الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(7) باب كتب الله المقادير قبل الخلق وكل شيء بقدر
[2580]
عَن عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمرِو بنِ العَاصِ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبلَ أَن يَخلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ بِخَمسِينَ أَلفَ سَنَةٍ.
ــ
قلت: وهذا نأي عن معنى الحديث، وعما سيق له، وقيل: إنما كان ذلك لأنَّ موسى قد كان علم من التوراة أن الله تعالى قد جعل تلك الأكلة سبب إهباطه من الجنة، وسكناه الأرض، ونشر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي.
قلت: وهذا إبداء حكمة تلك الأكلة، لا انفصال عن إلزام تلك الحجَّة، والسؤال باق لم ينفصل عنه.
وقيل: إنما توجهت حجته عليه لأنَّه قد علم من التوراة ما ذكروا أن الله تاب عليه واجتباه وأسقط عنه اللوم والعتب. فلوم موسى وعتبه له - مع علمه بأن الله تعالى قدر المعصية وقضى بالتوبة، وبإسقاط اللوم والمعاتبة، حتى صارت تلك المعصية كأن لم تكن - وقع في غير محله، وعلى غير مستحقه، وكان هذا من موسى نسبة جفاء في حالة صفاء، كما قال بعض أرباب الإشارات: ذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء. وهذا الوجه إن شاء الله أشبه ما ذكر، وبه يتبين أن ذلك الإلزام لا يلزم، والله أعلم.
(7)
ومن باب: كتب الله المقادير قبل الخلق وكل شيء بقدر (1)
(قوله: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) أي: أثبتها في اللوح المحفوظ، كما قلناه آنفا، أو فيما شاء، فهو
(1) هذا العنوان لم يرد في نسخ المفهم، واستدركناه من التلخيص.
قَالَ: وَعَرشُهُ عَلَى المَاءِ.
رواه مسلم (2653)(16)، والترمذي (2157).
ــ
توقيت للكتب لا للمقادير، لأنَّها راجعة إلى علم الله تعالى وإرادته، وذلك قديم لا أول له، ويستحيل عليه تقديره بالزمان؛ إذ الحق سبحانه وتعالى بصفاته موجود، ولا زمان ولا مكان، وهذه الخمسون ألف سنة ستون تقديرية؛ إذ قبل خلق السماوات لا يتحقق وجود الزمان؛ فإنَّ الزمان الذي يُعبر عنه بالسنين والأيام والليالي؛ إنما هو راجع إلى أعداد حركات الأفلاك، وسير الشمس والقمر في المنازل والبروج السماوية، فقبل السماوات لا يوجد ذلك، وإنما يرجع ذلك إلى مدة في علم الله تعالى لو كانت السماوات موجودة فيها لعُددت بذلك العدد، وهذا نحو مما قاله المفسرون في قوله تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي: في مقدار ستة أيام، ثم هذه الأيام كل يوم منها مقدار ألف سنة من سني الدنيا، كما قال تعالى:{وَإِنَّ يَومًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} وكقوله: {فِي يَومٍ كَانَ مِقدَارُهُ أَلفَ سَنَةٍ} هذا قول ابن عباس وغيره من سلف المفسرين على ما رواه الطبري في تاريخه عنهم، ويحتمل أن يكون ذكر الخمسين ألفا جاء مجيء الإغياء في التكثير، ولم يرد عين ذلك العدد، فكأنه قال: كتب الله مقادير الخلائق قبل خلق هذا العالم بآماد كثيرة، وأزمان عديدة، وهذا نحو مما قلناه في قوله تعالى:{إِن تَستَغفِر لَهُم سَبعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغفِرَ اللَّهُ لَهُم} والأول أظهر وأولى.
و(قوله: وعرشه على الماء) أي: قبل خلق السماوات والأرض. حكي عن كعب الأحبار أن أول ما خلق الله تعالى ياقوتة خضراء، فنظر إليها بإلهيته فصارت ماء ثم وضع عرشه على الماء. قال ابن عباس في قوله تعالى:{وَكَانَ عَرشُهُ عَلَى المَاءِ} أي: فوق الماء؛ إذ لم يكن سماء ولا أرض.
قلت: أقوال المفسرين كثيرة، والمسند المرفوع منها قليل، وكل ذلك
[2581]
وعَن طَاوُسٍ: أَنَّهُ قَالَ: أَدرَكتُ نَاسًا مِن أَصحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: كُلُّ شَيءٍ بِقَدَرٍ. قَالَ: وَسَمِعتُ عَبدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ شَيءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى العَجزِ وَالكَيسِ، أَو الكَيسِ وَالعَجزِ.
رواه أحمد (2/ 110)، ومسلم (2655).
ــ
ممكن، والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك. والذي نعلمه قطعا: أن الله تعالى قديم، لا أول لوجوده، فكان موجودا وحده، ولا موجود سواه، ثم اخترع بقدرته وإرادته ما سبق في علمه، ونفذت به مشيئته، كما شاء ومتى شاء، والذي نعلم استحالته قطعا: أزلية شيء غير الله تعالى من عرش، أو كرسي، أو ماء، أو هواء، أو أرض، أو سماء؛ إذ كل ذلك ممكن في نفسه، وكل موجود ممكن محدث؛ ولأن كل ذلك لا يخلو عن الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث حادث على ما تُعرف حقيقته في موضعه؛ ولأنه المعلوم الضروري من الشرع، فمن شك فيه أو جحده، فهو كافر، ومما يعلم استحالته: كون العرش حاملا لله تعالى، وأن الله تعالى مستقر عليه كاستقرار الأجسام؛ إذ لو كان محمولا لكان محتاجا فقيرا لما يحمله، وذلك ينافي وصف الإلهية؛ إذ أخص أوصاف الإله (1): الاستغناء المطلق، ولو كان ذلك للزم كونه جسما مقدرا، ويلزم كونه حادثا على ما سبق؛ فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: {الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى} قيل: له محامل واضحة، وتأويلات صحيحة، غير أن الشرع لم يعين لنا محملا من تلك المحامل، فيتوقف في التعيين ويسلك مسلك السلف الصالح في التسليم.
و(قوله: كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس) قيدناه بكسر الزاي والسين وضمهما. و (حتى) هي العاطفة، والرفع عطف على (كل) والخفض على (شيء).
(1) في (ز): الإلهية.
[2582]
وعَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: جَاءَ مُشرِكُو قُرَيشٍ يُخَاصِمُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي القَدَرِ فَنَزَلَت: {يَومَ يُسحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِم ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقنَاهُ بِقَدَرٍ}
رواه مسلم (2656)، والترمذيُّ (3286).
* * *
ــ
والكيس بفتح الكاف، لا يجوز غيره، ومعنى هذا الحديث: أن ما من شيء يقع في هذا الوجود كائنا كان إلا وقد سبق به علم الله تعالى، ومشيئته؛ سواء كان من أفعالنا أو صفاتنا، أو من غيرها، ولذلك أتى بـ (كل) التي هي للاستغراق والإحاطة، وعقبها بحتى التي هي للغاية، حتى لا يخرج عن تلك المقدمة الكلية من الممكنات شيء ولا يتوهم فيها تخصيص، وإنما جعل العجز والكيس غاية لذلك ليبين أن أفعالنا، وإن كانت معلومة ومرادة لنا، فلا تقع منا إلا بمشيئة الله تعالى وإرادته وقدرته، كما قال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} وصار هذا من نحو قول العرب: قدم الحاج حتى المشاة. فيكون معناه: أن كل ما يقع في الوجود بقدر الله ومشيئته، حتى ما يقع منكم بمشيئتكم. والعجز: التثاقل عن المصالح حتى لا تحصل، أو تحصل لكن على غير الوجه المرضي. والكيس: نقيض ذلك، وهو الجد والتشمير في تحصيل المصالح على وجوهها، والعجز في أصله: معنى من المعاني مناقض للقدرة، وكلاهما من الصفات المتعلقات بالممكنات على ما يُعرف في علم الكلام.
* * *