الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(33) باب في ذكر يونس ويوسف وزكريا عليهم السلام
[2287]
عَن أَبِي هُرَيرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ - يَعنِي: اللَّهَ تبارك وتعالى: لَا يَنبَغِي لِعَبدٍ لِي وفي رواية: لِعَبدِي - أَن يَقُولَ: أَنَا خَيرٌ مِن يُونُسَ بنِ مَتَّى.
رواه أحمد (2/ 405)، والبخاري (4631)، ومسلم (2376)، وأبو داود (4669).
ــ
مكان: الطريق. والطور: الجبل بالسريانية، وقال أيضًا في الرواية الأخرى: فما توارت يدك مكان: غطَّت يدك، وهو بمعناه. والتاء فيه زائدة، لأنَّ معناه: وارت، والله أعلم.
(33)
ومن باب ذكر يونس ويوسف وزكريا عليهم السلام
قوله: لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى أي لا يصلح، ولا يجوز. ولعبدٍ: منوَّن مُنكر، أي: لعبد من عباد الله، وفي الرواية الأخرى: لعبدي بإضافته إلى ياء المتكلم، وهو الله تعالى في هذه الرواية، فيحتمل أن يراد به النكرة (1)، فتكون إضافته غير محضة، كما قال الشاعر:
وسائلي بمعجزي (2) عن وطني
…
ما ضاقَ بي جنابُه ولا نبا
فأدخل ربَّ على سائلي مع أنه مضاف إلى ياء المتكلم، فدل على: أنه لم يرد به سائلًا واحدًا، فكأنه قال: ورب سائل، وكذلك الوطن في قوله: عن وطني،
(1) ما بين حاصرتين زيادة من (ع).
(2)
في (ع): بمزعجي.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لأن الجملة التي بعده صفة له، أي: عن وطن لم ينب بي جنابه، أي: غير ناب. ويصح أن تكون إضافة عبدي محضة ومعرفة، ويعني به: عبدي المكرم عندي، كما قال:{إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطَانٌ} أي: عبادي المكرمون عندي، والمشرفون لدي، وقد شهد لهذا المعنى ما قد روي في كتاب أبي داود في هذا الحديث: لا ينبغي لنبي أن يقول: أنا خير من يونس (1)، كما قد روي أيضًا ما يشهد بتنكير عبد في كتاب مسلم: لا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس (2)، وعلى هذا فيقيد مطلق الرواية الأولى بمقيد هذه الرواية، فيكون معناه: لا ينبغي لعبد نبي أن يقول: أنا خير من يونس. وهذا هو الأولى، لأنَّه من ليس بنبي لا يمكنه بوجه أن يقول: أنا أفضل من النبي، لأنه من المعلوم الضروري عند المتشرعين: أن درجة النبي لا يبلغها ولي، ولا غيره، وإنما يمكن ذلك في الأنبياء، لأنهم صلوات الله وسلامه عليهم قد تساووا في النبوة، وتفاضلوا فيما بينهم بما خصَّ به بعضهم دون بعض، فإنَّ منهم من اتخذه الله خليلًا، ومنهم من اتخذه حبيبًا، ومنهم أولو العزم، ومنهم من كلَّم الله على ما هو المعروف من أحوالهم، وقد قال الله تعالى:{تِلكَ الرُّسُلُ فَضَّلنَا بَعضَهُم عَلَى بَعضٍ} فإن قيل: إذا كانوا متفاضلين في أنفسهم فكيف ينهي عن التفضيل؟ وكيف لا يقول من هو في درجة عليا: أنا خير من فلان، لمن هو دونه، على جهة الإخبار عن المعنى الصحيح؟ فالجواب: أن مقتضى هذا الحديث المنع من إطلاق ذلك اللفظ، لا المنع من اعتقاد معناه أدبًا مع يونس، وتحذيرًا من أن يفهم في يونس نقص من إطلاق ذلك اللفظ. وإنما خصَّ يونس عليه السلام بالذكر في هذا الحديث، لأنَّه لما دعا قومه للدخول في دينه، فأبطؤوا عليه ضجر، واستعجل بالدعاء عليهم، ووعدهم بالعذاب بعد
(1) رواه أبو داود (4670).
(2)
رواه مسلم (2373).
[2288]
وعن ابنَ عَبَّاسٍ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا يَنبَغِي لِعَبدٍ أَن يَقُولَ: أَنَا خَيرٌ مِن يُونُسَ بنِ مَتَّى. وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ.
رواه أحمد (1/ 242)، والبخاري (3413)، ومسلم (2377).
ــ
ثلاث، وفرَّ منهم، فرأى قومه دخانًا، ومقدمات العذاب الذي وعدهم به، فآمنوا به، وصدَّقوه، وتابوا إلى الله تعالى، فردُّوا المظالم حتى ردُّوا حجارة مغصوبة كانوا بنوها، ثم إنهم فرقوا بين الأمهات وأولادهم، ودعوا الله تعالى، وضجُّوا بالبكاء والعويل، وخرجوا طالبين يونس فلم يجدوه، فلم يزالوا كذلك حتى كشف الله عنهم العذاب، ومتعهم إلى حين، وهم أهل نينوى من بلاد الموصل على شاطئ دجلة، ثم إن يونس ركب في سفينة فسكنت ولم تجر، فقال أهلها: فيكم آبق. فقال: أنا هو. فأبوا أن يكون هو الآبق فقارعهم، فخرجت القرعة عليه، فرمي في البحر، فالتقمه حوت كبير، فأقام في بطنه ما شاء الله، وقد اختلف في عدد ذلك من يوم إلى أربعين، وهو في تلك المدة يدعو الله تعالى، ويسبحه إلى أن عفا الله عنه، فلفظه الحوت في ساحل لا نبات فيه، وهو كالفرخ، فأنبت الله تعالى عليه من حينه شجرة اليقطين، فسترته بورقها. وحكى أهل التفسير: أن الله تعالى قيض له أروية (1) ترضعه إلى أن قوي، فيبست الشجرة، فاغتم لها وتألم، فقيل له: أتغتم وتحزن لهلاك شجرة، ولم تغتم على هلاك مائة ألف أو يزيدون؟ وقد دلَّ على صحَّة ما ذكر قوله تعالى:{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المُرسَلِينَ * إِذ أَبَقَ إِلَى الفُلكِ المَشحُونِ} الآيات إلى آخرها، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن للنبوة أثقالًا، وإن يونس تفسخ تحتها تفسُّخَ الرُّبَع (2) أو كما قال.
قلت: ولما جرى هذا ليونس عليه السلام، وأطلق الله تعالى عليه: أنه
(1) الأنثى من الوعول.
(2)
رواه الحاكم (2/ 584). وانظر: الشفا للقاضي عياض (1/ 442 - 443).
"تفسخ": لم يطق مشاقّ الرسالة. "والرُّبَع": ولد الناقة.
[2289]
وعَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَن أَكرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَتقَاهُم، قَالُوا: لَيسَ عَن هَذَا نَسأَلُكَ. قَالَ: فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابنِ خَلِيلِ اللَّهِ، قَالُوا: لَيسَ عَن هَذَا نَسأَلُكَ قَالَ: فَعَن مَعَادِنِ العَرَبِ تَسأَلُونِي؟ خِيَارُهُم فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُم فِي الإِسلَامِ إِذَا فَقُهُوا.
رواه أحمد (2/ 257)، والبخاريُّ (3353)، ومسلم (2378)(168).
ــ
مليم، أي: أتى بما يلام عليه. قال الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس؛ لأن ذلك يوهم نقصًا في نبوته، وقدحًا في درجته، وقد بيَّنَّا أن لعبد هنا بمعنى لنبي، وقد قيل: إنه محمول على غير الأنبياء، ويكون معناه: لا يظن أحد ممن ليس بنبي - وإن بلغ من العلم والفضل والمنازل الرفيعة، والمقامات الشريفة الغاية القصوى - أنه يبلغ مرتبة يونس عليه السلام، لأنَّ أقل مراتب النبوة لا يلحقها من ليس من الأنبيا، وهذا المعنى صحيح، والذي صدرنا به الكلام أحسن منه، والله تعالى أعلم.
وقول السائل: من أكرم الناس؟ معناه: من أولى بهذا الاسم، ولذلك أجابه النبي صلى الله عليه وسلم بجواب كُلِّي، فقال: أتقاهم، وهذا منتزع من قوله تعالى:{إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقَاكُم} فلما قالوا: ليس عن هذا نسألك، نزل عن ذلك إلى ما يقابله، وهو الخصوص بشخص معين، فقال: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، لأنَّه نبي بن نبي بن نبي بن نبي (1)، فإنَّ هذا لم يجتمع لغيره من ولد آدم، فهو أحق الناس المعنيين بهذا الاسم. فلما قالوا: ليس عن هذا نسألك تبين له: أنهم سألوه عمن هو أحق بهذا الاسم من العرب، فأجابهم
(1) ما بين حاصرتين سقط من (م 3).
[2290]
وعنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَانَ زَكَرِيَّاءُ نَجَّارًا.
رواه أحمد (2/ 296)، ومسلم (2379)، وابن ماجه (2150).
* * *
ــ
بقوله: فعن معادن العرب تسألوني؟ أي: عن أكرم أصولها، وقبائلها، وقد تقدَّم أن المعدن هو مأخوذ من عَدَن، أي: أقام، والعَدن: الإقامة، ولما كانت أصول قبائل العرب ثابتة سميت معادن. ثم قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، فمعنى هذا: أن من اجتمع له خصال شرف زمن الجاهلية من: شرف الآباء، ومكارم الأخلاق، وصنائع المعروف، مع شرف دين الإسلام، والتفقه فيه، فهو الأحق بهذا الاسم، وقد تقدَّم أن الكرم: كثرة الخير والنفع، ولما كان تقوى الله تعالى هو الذي حصل به خير الدنيا والآخرة مطلقًا كان المتصف به أحق، فإنَّه أكرم الناس، لكن هذه قضية عامة، فلما نظر النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تعين في الوجود بهذه الصفة، ظهر له أن الأنبياء أحق بهذا المعنى، إذ لا يبلغ أحد درجتهم، وإن أحقَّهم بذلك من كان مُعرِقًا في النبوة، وليس ذلك إلا ليوسف، كما ذكر. ويخرج منه الرد على من قال: إن إخوة يوسف كانوا أنبياء، إذ لو كانوا كذلك لشاركوا يوسف في ذلك المعنى، ثم إنه لما نظر النبي صلى الله عليه وسلم بين الأعم والأخص ظهر أن الأحق بذلك المعنى: نوع من الأنواع المتوسطة بين الجنس الأعم، والنوع الأخص، وظهر له أنهم أشراف العرب، ورؤساؤهم إذا تفقهوا في الدين، وعلموا وعملوا، فحازوا كل الرتب الفاخرة، إذ اجتمع لهم شرف الدنيا والآخرة.
وفيه ما يدلّ على شرف الفقه في الدين، وأن العالم يجوز له أن يجيب بحسب ما يظهر له، ولا يلزمه أن يستفصل السائل عن تعيين الاحتمالات، إلا إن خاف على السائل غلطًا، أو سوء فهم، فيستفصله، كما قررناه في الأصول.
و(قوله: كان زكريا نجارًا) يدل: على شرف النجارة، وعلى أن التحرُّف بالصناعات لا يغض من مناصب أهل الفضائل، بل نقول: إن الحرف والصناعات