5 و 4)، والترمذي (3631)، والنسائي (1/ 60).
ــ
يعرف الحجر معرفة من كان يشاهده. وقيل: إن ذلك الحجر: هو الحجر الأسود، والله أعلم.
و(قوله: أُتي بقدح رحراح) أي: واسع. ويقال: رحرح - بغير ألف -، وإناءٌ أرح، وآنية رحَّاء، كل ذلك بمعنى الواسع. قال ابن الأنباري: ويكون ذلك قصير الجدار.
و(قوله: فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه) هذه المعجزة تكررت من النبي صلى الله عليه وسلم مرَّات عديدة في مشاهد عظيمة، وجموع كثيرة، بلغتنا بطرق صحيحة من رواية أنس، وعبد الله بن مسعود، وجابر، وعمران بن حصين، وغيرهم ممن يحصل بمجموع أخبارهم العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي. وبهذا الطريق حصل لنا العلم بأكثر معجزاته الدالة على صدق رسالاته، كما قد ذكرنا جملة ذلك في كتاب الإعلام. وهذه المعجزة أبلغ من معجزة موسى عليه السلام في نبع الماء من الحجر عند ضربه بالعصا، إذ من المألوف نبع الماء من
[2194]
وعنه أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصحَابَهُ بِالزَّورَاءِ قَالَ: (وَالزَّورَاءُ بِالمَدِينَةِ عِندَ السُّوقِ وَالمَسجِدِ فِيمَا ثَمَّه) دَعَا بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ.
وفي رواية: لَا يَغمُرُ أَصَابِعَهُ أَو قَدرَ مَا يُوَارِي أَصَابِعَهُ، فَوَضَعَ كَفَّهُ فِيهِ، فَجَعَلَ يَنبُعُ مِن بَينِ أَصَابِعِهِ، فَتَوَضَّأَ جَمِيعُ أَصحَابِهِ، قَالَ قُلتُ: كَم كَانُوا يَا أَبَا حَمزَةَ؟ قَالَ: كَانُوا زُهَاءَ ثَلَاث مِائَةِ.
رواه مسلم (2279)(6 و 7).
ــ
بعض الحجارة، فأما نبعه من بين عظم ولحم وعصب ودم فشيء لم يُسمع بمثله، ولا تحدَّث به عن غيره.
و(قوله: كانوا زهاء ثلاثمائة) أي: قدرها. يقال: هم زهاء كذا، ولهاء كذا - باللام -، أي: قدره. وفي الحديث الأول: فحزرت ما بين الستين إلى الثمانين. هذا يدلّ على أن ذلك كان في موضعين:
أحدهما: بالزوراء، وهي سوق بالمدينة.
والآخر: روي في بعض طرقه ما يدلّ على أنه كان بغير الزوراء.
وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم مثل هذا في غزوة الحديبية على ما رواه جابر، وفي غزوة بواط من حديث غيره.
والعكة للسمن، وهي أصغر من القربة. والوَسق: ستون صاعا كما تقدم في الزكاة، ونماء سمن العكة، وشطر وسق الشعير كل ذلك ببركة النبي صلى الله عليه وسلم فيما لمسه، أو تناوله، أو تهمَّم به، أو برَّك عليه، وكم له منها، وكم! ورفع النماء من ذلك عند العصر والكيل سببه - والله أعلم - الالتفات بعين الحرص مع معاينة إدرار نعم الله تعالى، ومواهب كراماته، وكثرة بركاته، والغفلة عن الشكر عليها، والثقة بالذي وهبها، والميل إلى الأسباب المعتادة عند مشاهدة خرق العادة، وهذا نحو مما جرى لبني إسرائيل في التيه، لما أنزل عليهم المن
[2195]
وعَن جَابِرٍ أَنَّ أُمَّ مَالِكٍ كَانَت تُهدِي لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عُكَّةٍ لَهَا سَمنًا فَيَأتِيهَا بَنُوهَا، فَيَسأَلُونَ الأُدمَ وَلَيسَ عِندَهُم شَيءٌ، فَتَعمِدُ إِلَى الَّذِي كَانَت تُهدِي فِيهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَجِدُ فِيها سَمنًا، فَمَا زَالَ يُقِيمُ لَهَا أُدمَ بَيتِهَا حَتَّى عَصَرَتهُ فَأَتَت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عَصَرتِيهَا؟ قَالَت: نَعَم، قَالَ: لَو تَرَكتِيهَا مَا زَالَ قَائِمًا.
رواه مسلم (2280).
[2196]
وعنه: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَستَطعِمُهُ فَأَطعَمَهُ شَطرَ وَسقِ شَعِيرٍ، فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأكُلُ مِنهُ وَامرَأَتُهُ وَضَيفُهُمَا حَتَّى كَالَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَو لَم تَكِلهُ لَأَكَلتُم مِنهُ وَلَقَامَ لَكُم.
رواه أحمد (3/ 337 و 347)، ومسلم (2281).
[2197]
وعن مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ قَالَ: خَرَجنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ غَزوَةِ تَبُوكَ،
ــ
والسلوى. وقيل لهم: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقنَاكُم وَاشكُرُوا لِلَّهِ} فأطاعوا حرص النفس، فادخروا للأيام، فخنز اللحم، وفسد الطعام.
و(قوله لصاحبة العكة: لو تركتيها ما زال قائمًا، ولصاحب الشطر: لو لم تكله لقام بكم) يستفاد منه: أن من أُدِرَّ عليه رزق، أو أُكرم بكرامة، أو لُطِف به في أمر ما، فالمتعيَّن عليه: موالاة (1) الشكر، ورؤية المنة لله تعالى، ولا يحدث مغيِّرًا في تلك الحالة، ويتركها على حالها. ومعنى رؤية المنة: أن يعلم أن ذلك بمحض فضل الله، وكرمه، لا بحولنا، ولا بقوتنا، ولا استحقاقنا.
و(قوله: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك) هي موضع معروف بطريق
(1) ليست في (م 3) و (ز).
فَكَانَ يَجمَعُ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى الظُّهرَ وَالعَصرَ جَمِيعًا، وَالمَغرِبَ وَالعِشَاءَ جَمِيعًا حَتَّى إِذَا كَانَ يَوم آخر أَخَّرَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهرَ وَالعَصرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ بَعدَ ذَلِكَ فَصَلَّى المَغرِبَ وَالعِشَاءَ جَمِيعًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُم سَتَأتُونَ غَدًا إِن شَاءَ اللَّهُ عَينَ تَبُوكَ، وَإِنَّكُم لَن تَأتُوهَا حَتَّى يُضحِيَ النَّهَارُ، فَمَن جَاءَهَا مِنكُم فَلَا يَمَسَّ مِن مَائِهَا شَيئًا حَتَّى
ــ
الشام فيه ماء، وهذه الغزوة: هي آخر غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزو الروم، فخرج فيها في شهر رجب سنة تسع من الهجرة في حرٍّ شديد لسفرٍ بعيد، وخرج معه أهل الصدق من المسلمين، وتخلَّف عنه جميع المنافقين، وكانت غزوة أظهر الله فيها من معجزات نبيه صلى الله عليه وسلم وكراماته، ما زاد الله المؤمنين به إيمانًا، وأقام بذلك على الكافرين حجَّة وبرهانًا.
و(قوله: فكان يجمع الصلاة فصلى الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا) ظاهر هذا المساق أنه أوقع الظهر والعصر في أول الوقت مجموعتين، وكذلك المغرب والعشاء، لأنَّه قال بعد ذلك:(حتى إذا كان يوم آخر أخر الصلاة، ثم خرج، فصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل، ثم خرج بعد ذلك، فصلَّى المغرب والعشاء جميعًا). وظاهره أنه أخر الصلاتين إلى آخر وقتهما المشترك. وهو حجَّة لمالك، فإنَّه يقول بجواز كل ذلك، على تفصيل له في الأفضل من ذلك، كما قدَّمناه، وهو أيضًا حجة للشافعي عليه في اشتراطه في جواز الجمع بين الصلاتين استعجال السير، والشافعي لا يشترطه، وقد تقدَّم كل ذلك في كتاب الصلاة.
و(قوله صلى الله عليه وسلم: إنكم ستأتون غدًا - إن شاء الله - عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار) ظاهره: أن هذا منه صلى الله عليه وسلم إخبار عن غيب بوحي، ويحتمل غير ذلك.
و(قوله: فمن جاءها منكم فلا يمسَّ من مائها شيئًا) إنما نهاهم عن ذلك،
آتِيَ، فَجِئنَاهَا، وَقَد سَبَقَنَا إِلَيهَا رَجُلَانِ، وَالعَينُ مِثلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَيءٍ مِن مَاءٍ، قَالَ: فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَل مَسَستُمَا مِن مَائِهَا شَيئًا؟ قَالَا: نَعَم، فَسَبَّهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَن يَقُولَ، قَالَ ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيدِيهِم مِن العَينِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى اجتَمَعَ فِي شَيءٍ، قَالَ: وَغَسَلَ
ــ
ليظهر انفراده بالمعجزة، وتتحقق نسبتها إليه، واختصاصه بها، فإنَّه إذا شاركه غيره في مسِّ مائها، لم يتمحض اختصاصه بها، ولذلك لما وجد الرجلين عليها، أمر أن يغرف له من مائها، وكأنه كان أراد أن يباشر الماء وهو في موضعه، لكن لما سبقه غيره إليها، جمعوا له من مائها، فغسل فيه يديه ووجهه، ثم أمر أن يعاد ذلك الماء فيها، فلما فعلوا ذلك جاءت العين بماء منهمر، وسمع له حس كحس الصواعق.
و(قوله: والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء) الرواية المشهورة (1): تبضُّ بالضاد المعجمة، أي: تسيل بماء قليل رقيق مثل شراك النعل، وقد روي بالصاد المهملة، وكذلك وقع في البخاري، أي: تبرق. يقال: بصَّ يبصُّ بصيصًا، ووبص يبص وبيصًا بمعناه. وسبُّ النبي صلى الله عليه وسلم السابقين للماء يحتمل أن يكون: لأنهما كانا منافقين قصدا المخالفة، فصادف السبُّ محلَّه. ويحتمل أن كانا غير منافقين، ولم يعلما بنهي النبي صلى الله عليه وسلم ويكون سبَّه لهما لم يصادف محلًا، فيكون ذلك لهما رحمة وزكاة، كما قاله صلى الله عليه وسلم: اللهم من لعنته، أو سببته وليس لذلك بأهل، فاجعل ذلك له زكاة، ورحمة، وقربة تقرِّبه بها إليك يوم القيامة (2).
والمنهمر: الكثير الانصباب، ويوشك: يجيء ويسرع. وقد تقدم الكلام عليها، والجنان: البستان من النخل وغيره، سمي بذلك لأنه يجن أرضه وما تحته، أي: يستر ذلك.
(1) في (م 2): الصحيحة.
(2)
رواه مسلم (2601)(89).
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ يَدَيهِ وَوَجهَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَ، فَجَرَت العَينُ بِمَاءٍ مُنهَمِرٍ - أَو قَالَ غَزِيرٍ - حَتَّى استَقَى النَّاسُ، ثُمَّ قَالَ: يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إِن طَالَت بِكَ حَيَاةٌ أَن تَرَى مَا هَاهُنَا قَد مُلِئَ جِنَانًا.
رواه أحمد (5/ 237 - 238)، ومسلم (706) في الفضائل (10)، وأبو داود (1206)، والترمذيُّ (553)، والنسائيُّ (1/ 285)، وابن ماجه (1075).
[2198]
وعَن أَبِي حُمَيدٍ قَالَ: خَرَجنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزوَةَ تَبُوكَ، فَأَتَينَا وَادِيَ القُرَى عَلَى حَدِيقَةٍ لِامرَأَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اخرُصُوهَا، فَخَرَصنَاهَا، وَخَرَصَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةَ أَوسُقٍ، وَقَالَ:
ــ
وقد اشتمل هذا الحديث على معجزتين عظيمتين، إحداهما: نبع الماء المذكور. والثانية: تعريفه بكثير من علم الغيب، فإنَّ تبوك من ذلك الوقت سكنت لأجل ذلك الماء، وغرست بساتين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
و(قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين مرَّ على حديقة المرأة: اخرصوها) دليلٌ على جواز الخرص إذا احتيج إليه، وأنه طريق معتبر شرعًا. وخروج ثمرة هذه الحديقة على مقدار ما خرصه رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على صحة حدسه، وقوة إدراكه، وإصابته وجه الصواب فيما كان يحاوله، ولا يعارض هذا بحديث إبار النخل، فإنَّ الله تعالى قد أجرى عادة ثابتة متكررة في إبار النخل لم يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما أرى هذا يغني شيئًا) يعني الإبار، وصدق، فإنَّ الله تعالى هو الذي يمسك الثمرة ويطيبها إذا شاء، لا الإبار، ولا غيره، بخلاف الوصول إلى المقادير بالخرص، فإنَّ الغالب فيه من الممارسين له التقريب لا التحقيق. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمقدار ذلك على التحقيق، فوجد كما أخبر، فإنَّ كان هذا منه عن حدس وتخمين، كان دليلًا على أنه قد خصَّ من ذلك بشيء لم يصل إليه غيره، وإن كان ذلك بالوحي، كان ذلك من شواهد نبوته صلى الله عليه وسلم.
أَحصِيهَا حَتَّى نَرجِعَ إِلَيكِ إِن شَاءَ اللَّهُ. وَانطَلَقنَا حَتَّى قَدِمنَا تَبُوكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سَتَهُبُّ عَلَيكُم اللَّيلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلَا يَقُم فِيهَا أَحَدٌ مِنكُم، فَمَن كَانَ لَهُ بَعِيرٌ فَليَشُدَّ عِقَالَهُ، فَهَبَّت رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَقَامَ رَجُلٌ، فَحَمَلَتهُ الرِّيحُ حَتَّى أَلقَتهُ بِجَبَلَي طَيِّئٍ، وَجَاءَ رَسُولُ ابنِ العَلمَاءِ صَاحِبِ أَيلَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابٍ، وَأَهدَى لَهُ بَغلَةً بَيضَاءَ، فَكَتَبَ إِلَيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في رواية: ببحرهم - وَأَهدَى لَهُ بُردًا، ثُمَّ أَقبَلنَا حَتَّى قَدِمنَا وَادِيَ القُرَى،
ــ
و(قوله: ستهبُّ عليكم ريحٌ شديدةٌ) من المعجزات الغيبية، وهي من الكثرة بحيث لا تحصى، يحصل بمجموعها العلم القطعي بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم كثيرًا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، أو من ارتضاه من الرسل فأطلعه الله عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أطلعه الله عليه، فهو رسول من أفضل الرسل.
و(قوله: فلا يقم فيها أحدٌ، ومن كان له بعير فليشد عقاله) دليل على الأخذ بالحزم، والحذر في النفوس، والأموال، ومن أهمل شيئًا من الأسباب المعتادة، زاعمًا أنه متوكل، فقد غلط، فإنَّ التوكل لا يناقض التحرز، بل حقيقته لا تتم إلا لمن جمع بين الاجتهاد في العمل على سنة الله، وبين التفويض إلى الله تعالى، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وابن العَلماء: هو بفتح العين المهملة وسكون اللام، والمد، وهو تأنيث الأعلم، وهو المشقوق الشفة العليا، والأفلح: هو المشقوق الشفة السفلى.
وصاحب أيلة، يعني به: ملكها. وأيلة: بلد معروف بالشام، وإليه تنسب عقبة أيلة.
و(قوله: وأهدى له بغلة بيضاء) هذه البغلة قبلها النبي صلى الله عليه وسلم وبقيت عنده زمانًا طويلًا، ولم تكن له بغلة غيرها، وكانت تسمَّى: الدُّلدُل، وفيه دليل على قبول هدية الكتابي، وقد تقدَّم القول فيه، وفي قوله: هذا جبل يحبنا ونحبه، وفي طابة.
و(قوله: فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم ببحرهم، وأهدى له بردًا) البحر هنا، يراد
فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المَرأَةَ عَن حَدِيقَتِهَا: كَم بَلَغَ ثَمَرُهَا؟ فَقَالَت: عَشَرَةَ أَوسُقٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي مُسرِعٌ فَمَن شَاءَ مِنكُم فَليُسرِع مَعِيَ، وَمَن شَاءَ فَليَمكُث، فَخَرَجنَا حَتَّى أَشرَفنَا عَلَى المَدِينَةِ، فَقَالَ: هَذِهِ طَابَةُ وَهَذَا أُحُدٌ، وَهُوَ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ خَيرَ دُورِ الأَنصَارِ دَارُ بَنِي النَّجَّارِ، ثُمَّ دَارُ بَنِي عَبدِ الأَشهَلِ،
ــ
به البلد، والبحار: القرى، وقد تقدم. وكأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه بعض تلك البلاد، كما قد أقطع تميمًا الداري رضي الله عنه بلد الخليل صلى الله عليه وسلم قبل فتحه. ويظهر من حال ابن العَلماء أنه استشعر، أو علم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر، ويغلب على ما تحت يده هو من البلاد، فسأله أن يقطعه بعضها. والله أعلم. وأما إهداؤه البرد، فمكافأة، ومواصلة، واستئلاف ليدخل في دين الإسلام، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحضره في ذلك الوقت إلا ذلك البرد، والله أعلم.
و(قوله: إن خير دور الأنصار: دار بني النجار، ثم دار بني عبد الأشهل. . . الحديث إلى آخره) يدلُّ على جواز تفضيل بعض المعينين على بعض من غير الأنبياء، وإن سمع (1) ذلك المفضول، وقد تقدَّم القول في تفضيل الأنبياء.
والدُّور: جمع دار، وهو في الأصل: المحلة والمنزل، وعبر به هنا عن القبائل، وهذا نحو قوله: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور (2)، أي: في القبائل والمحلات. وفيه ما يدلّ على جواز المدح إذا قصد به الإخبار بالحق، ودعت إلى ذلك حاجة، وأمنت الفتنة على الممدوح. وفيه دليل على جواز المنافسة في الخير، والدين، والثواب، كما قال سعد: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرت دور الأنصار فجعلتنا آخرًا. طلب أن يلحقهم بالطبقة الأولى. فأجابه بأن قال: أوليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار؟ وإنما يعني بذلك: أن تفضيلهم إنما هو
(1) في (ج 2): بلغ.
(2)
رواه أحمد (6/ 279)، وأبو داود (455)، والترمذي (594)، وابن ماجه (759).
ثُمَّ دَارُ بَنِي عَبدِ الحَارِثِ بنِ الخَزرَجِ، ثُمَّ دَارُ بَنِي سَاعِدَةَ، وَفِي كُلِّ دُورِ الأَنصَارِ خَيرٌ، فَلَحِقَنَا سَعدُ بنُ عُبَادَةَ فَقَالَ أَبُو أُسَيدٍ: أَلَم تَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيَّرَ دُورَ الأَنصَارِ فَجَعَلَنَا آخِرًا، فَأَدرَكَ سَعدٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! خَيَّرتَ دُورَ الأَنصَارِ فَجَعَلتَنَا آخِرًا، فَقَالَ: أَوَلَيسَ بِحَسبِكُم أَن تَكُونُوا مِن الخِيَارِ؟ ! .
رواه أحمد (5/ 424)، والبخاريّ (1481)، ومسلم (1392) في الفضائل (11 و 12)، وأبو داود (3079).
* * *
ــ
بحسب سبقهم إلى الإسلام، وظهور آثارهم فيه، وتلك الأمور وقعت في الوجود مرتبة على حسب ما شاء الله تعالى في الأزل، وإذا كان كذلك لم يتقدَّم متأخر منهم على منزلته، كما لا يتأخر متقدِّم منهم عن مرتبته، إذ تلك مراتب معلومة على قسم مقسومة، وقد سبق لسعادتهم القضاء:{يَختَصُّ بِرَحمَتِهِ مَن يَشَاءُ}
و(قوله: ثم دار بني عبد الحارث) كذا وقع للعذري، والفارسي، وهو وَهمٌ. والصواب: بني الحارث، بإسقاط عبد، والله أعلم.
و(قوله: وجعلنا آخرًا) وقع في بعض النسخ آخر بغير تنوين ولا ألف. جعله غير منصرف، وليس بصحيح الرواية، ولا المعنى، إذ لا مانع من صرفه، لأنَّ آخرًا هنا: هو الذي يقابل: أولًا، وكلاهما مصروف، وهو منصوبٌ على أنه المفعول الثاني لجعل، لأنَّه بمعنى: صيَّر. ويحتمل أن يتأوَّل في معنى جعل: معنى أنزل، فيكون ظرفًا، أي: أنزلتنا منزلًا متأخرًا. وعلى الوجهين فلا بدَّ من صرفه، وكذا وجدناه من تقييد المحققين.
و(قوله: أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار) ويروى: من الأخيار، وكلاهما صحيح.