الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(4) باب رؤية النبي صلى الله عليه وسلم
[2179]
عَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَن رَآنِي فِي المَنَامِ فَقَد رَآنِي فَإِنَّ الشَّيطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي.
ــ
فِي أَعنَاقِهِم أَغلالا فَهِيَ إِلَى الأَذقَانِ فَهُم مُقمَحُونَ} وعلى الجملة: فهو مذموم شرعًا وعادة. فرؤيته في النوم (1) دليلٌ على وقوع حالة سيئة بالرائي تلازمه، ولا ينفك عنها، وقد يكون ذلك في دينه، كواجبات فرَّط فيها، أو معاصٍ ارتكبها، أو ديونٍ، وحقوقٍ لازمة له. وقد يكون ذلك في دنياه من شدائد تصيبه، أو أنكاد تلازمه. وبالجملة: فالمعتبر في أعظم أصول العبارة (2) النظر إلى أحوال الرائي واختلافها، فقد يرى الرائيان شيئًا واحدًا، ويدل في حق أحدهما على خلاف ما يدل عليه في حق الآخر.
(4)
ومن باب: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام
(قوله صلى الله عليه وسلم: من رآني في المنام فقد رآني فإنَّ الشيطان لا يتمثل بي، وفي أخرى: فإنَّ الشيطان لا ينبغي أن يتشبه بي، وفي أخرى: لا ينبغي أن يتمثل في صورتي)، وفي غير كتاب مسلم: لا يتكوَّنُني (3). اختلف في معنى هذا الحديث، فقالت طائفة من القاصرين: هو على ظاهره، فمن رآه في النوم رأى حقيقته، كما يرى في اليقظة. وهو قول يُدرَك فساده بأوائل العقول، فإنَّه يلزم عليه ألا يراه أحدٌ إلا على صورته التي توفي عليها، ويلزم عليه ألا يراه رائيان في وقت واحد في
(1) في (ج 2): العنق.
(2)
عبر الرؤيا عبرًا وعبارة: فسَّرها وأخبر بما يؤول إليه أمرُها.
(3)
قال في "النهاية": يتكونني: يتشبَّه بي.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مكانين، ويلزم عليه أن يحيا الآن، ويخرج من قبره، ويمشي في الناس، ويخاطبهم، ويخاطبونه كحالته الأولى التي كان عليها، ويخلو قبره عنه، وعن جسده، فلا يبقى منه فيه شيء فيزار غير جدث، ويُسلَّم على غائب، لأنَّه يُرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته، في غير قبره. وهذه جهالات لا يبوء بالتزام شيء منها من له أدنى مسكة من المعقول، وملتزم شيء من ذلك مختل مخبول.
وقالت طائفة أخرى: إنما معناه: أن من رآه على صفته التي كان عليها في الدنيا فمنامه ذلك هو الصحيح، ورؤيته له حق، فإنَّ الشيطان لا يتصوَّر بصورته التي كان عليها.
قلت: وهذا يلزم منه: أن من رآه على غير صفته التي كان عليها في الدنيا لا تكون رؤيته حقًّا، ويكون من باب أضغاث الأحلام. ومن المعلوم: أنه يجوز أن يرى في النوم على حالة تخالف ما كان عليها في الوجود من الأحوال اللائقة به، ومع ذلك: فتقع تلك الرؤيا حقًّا كما إذا رؤي قد ملأ بلدة، أو دارًا بجسمه، فإنَّه يدلّ على امتلاء تلك البلدة بالحق والشرع، وتلك الدار بالبركة. وكثيرًا ما وقع نحو هذا، وأيضًا: فلو تمكَّن الشيطان من التمثُّل في شيء مما كان عليه، أو نسب إليه لما صدق مطلقًا قوله: فإنَّ الشيطان لا يتمثل بي، فإنَّه إذا تمثل ببعض صفاته وأحواله فقد تمثل به، فالأولى أن تنزه رؤية النبي صلى الله عليه وسلم أو رؤية شيء من أحواله، أو مما ينسب إليه عن تمكُّن الشيطان من شيء منه. ونفي جمي ذلك مطلقًا أبلغ في الحرمة، وأليق بالعصمة، وكما عصم من الشيطان في يقظته في كل أوقاته، كذلك عصم منه [في منامه] (1) مع اختلاف حالاته. فالصحيح في معنى هذا الحديث - إن شاء الله تعالى - أن يقال: إن مقصوده الشهادة منه صلى الله عليه وسلم بأن رؤيته في النوم على أي حال كان ليست باطلة، ولا من أضغاث الأحلام، بل هي حق في
(1) ما بين حاصرتين ليس في (م 2).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
نفسها، وإن تصوير تلك الصورة، وتمثيل ذلك المثال ليس من قبل الشيطان، إذ لا سبيل له إلى ذلك، وإنما ذلك من قبل الله تعالى. وهذا مذهب القاضي أبي بكر وغيره من المحققين. وقد شهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: من رآني فقد رآني الحق، أي: الحق الذي قصد إعلام الرائي به، وإذا كانت تلك حقًّا فينبغي أن يبحث عن تأويلها، ولا يُهمل أمرها، فإنَّ الله تعالى إنما مثَّل ذلك للرائي بشرى، فينبسط للخير، أو إنذارًا لينزجر عن الشر. أو تنبيهًا على خير يحصل له في دين، أو دنيا. والله تعالى أعلم.
تنبيه: قد قررنا أن المدرك في المنام أمثلة للمرئيات لا أنفس المرئيات، غير أن تلك الأمثلة تارة تكون مطابقة لحقيقة المرئي، وقد لا تكون مطابقة. ثم المطابقة قد تظهر في اليقظة على نحو ما أدركت في النوم، كما قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة: أريتك في سَرَقَةٍ (1) من حرير، فإذا هي أنت (2)، ومعناه: أنه رآها في نومه على نحو ما رآها في يقظته.
قلت: وقد وقع لي هذا مرات. منها: أني لما وصلت إلى تونس قاصدًا إلى الحج سمعت أخبارًا سيِّئةٍ عن البلاد المصرية من جهة العدو الذي غلب على دمياط، فعزمت على المقام بتونس إلى أن ينجلي أمر العدو، فأُريت في النوم كأني في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جالس قريبًا من منبره، وأُناس يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءني بعض من سلَّم عليه، فانتهرني وقال: قم فسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقمت فشرعت في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فاستيقظت، وأنا أسلِّم عليه، فجدَّد الله لي عزمًا، ويَسَّر عليَّ فيما كان قد صعب من أسبابي، وأزال عني ما كنت أتخوَّفه من أمر العدو، وسافرت إلى أن وصلت إلى الإسكندرية عن مدة مقدارها ثلاثون يومًا
(1) أي: في قطعةٍ من جيِّد الحرير، وجمعها: سَرَق.
(2)
رواه أحمد (6/ 41 و 128 و 161)، والبخاري (3895)، ومسلم (2438).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
في كتف السلامة، فوجدتها والديار المصرية على أشد خوف، وأعظم كرب، والعدو قد استفحل أمره، وعظمت شوكته، فلم أكمل في الإسكندرية عشرة أيام حتى كسر الله العدو، ومكن منه من غير صُنع أحد من المخلوقين، بل: بلطف أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين (1). ثم: إن الله تعالى كمَّل عليَّ إحسانه، وإنعامه، وأوصلني بعد حجِّ بيته إلى قبر نبيه ومسجده، فرأيته والله في اليقظة على النحو الذي رأيته في المنام من غير زيادة ولا نقصان.
ومنها: أني تزوجت امرأة، وقبل الدخول بها حدثت عن صفتها ما أوقع في قلبي نُفرة، فأريتها في النوم على الصفة التي كانت عليها في بيتها، ثم إني لما اجتمعت بها وجدتها هي التي أريتها في النوم. ونحو هذا كثير.
وأما إذا لم يظهر في اليقظة كذلك، فيعلم أن المقصود بتلك الصورة معناها لا عينها، وكذلك الحكم إذا خالف ذلك المثال صورة المرئي نفسه إما بزيادة، أو نقصان، أو تغيُّر لون، أو حدوث عيب، أو زيادة عضو، أو عين، أو غير ذلك. والمقصود بذلك أيضًا: التنبيه على معاني تلك الأمور، وإذا تقرر هذا فيجوز أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم على صفته التي كان عليها في الوجود، ويكون من فوائد ذلك: تسكين شوق الرائي، لكونه مُستهتِرًا (2) بمحبته، وليعمل على مشاهدته وهذا هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا قال: من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، أي: من رآني رؤية معظِّمٍ لحرمتي، ومُشتاقٍ لمشاهدتي، وصل إلى رؤية محبوبه، وظفر بكل مطلوبه.
ويجوز أن يكون مقصود ذلك المنام معنى صورته، وهو دينه وشريعته،
(1) كانت هذه الأحداث في عام (647 هـ) وهو تاريخ دخول الفرنج الصليبيين إلى دمياط وخروجهم. انظر البداية والنهاية (13/ 177).
(2)
أي: مولعًا.
وفي رواية: مَن رَآنِي فِي المَنَامِ فسيراني في اليقظة، أو: لكأنما رآني في اليقظة؛ لا يتمثل الشيطان بي.
وفي أخرى: من رآني فقد رأى الحق.
رواه أحمد (2/ 261 و 342)، والبخاريُّ (6993)، ومسلم (2266)(10 و 11) و (2267) من طريق محمد بن عبدالله بن أخي الزُّهري، وأبو داود (5123)، والترمذيُّ (2280)، وابن ماجه (3901 و 3904).
ــ
فيعبَّر بحسب ما رآه الرائي من زيادة، أو نقصان، أو إساءة، أو إحسان، وكذلك الحكم إذا رأى على خلاف الصورة التي كان عليها مما يجوز عليه.
فأمَّا رؤية الله تعالى في النوم: فقد قال القاضي عياض: لم يختلف العلماء في جواز صحة رؤية الله تعالى في المنام. وإن رئي على صفة لا تليق بجلاله من صفات الأجسام، يتحقق أن ذلك المرئي غير ذات الله تعالى، إذ لا يجوز عليه التجسيم، ولا اختلاف الحالات، بخلاف رؤية النبي صلى الله عليه وسلم فكانت رؤيته تبارك وتعالى في النوم من باب التمثيل والتخييل. وقال القاضي أبو بكر رحمه الله: رؤية الله تعالى في النوم أوهام وخواطر في القلب بأمثال لا تليق به بالحقيقة، ويتعالى سبحانه وتعالى عنها، وهي دلالات للرائي على أمر مما كان أو يكون، كسائر المرئيات. وقال غيره: رؤية الله في المنام حقٌّ وصدقٌ لا كذب فيها، لا في قول ولا في فعل.
و(قوله (1): من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، أو: لكأنما رآني في اليقظة)، هذا شكٌّ من الراوي، فإنَّ كان اللفظ الأول هو الصحيح، فتأويله ما
(1) ورد في جميع النسخ: (ومن باب) والصواب ما أثبتناه ليتناسب السياقُ مع ما ورد في أحاديث هذا الباب في التلخيص.