الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقالت: وَعَلَيهِ السَّلَامُ وَرَحمَةُ اللَّهِ، قَالَت: وَهُوَ يَرَى مَا لَا أَرَى.
رواه البخاريُّ (3217)، ومسلم (2447)(91)، والترمذيُّ (3881)، والنسائي (7/ 70).
* * *
(47) باب ذكر حديث أم زرع
[2357]
عَن عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَت: جَلَسَ إِحدَى عَشرَةَ امرَأَةً فَتَعَاهَدنَ، وَتَعَاقَدنَ أَن لَا يَكتُمنَ مِن أَخبَارِ أَزوَاجِهِنَّ شَيئًا، قَالَت الأُولَى: زَوجِي لَحمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأسِ جَبَلٍ وَعرٍ، لَا سَهلٌ فَيُرتَقَى، وَلَا سَمِينٌ
ــ
السلام - رباعيًّا - فبضم ياء المضارعة منه، فإذا قلت: يقرأ عليك السلام - كان مفتوح عين مضارعه، لأنَّه ثلاثي، وهذه فضيلة عظيمة لعائشة، غير أن ما ذكر من تسليم الله عز وجل على خديجة أعظم، لأنَّ ذلك سلام من الله، وهذا سلام من جبريل.
و(قولها: وعليه السلام ورحمة الله) حجَّة لمن اختار أن يكون رد السَّلام هكذا، وإليه ذهب ابن عمر رضي الله عنهما.
(47)
ومن باب: حديث أم زرع
الصَّحيح في هذا الحديث: أنه كله من قول عائشة رضي الله عنها إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم لها: كنت لك كأبي زرع لأم زرع. هذا هو المتفق عليه عند أهل التَّصحيح. وقد رواه سعيد بن مسلم المديني، عن هشام بن عروة، عن أخيه عبد الله، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت لك كأبي زرع
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لأم زرع. ثم أنشأ يحدِّث بحديث أم زرع وصواحبها، قال: اجتمع إحدى عشرة امرأة. . . وذكر الحديث. فتوهم بعض الناس: أن هذا الحديث كلُّه مرفوعٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنسبه إليه، وجعله من قوله. وهو وهم محض، فإنَّ القائل: ثم أنشأ يحدِّث، هو: هشام يخبر بذلك، عن أخيه، عن أبيه: أنه أنشأ بعد ذلك القول المتقدِّم: يحدَّث بالحديث.
و(قولها: جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن، وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئًا) هكذا صحيح الرواية ومشهورها، وعند الطبري: جلسن إحدى عشرة امرأة) بالنون التي هي علامة المؤنث على لغة من قال: أكلوني البراغيث، وعليها قوله صلى الله عليه وسلم: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار (1). وقد حُمِل عليها قوله تعالى:{وَأَسَرُّوا النَّجوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} وقوله: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنهُم} وعليها قول الشاعر (2):
ولكن دِيَافِيٌّ أَبُوه وأُمُّه
…
بِحَورَانَ يِعصِرنَ السَّلِيطَ أَقَاربُه
وقد تكلف بعض النحويين ردَّ هذه اللغة إلى اللغة [الفصيحة، وهي ألا تلحق هذه العلامة في الفعل إذا تقدَّم الأسماء، وردَّ هذه اللغة](3)، ولا معنى لهذا كله، ولا يحتاج إليه، إذ قد صحَّت هذه اللغة نقلًا واستعمالًا، ثم إنها جارية على قياس إلحاق علامة تأنيث الفاعل بالفعل على ما تحقق بعلم النحو.
و(قول الأولى: زوجي لحم جمل غَثٌّ على رأس جبل وَعرٍ - في غير كتاب مسلم: وعث - لا سهل فيُرتقى، ولا سمين فيُنتَقَل - وفي غير كتاب مسلم: فيُنتَقَى
(1) رواه أحمد (2/ 312)، ومسلم (632).
(2)
هو الفرزدق.
(3)
ما بين حاصرتين سقط من (ع).
فَيُنتَقَلَ، قَالَت الثَّانِيَةُ: زَوجِي لَا أَبُثُّ خَبَرَهُ، إِنِّي أَخَافُ أَن لَا أَذَرَهُ، إِن أَذكُرهُ أَذكُر عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ،
ــ
بدل: فينتقل -) الرواية الصحيحة بخفض غثّ على الصِّفة للجمل، وقد قيَّده بعضهم بالرفع على الصِّفة لِلَّحم، والغَثُّ: الشديد الهزال، الذي يُستغثُّ [من هزاله، أي: يُستترك ويُستكره، مأخوذٌ من غث الجرح غثًّا وغثيثًا](1) إذا سال منه المِدَّة (2) والقيح، واستغث صاحبه. والوعث من الجبال: الصَّعب المرتقى لوعوثته، وهو أن يكون بحيث توحل فيه الأقدام، فلا يكاد يتخلَّص منه.
وقد فسَّرته بقولها: لا سهل فيرتقى، أي: لا يصعدُ فيه لصعوبته. وينتقل: من الانتقال، أي: هذا الجمل لهزالته لا ينقله أحدٌ زهدًا فيه، ولكونه بموضع لا يتخلَّص منه، ويُنتقى، أي: لا نِقيَ له، والنِّقيُ: المخ. يقال منه: نقوت العظم، ونقيته، وانتقيته، إذا استخرجت مُخَه. قال الخطابي: وصفت زوجها بسوء الخلق، وقلة الخير، ومنع الرِّفد، وبالأذى في المعاشرة.
و(قول الثانية: زوجي لا أبث خبره، إني أخاف ألا أذره، إن أذكره، أذكر عجره وبجره) بثُّ الخبر: نشره وإظهاره. ومعنى أذره: أدعه، ولم تستعمل العرب من هذين الفعلين إلا مضارعهما، فلا يقال منهما: فعل ولا أَفعَلَ، ولا فَاعَلَ، ولا فَعلَى. استغنوا عن ذلك بـ ترك غير أنه قد سمع: وَدَعَ، وَوَدعٌ، وهو قليل. والعُجَر: جمع عُجرَة. والبُجَر: جمع بُجرَةٍ، تعني بذلك: عيوبه. قال الأصمعي في تفسير قول علي رضي الله عنه: أشكو إلى الله عُجَرِي وبُجَرِي أي: همومي وأحزاني، وأصل البُجَر: العروق المنعقدة في البطن خاصَّة، وقال ابن الأعرابي: العُجَرة: نفخةٌ في الظهر، فإذا كانت في السُّرَةِ فهي: البُجرة، ثم يُنقَلان إلى الهموم والأحزان، والضمير في خَبَره. وفي أَذَرَهُ: على الزوج، وكذلك هو ظاهر الضميرين
(1) ما بين حاصرتين سقط من (ز).
(2)
"المِدَّة": القيح.
قَالَت الثَّالِثَةُ: زَوجِي العَشَنَّقُ إِن أَنطِق أُطَلَّق، وَإِن أَسكُت أُعَلَّق، قَالَت الرَّابِعَةُ: زَوجِي كَلَيلِ تِهَامَةَ، لَا حَرَّ وَلَا قُرَّ، وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ،
ــ
في عجره وبجره.
وتعني: أنها إن وصفت حال زوجها ذكرت عيوبه، وإن فعلت ذلك خافت من فراقه، وهي تكره فراقه للعِلَق التي بينهما. وعلى هذا فتكون لا التي في أن لا أذره زائدة، كما زيدت في قوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَلا تَسجُدَ} ويحتمل أن يقال: لا ليست بزائدة، وإنها تخاف ألا تتركه معها ممسكًا لها في صحبتها. وقيل: إن الضمير في عجره وبجره عائدٌ إلى الخبر، تعني: أن حديثه حديث طويل، فيه عقد لو تحدَّث به، لكنها لم تتحدَّث به لخوفها، ولم تسكت عن حال زوجها بالجملة للعقد الذي جعلت على نفسها، لكنها أومأت إلى شيء من ذلك، وعلى القول الأول: صرحت بأن له أمورًا تعاب.
و(قول الثالثة: زوجي العشنَّق، إن أنطق أُطلَّق، وإن أَسكُت أُعَلَّق) العشنَّقُ: الطويل الخارج بطوله إلى الحد المستكره، ويقال أيضًا عليه: العشنّط - بالطاء - تقول: ليس عنده أكثر من طول بلا نفع، فهو منظرٌ بلا مخبر، إن ذكرت عيوبه طلقني، وإن سكت عن ذلك، تركني مُعَلَّقة، لا أيِّمًا، ولا ذات زوج، كما قال تعالى:{فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ}
و(قول الرابعة: زوجي كلَيلِ تِهامة، لا حرٌّ، ولا قرٌّ) هو مدح منها لزوجها، لأنَّها ضربت له مثلًا بليل تهامة، لأنَّه معتدل، إذ ليس فيه حرٌّ يؤذي، ولا بردٌ يُردِي. وكذلك كان زوجها. والقرُّ: البرد.
و(قولها: ولا مخافة، ولا سآمة) أي: لا أخاف منه أذى، وليس فيه سآمة، أي: قلال. والرواية المشهورة: فتح ما بعد لا وبناء ما بعدها معها، وقد رواه أبو عبيد برفع ما بعدها وتنوينه في المواضع كلها على الابتداء وإضمار الخبر، وهذا نحو قوله تعالى:{لا بَيعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} وكنحو
قَالَت الخَامِسَةُ: زَوجِي إِن دَخَلَ فَهِدَ، وَإِن خَرَجَ أَسِدَ، وَلَا يَسأَلُ عَمَّا عَهِدَ، قَالَت السَّادِسَةُ: زَوجِي إِن أَكَلَ لَفَّ، وَإِن شَرِبَ اشتَفَّ، وَإِن اضطَجَعَ التَفَّ، وَلَا يُولِجُ الكَفَّ لِيَعلَمَ البَثَّ،
ــ
قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنَّه يجوز فتحهما ورفعهما، وفتح الأول، ورفع الثاني، وعكس ذلك، وبسط ذلك في كتب النحو.
و(قول الخامسة: زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد) الرواية فهد وأسد - بكسر العين وفتح اللام - على أنهما فعلان ماضيان مأخوذان من اسم الفهد والأسد، تريد أن حاله إذا دخل بيته نام نوم الفهد، تصفه بكثرة النوم. يقال في المثل: هذا أنوم من فهد، وأما إذا خرج للحرب، ف فعل فعل الأسد تصفه بالشجاعة. يقال: أسد الرجل واستأسد إذا تشجَّع، وقال إسماعيل بن أبي أويس: إن دخل فهد، أي: وثب عليّ كما يثب الفهد، فيحتمل أن تريد بذلك ضربها، أو المبادرة لجماعها.
قلت: والأول أظهر.
و(قولها: ولا يسأل عما عهد) أي: لا يبحث عما له من مال ولا طعام في بيته، فيحتمل أن يكون ذلك عن كرم نفس، وحسن خلق فيكون مدحًا، ويحتمل أن يكون ذلك عن غفلة وقلة مبالاة فيكون ذمًّا.
و(قول السادسة: زوجي إن أكل لف، وإن شرب اشتف) تصفه بكثرة الأكل مع التخليط في المأكول، فهو يلف كل ما يجده من الأطعمة، ويشرب كل ما يجده من الأشربة. يقال: اشتف ما في الإناء إذا شرب ما فيه، من الشفافة وهي: البقية، وهذا وصف ذم.
و(قولها: وإذا (1) اضطجع التف) تعني: أنه ينام وحده ملتفًا في ثوبه،
(1) في مسلم والتلخيص: وإن.
قَالَت السَّابِعَةُ: زَوجِي غَيَايَاءُ - أَو عَيَايَاءُ - طَبَاقَاءُ
ــ
فيحتمل أن يكون ذلك منه إعراضًا عنها، إذ لا أرب له فيها، فهي لذلك كئيبة حزينة، ويناسبه قولها بعده: ولا يولج الكف ليعلم البث أي: لا يمد يده إلي ليعلم ما أنا عليه من الحزن لإعراضه عنها فيزيله. ويحتمل أنه: إنما يفعل ذلك فشلًا وعجزًا، فإنَّ هذه نومة العجزان الكسلان، وعلى هذا فيجتمع فيه: أنه أكول، شروب، نؤوم، لا رغبة له في شيء غير ذلك.
واختلف في معنى قولها: ولا يولج الكفّ ليعلم البث، فأشار ابن الأعرابي إلى الأول، فإنَّه قال: إنما أرادت أنه إذا رقد التفّ في ناحية من البيت، ولم يضاجعني ليعلم ما عندي من محبتي لقربه. ولا بثَّ لها إلا محبَّتُها الدنوِّ منه، فسمته ذلك بثًّا، لأنَّ البث من جهته يكون. قال أبو عبيد: أحسب أنها كان بجسدها عيب، فكان لا يدخل يده في ثوبها كرمًا. وقال غيره: لا يمس عورتها، لأن ذلك قد يشق عليها في بعض الأوقات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: حتى تستحدَّ المغيبة (1)، وقال أحمد بن عبيد: معناه: لا يتفقد أموري فيعلم ما أكرهه فيزيله، يقال: ما أدخل يده في هذا الأمر، أي: لم يتفقَّده.
قلت: وقول ابن الأعرابي: أشبهها، وما ذكرته أنسبها، وعلى هذه الأقوال كلها فحديثها كله ذمٌّ، وأما على قول أبي عبيد، فإنَّها تكون قد مدحته بالإعراض والتغافل عن الاطلاع على ما يحزنها من عيب جسدها، وقد استبعد ابن قتيبة أن تكون تذمُّه بالوصفين المتقدِّمين وتمدحه بثالث.
قلت: وهذا لا بُعد فيه، فإنَّهن تعاقدن ألا يكتمن من أحوال أزواجهن شيئًا، فمنهن من كان زوجها مذموم الأحوال كلها، ومنهن من كان زوجها ممدوح الأوصاف كلها، ومنهم من جمع الأمرين، فأخبرت كل واحدة بما علمت.
و(قول السَّابعة: زوجي غياياء - أو عياياء- طباقاء) الرواية التي لا يعرف
(1) رواه البخاري (5245)، ومسلم (715). (181) في كتاب الإمارة.
كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ
ــ
غيرها بالعين المهملة، وغياياء: بالغين المعجمة، وأو للشك، وهو شك وقع من بعض الرواة، وقد أنكر أبو عبيد وغيره الغين المعجمة، وقالوا: صوابه: عياياء. وقالوا: هو العنين: وهو الذي تغلبه مباضعة النساء، وكذلك هو في الإبل التي لا تضرب ولا تلقح.
قلت: ويظهر من كلام هؤلاء الأئمة: أنهم قصروا عياياء على الذي يعجز عن الجماع والضِّراب، والصحيح من اللسان: أنه يقال على ذلك، وعلى من لم يقم بأموره. ففي الصحاح: يقال جمل عياياء، أي: لم يهتد إلى الضراب، ورجل عياياء: إذا أعَيا بالأمر والمنطق، وعلى هذا فتكون هذه المرأة قد وصفته بكل ذلك، وأما إنكار غياياء فليس بصحيح.
قال القاضي أبو الفضل: وقد يظهر له وجهٌ حسن، ولا سيما أكثر الرواة أثبتوه، ولم يشكُّوا فيه، وهو أن يكون مأخوذًا من الغياية، وهو كل ما أظل الإنسان فوق رأسه، فكأنه غطي عليه وسترت أموره، ويكون من الغي: وهو الانهماك في الشر، أو الغي: وهو الخيبة. قال الله تعالى: {فَسَوفَ يَلقَونَ غَيًّا} أي: خيبة.
والمعروف في الطباقاء: أنه بمعنى: العياياء، وهو الذي تنطبق عليه الأمور، وأنشد الجوهري قول جميل بن مَعمَر:
طباقاء لم يشهد خُصُوًا ولم يَقُد
…
رِكابًا إلى أَكوارِها حين تُعكف (1)
قال: ويُروى عياياء، وهو بمعنى واحد.
قال القاضي: وحكى أبو علي - وأظن البغدادي - عن بعضهم أنه قال: الثقيل الصدر، الذي ينطبق صدره على صدر المرأة عند الحاجة إليها، وهو من مذام الرجال. وقال الجاحظ: عياياء، طباقاء: أخبرت عن جهله بإتيان النساء، وعيِّه، وعجزه، وأنه إذا سقط عليها انطبق عليها، والنساء يكرهن صدور الرجال على صدورهن.
و(قولها: كل داء له داء) أي: هو موصوف بجميع الأدواء مع عيه وعجزه.
(1) انظر: الصحاح (4/ 1512).
شَجَّكِ أَو فَلَّكِ أَو جَمَعَ كُلًّا لَكِ، قَالَت الثَّامِنَةُ: زَوجِي الرِّيحُ رِيحُ زَرنَبٍ، وَالمَسُّ مَسُّ أَرنَبٍ، قَالَت التَّاسِعَةُ: زَوجِي رَفِيعُ العِمَادِ، طَوِيلُ النِّجَادِ،
ــ
و(قولها: شجَّك، أو فلَّك، أو جمع كلًا لكِ) الشجاج: الجراح في الرأس، وتعني بفلَّك، أي: أثَّر في جسدك بالضرب، مأخوذ من فلَّ السيف فلولًا إذا تثلم، وقيل معناه: كسر أسنانها، وأو هنا للتقسيم، تعني: أنه في وقت يضربها فيشج رأسها، وفي وقت يؤثر في جسدها، وفي آخر يجمع كل ذلك عليها.
و(قول الثامنة: الريح ريح زرنب، والمس مس أرنب) الأرنب: واحد الأرانب، تعني به: أنه لين الجسد عند المس، ناعمه كمسِّ جلد الأرنب، ويحتمل: أن يُكنى بذلك عن طيب خلقه، وحسن معاشرته. والزرنب: بتقديم الزاي على الراء: ضرب من النبات طيب الرائحة، ووزنه: فعلل. وأنشدوا:
يا بأبي أنت وفوكِ الأشنبُ
…
كأنَّما ذُرَّ عليه الزَّرنبُ
أو زنجبيلٌ عاتقٌ مُطيَّب
وظاهره: أنها أرادت: أن تستعمل الطيب كثيرًا تظرُّفًا ونظافة، ويحتمل أن تكني بذلك عن طيب الثناء له، أو عن طيب حديثه، وحسن معاشرته.
و(قول التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النجاد)، وظاهره: أنها وصفته بطول البيت وعلوه، فإنَّ بيوت الأشراف والكرماء كذلك، فإنَّهم يعلونها، ويضربونها في المواضع المرتفعة ليقصدهم الطارقون والمعتفون (1)، وبيوت غيرهم: قصار، وربما هُجي بذلك فقيل:
قِصارُ البيوتِ لا تُرى صهواتها
…
من اللُّؤمِ حشَّامُون عندَ الشدائد
وقيل: كنت بذلك عن شرفه ورفعة قدره. والنجاد: حمالة السيف، تُريد: أنه طويل القامة، كما قال شاعرهم:
(1) المُعتفون: جمع عاف ومُعتفٍ، الأضياف وطلاب المعروف (اللسان) مادة: عفى.
عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ البَيتِ مِن النَّادِي، قَالَت العَاشِرَةُ زَوجِي مَالِكٌ، فما مَالِكٌ؟ مَالِكٌ خَيرٌ مِن ذَلِكَ
ــ
قَصُرَت حَمائِلُهُ عَلَيهِ فَقَلَصَت
…
ولَقَد تَمَطَّطَ بَينَها فَأَطَالَها
وكانت العرب تتمادح بالطول وتذم بالقصر، وذلك موجود في أشعارهم.
و(قولها: عظيم الرَّماد) تعني: أن نار قِراه للأضياف لا تُطفأ، فرماد ناره كثير عظيم، كما قال:
مَتَى تَأتِه تَعشُو إلى ضَوءِ نارِه
…
تَجِد حَطَبًا جَزلًا ونارًا تَأَجَّجا
وقال آخر:
لَهُ نارٌ تُشَبُّ عَلَى يَفَاعٍ
…
إِذَا النِّيرانُ أُلبِسَتِ القِنَاعا
و(قولها: قريب البيت من النادي) النادي، والنديُّ، والمنتدى: مجلس القوم، ومنه قوله تعالى:{فَليَدعُ نَادِيَهُ} أي: أهل مجلسه. تصفه بالشرف والسؤدد في قومه، فهم إذا تشاوروا أو تفاوضوا في أمر أتوه فجلسوا قريبًا من بيته، فاعتمدوا على رأيه، وامتثلوا أمره. ويحتمل أن تريد: أن النادي إذا أتوه لم يصعب عليهم لقاؤه، أي: لا يحتجب عنهم، ولا يتباعد منهم، بل: يقرب منهم، ويتلقاهم مرحبًا بهم، ومبادرًا لإكرامهم. ومقتضى حديثها: أنها وصفته بالسيادة والكرم، وحسن الخلق، وطيب المعاشرة.
و(قول العاشرة: زوجي مالك، وما مالك؟ ) هذا تعظيم لزوجها، وهذا على نحو قوله تعالى:{وَأَصحَابُ اليَمِينِ مَا أَصحَابُ اليَمِينِ} و: {الحَاقَّةُ * مَا الحَاقَّةُ}
و(قولها: مالك خير من ذلك) أي: هو أجل من أن أصفه لشهرة فضله، وكثرة خيره.
لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ المَبَارِكِ قَلِيلَاتُ المَسَارِحِ، إِذَا سَمِعنَ صَوتَ المِزهَرِ أَيقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ، قَالَت الحَادِيَةَ عَشرَةَ: زَوجِي أَبُو زَرعٍ، فَمَا أَبُو زَرعٍ؟ أَنَاسَ مِن حُلِيٍّ أُذُنَيَّ، وَمَلَأَ مِن شَحمٍ عَضُدَيَّ
ــ
و(قولها: له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح) مبارك الإبل: مواضع بروكها. واحدها: مبرك، ومسارحها: مواضع رعيها، واحدها مسرح، واختلف في معناه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أكثر بروكها وأقل تسريحها مخافة أن ينزل به ضيف وهي غائبة، ذكره أبو عبيد.
والثاني: أنها إذا بركت كانت كثيرة لتوفر عددها، وإذا سرحت كانت قليلة لكثرة ما يجزر منها للضيفان. قاله ابن أبي أويس.
وثالثها: أنها إذا بركت كانت كثيرة لكثرة من ينضم إليها ممن يلتمس لحمها ولبنها، وإذا سرحت كانت قليلة لقلة من ينضم إليها منهم.
و(قولها: إذا سمعن صوت المِزهَر أيقن أنهن هوالك) المزهر - بكسر الميم -: هو عود الغناء، وهو معروف عند العرب ومذكور في أشعارها، وقد أخطأ من قال: إنه مُزهِر بضم الميم وكسر الهاء، وفسَّره: بموقد النار في الرواية والمعنى. أما الرواية: فلا يصحُّ منها إلا ما ذكرناه، وهو كسر الميم، وفتح الهاء، وأما المعنى، فقيل فيه قولان:
أحدهما: أنه يتلقى ضيفانه بالغناء مبالغة في الترحيب والإكرام، وإظهار الفرح.
والثاني: أنه يأتي ضيفانه بالشراب والغناء، فإذا سمعت الإبل صوت الِمِزهر والغناء أيقنَّ بنحرهنَّ للأضياف، وكلا القولين: أمدح، ومعناهما أوضح.
و(قول الحادية عشرة: أناس من حُليِّ أذني) تريد: حلاني قِرَطَةً وشنوفًا تنوسُ بأذني، أي: تتحرك، والنَّوسُ: حركة كل شيء متدلٍّ، يقال فيه: ناسَ ينوسُ نوسًا، وأناسَه غيرَه إناسةً، وسُمِّي ملكُ اليمن ذا نُواس، لضفيرتين كانتا له تنوسان على عاتقه.
و(قولها: ملأ من شحم عضدي) أي: سَمَّنني بالإحسان، وكثرة المأكل،
وَبَجَّحَنِي فَبَجَحَت إِلَيَّ نَفسِي، وَجَدَنِي فِي أَهلِ غُنَيمَةٍ بِشِقٍّ فَجَعَلَنِي فِي أَهلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ،
ــ
وخصَّت العضدين، لأنهما إذا سمنا سَمِنَ جميع الجسد.
و(قولها: فبجَحني فبجحت إليَّ نفسي) الرواية المعروفة: فبَجَحَت بفتح الجيم والحاء وسكون تاء الفرق، وإلي مشدد الياء، وتكون نفسي فاعلة بجحت، وقد رواه أبو عبيد: فَبَجُحتُ بضم الجيم، وسكون الحاء وتاء مضمومة، هي ضمير المتكلم الفاعل، وإلى ساكنة: حرف جر، نفسي: مجرورة، ومعنى: بجحني: فرحني ورفعني، ففرحت، وترفعت. يقال: فلان يتبجَّح بكذا، أي: يترفع ويفتخر، قال الشاعر وهو الراعي:
وَما الفَقرُ من أَرضِ العَشِيرَةِ سَاقَنا
…
إِلَيك وَلكنَّا بِقُربِكَ نَبجَحُ
أي: نترفع، ونفتخر.
و(قولها: وجدني في أهل غنيمة بشِقّ) الأكثر الأعرف في الرواية بكسر الشين، وقد ذكره أبو عبيد بفتح الشين. قال: والمحدِّثون يقولونه بالكسر، والفتح الصواب، وهو موضع. وقال ابن الأنباري: هو بالفتح والكسر، واختلف الذين كسروه، فمنهم من قال: هو شق جبل، أي: غنمهم قليلة، ومنهم من قال: هو الجهد والمشقة. كما قال تعالى: {إِلا بِشِقِّ الأَنفُسِ}
و(قولها: فجعلني في أهل صهيل وأطيط) الصهيل: حمحمة الخيل، والأطيط: صوت الرَّحل والإبل من ثقل أحمالها. يقال: لا آتيك ما أطَّت الإبل، وكذلك صوت الجوف من الجَوَى (1).
و(قولها: ودائسٍ ومُنقٍّ) دائس: اسم فاعل من داس الطعام يدوسه دياسة فانداس هو، والموضع: مداسة. والمدوس: ما يداس به، أي: يدق ويُدرَس.
(1)"الجوى": الحرقة وشدة الوجد من عشق أو حُزْن. وكل داءٍ في الجوف.
فَعِندَهُ أَقُولُ فَلَا أُقَبَّحُ، وَأَرقُدُ فَأَتَصَبَّحُ، وَأَشرَبُ فَأَتَقَنَّحُ، أُمُّ أَبِي زَرعٍ، فَمَا أُمُّ أَبِي زَرعٍ؟ عُكُومُهَا رَدَاحٌ،
ــ
ويقال: داس الشيء برجله يدوسه دوسًا إذا وطئه.
ومُنق: صحيح الرواية فيه بضم الميم وفتح النون: اسم فاعل من نقى الطعام والشيء ينقيه تنقية، وهو مُنَق، يعني: أن لهم زرعًا يداس وينقى، وقاله ابن أبي أويس بكسر النون، قال: وهو نقيق أصوات المواشي والأنعام.
قلت: وهذا ليس بشيء، لأنَّه لا يقال لشيء من ذلك: نَقٌّ، وإنما يقال: نقُّ العقرب والضفدع والدجاجة، وقد يقال: نق الهر، وهو قليل، ولذلك قال النيسابوري: تريد الدجاج، وهو بعيد، لأنَّ الدجاج لا تمتدح بها العرب، ولا تذكرها في الأموال، ومقصود قولها هذا: أنها كانت في قوم ضعفاء فقراء، فنقلها إلى قوم أغنياء أقوياء.
و(قولها: فعنده أقول فلا أُقَبِّح) أي: لا يعاب لها قول، ولا يرد بل يستحسن ويمتثل.
و(قولها: وأرقد فأتصبح) أي: أديم النوم إلى الصباح، لا يوقظها أحدٌ، لأنَّها مكرَّمة، مكفية الخدمة والعمل.
و(قولها: فأتقَنَّح) يروى بالميم والنون مكانها. والروايتان معروفتان، غير أن أبا عبيد لم يعرف رواية النون، فأمَّا أتقمح بالميم، فمعناه: أتروى حتى أمجَّ الشراب من الرِّي. يقال: ناقةٌ قامح، وإبل قماح: إذا رفعت رءوسها عند الشراب، ونحو قوله تعالى:{فَهُم مُقمَحُونَ} . وأما بالنون فمعناه: الزيادة على الشرب بعد الرِّي. يقال: قنحت من الشراب، أقنح قنحًا إذا شربت بعد الرِّي، وقال ابن السكيت: معناه أقطع الشرب وأشرب قليلًا قليلًا.
و(قولها: عكومها رداح) العكوم: جمع عكم، وهو العدل. ورداح:
وَبَيتُهَا فَسَاحٌ، ابنُ أَبِي زَرعٍ، فَمَا ابنُ أَبِي زَرعٍ؟ مَضجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطبَةٍ، وَتُشبِعُهُ ذِرَاعُ الجَفرَةِ، بِنتُ أَبِي زَرعٍ، فَمَا بِنتُ أَبِي زَرعٍ؟ طَوعُ أَبِيهَا، وَطَوعُ أُمِّهَا، وَمِلءُ كِسَائِهَا، وصفر ردائها،
ــ
مملوءة من الأمتعة، تعني: أنها كثيرة القماش والأثاث. ويقال: امرأة رداح، إذا كانت عظيمة الكفل.
و(قولها: وبيتها فساح) أي: واسع. يقال: بيت فسيح، وفساح، وظاهره: أنه فسيح الفناء، ويحتمل أن يكون كناية عمَّا يفعل فيه من الخير والمعروف.
و(قولها: مضجعه كمسل شطبة) الشَّطبة: هي بفتح الشين، وأصلها ما شطب من جريد النخل، وذلك: أنه يُشَقُّ منه قضبان دقاق تنسج منها الحصر. وقال ابن الأعرابي وغيره: الشَّطبة هنا: السيف يسل من غمده.
و(قولها: وتشبعه ذراع الجفرة) وهي: الأنثى من ولد المعز، والذكر: جفر، وإذا أتى على ولد المعز أربعة أشهر، وفصل عن أمه، وأخذ في الرعي قيل عليه: جفر. مدحته بقلَّة أكله، وقلَّة لحمه، وهما وصفان ممدوحان. قال الشاعر:
تَكفِيه حُزَّةُ فِلذٍ إن أَلَمَّ بِهَا
…
مِنَ الشِّواءِ ويُروِي شُربَهُ الغُمَرُ
و(قولها: ملء كسائها) أي: ممتلئة الجسم.
و(قولها: صفر ردائها)(1) أي: خاليته، والصفر: الشيء الفارغ. قال الهروي: أي: ضامرة البطن، والرداء ينتهي إلى البطن. وقال غيره: يريد أنها خفيفة أعلى البدن، وهو موضع الرداء ممتلئة أسفله، وهو موضع الكساء والأزرة، ويؤيده قولها في بعض روايات الحديث: مِلءُ إزارها.
قال القاضي: والأولى: أنه أراد:
(1) هذه العبارة ليست في التلخيص، وقد وردت في مسلم برواية أخرى.
وَغَيظُ جَارَتِهَا،
ــ
أن امتلاء منكبيها، وقيام نهديها يرفضان الرداء عن أعلى جسدها (1)، فهو لا يمسه كالفارغ منها بخلاف أسفلها، كما قال الشاعر:
أَبَتِ الرَّوادِفُ والثُّدِيُّ لِقُمصِها
…
مَسَّ البُطُونِ وأَن تَمَسَّ ظُهُورا
و(قولها: وغيظ جارتها) تريد أن ضرتها يغيظها ما تراه من حسنها، وجمالها، وعفافها.
و(قولها: وعقر جارتها (2)) الرواية الصحيحة: بعين مهملة مفتوحة، وقاف من العقر، وهو الجرح، أو الهلاك، تعني: أن ضرتها (3) تموت من أجلها حسدًا وغيظًا، أو ينعقر قلبها، وفي قولها: ملء كسائها، وصفر ردائها، وغيظ جارتها دليل لسيبويه: على صحة ما أجازه من قول: مررتُ برجلٍ حَسَنٍ وجهه، وهو ردٌّ على المبرّد والزجَّاج، فإنَّهما منعا ذلك، وعلَّل الزجاجي المنع بإضافة الشيء إلى نفسه، وخطَّأَ سيبويه في إجازة ذلك، وقال: إنما أجازه سيبويه وحده، وقد أخطأ الزجَّاجي في هذا النقل في مواضع، أخطأ في المنع، وأخطأ في التعليل، وفي تخطئته سيبويه، وفي قوله: إنه لم يقل به غير سيبويه. وقد قال أبو الحسن بن خروف: أنَّه قال به طائفة لا يحصون، وفي قوله: إن جميع الناس خطَّئوا سيبويه، وليس بصحيح. وكيف يخطأ باللسان من تمسك بالسَّماع بالصحيح، كما جاء في هذا الحديث المتفق على صحته. وقد جاء عن بعض الصَّحابة رضي الله عنهم في وصف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: شَثَنٌ أصابعه (4)، وقد اتفق أهل اللسان على صحة قول الشاعر:
(1) في (ز): صدرها.
(2)
هذه العبارة ليست في التلخيص، وإنما جاءت في روايةٍ إثر حديث الباب، في صحيح مسلم.
(3)
في (ز): جارتها.
(4)
"الشَّثن": الغليظ الأصابع من الكفَّين والقدمين.
جَارِيَةُ أَبِي زَرعٍ، فَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرعٍ؟ لَا تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبثِيثًا، وَلَا تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنقِيثًا، وَلَا تَملَأُ بَيتَنَا تَعشِيشًا،
ــ
أَمِن دِمِنتين عرَّج الركبُ فيهما
…
بحقل الرُّخامى قد عفا طللاهُما
أقامَت عَلَى رَبعَيهِما جارَتا صَفًا
…
كُميتا الأعالي جونتا مصطلاهما
وقد تعسَّف المانع في تأويل هذا السماع بما تمجُّه الأسماع، ولتفصيل ذلك مبسوطات النحو، ومن تمسك بالسماع فرد حجَّته لا يستطاع.
و(قولها: لا تبثُّ حديثنا تبثيثًا) يُروى بالباء بواحدة، من البث: وهو الإظهار والإشاعة، فتصفها بكتمان ما تسمعه من الحديث، وهذا يدلّ على عقلها، وأمانتها، ويُروى بالنون، وهو بمعنى الأول. يقال: نثَّ الحديث إذا أنثاه، وفي الصحاح: بث الخبر، وأبثه: إذا أفشاه، ونثَّه بالنون ينثّه بالضم كذلك، وأنشد:
إذا جاوَزَ الاثنين سرٌّ فإنَّهُ
…
بِنَثٍّ وتكثِيرِ الوُشَاةِ قَمينُ
و(قولها: ولا تنقَّث ميرتنا تنقيثًا) أصل التنقيث: الإسراع. يقال: خرجت أنقث - بالضم -، أي: أسرع السير، وكذلك أنتقث. والميرة: ما يمتار من موضع إلى موضع من الأطعمة، وأرادت: أنها أمينةٌ على حفظ طعامنا وحافظة له.
و(قولها: ولا تملأ بيتنا تعشيشًا) يُروى هذا بالعين المهملة والمعجمة، فعلى المهملة فسَّره الخطابي بأنها لا تفسد الطعام المخبوز، بل تتعهده بأن تطعمنا منه أولًا فأولًا، وتلاه على هذا التفسير المازري، وهذا إنما يتمشَّى على رواية من رواه: ولا تفسد ميرتنا تعشيشًا. وأما على رواية ما صح هنا من قولها: ولا تملأ، فلا يستقيم، وإنَّما معناه: أنها تتعهَّد بيتها بالنظافة والكَنس، ولا تترك كناسة في البيت، حتى يصير كعش الطائر، وأما رواية الغين المعجمة فهو من الغش والخيانة، أي: لا تخوننا في شيء من ذلك، ولا تترك النصيحة في صنعة. والأوطاب: جمع وطب، وهو من الجموع النادرة، فإنَّ فَعلًا في الصحيح قياسه
قَالَت: خَرَجَ أَبُو زَرعٍ وَالأَوطَابُ تُمخَضُ فَلَقِيَ امرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ لَهَا كَالفَهدَينِ يَلعَبَانِ مِن تَحتِ خَصرِهَا بِرُمَّانَتَينِ فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا، فَنَكَحتُ بَعدَهُ رَجُلًا سَرِيًّا رَكِبَ شَرِيًّا، وَأَخَذَ خَطِّيًّا، وَأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا، وَأَعطَانِي مِن كُلِّ رَائِحَةٍ زَوجًا،
ــ
أن يأتي في القلة على أفعل، وفي الكثرة على فُعُول، وفِعَال، وهي: أسقية اللبن، وتُمَخَّض: تحرِّك ليخرج زبدها.
و(قولها: يلعبان من تحت خصرها برمَّانتين) قال ابن أبي أويس: تعني بالرمانتين: ثدييها. قال أبو عبيد: ليس هذا موضعه، وإنَّما معناه: أنها عظيمة الكفل، فهي إذا استلقت صار بينها وبين الأرض فجوة يجري فيها الرُّمان، قال القاضي: وما أنكره أبو عبيد أظهر وأشبه، لا سيما وقد روي: من تحت صدرها، ومن تحت درعها، ولأن العادة لم تجر برمي الصبيان الرمان تحت أصلاب أمهاتهم، ولا باستلقاء النساء كذلك، حتى يشاهد ذلك منهن الرجال، والأشبه: أنهما رمانتا الثديين، شبههما بذلك لنهودهما، ودلَّ على ذلك صغر سنها.
و(قولها: فنكحتُ بعده رجلًا سريًا، ركب شريًا، وأخذ خطيًا، وأراح عليَّ نَعَمًا ثريًا) السري - بالسين المهملة -: هو السيِّد الشريف، ومنه قوله تعالى:{قَد جَعَلَ رَبُّكِ تَحتَكِ سَرِيًّا} على قول الحسن، وسراة كل شيء: خياره، وسروات الناس: كبراؤهم، وحكى يعقوب فيها الشين المعجمة.
وركب شريًّا أي: فرسًا سريعًا. يُقال: استشرى الفرس، إذا لَجَّ في سيره ومضى فيه، وقال يعقوب: فرس شري: خيارٌ، وهو بالمعجمة لا غير. والخطي: الرمح، منسوب إلى موضع بالبحرين يقال له: الخط. والنعم: الإبل. وثريًّا: كثيرة كالثرى، وهو التراب. وأراحها: أتى بها إلى مراحها، وهو موضع مبيتها.
و(قولها: وأعطاني من كل رائحة زوجًا) رائحة - بالراء -: هو اسم فاعل من
قَالَ: فكُلِي أُمَّ زَرعٍ، وَمِيرِي أَهلَكِ، فَلَو جَمَعتُ كُلَّ شَيءٍ أَعطَانِي مَا بَلَغَ أَصغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرعٍ، قَالَت عَائِشَةُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُنتُ لَكِ كَأَبِي زَرعٍ لِأُمِّ زَرعٍ.
ــ
راح، تعني: أنه أعطاها من كل صنف من الإبل، والغنم، والبقر. والزوج: الصِّنف (1)، كما قال تعالى:{وَكُنتُم أَزوَاجًا ثَلاثَةً} وقد يراد بالزوج: اثنان. يقال فرد وزوج، وزوج المرأة: بعلها، وهي زوجٌ له. وقد جاء زوجه، ويقال: هما زوجان للاثنين، وهما زوج، كما يقال: هما سيّان، وهما سواء، قاله الجوهري. وقال غيره: ولا يوضع الزوج على الاثنين أبدًا. قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوجَينِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} وقد رويت هذه الكلمة: ذابحة بالذال المعجمة من الذبح، وتكون فاعلة بمعنى مفعولة، كـ {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أي: مرضية، يعني: أنه أعطاها من كل شيء يذبح.
و(قوله: فكلي أم زرع، ومِيري أَهلَكِ) أباح لها أن تأكل ما شاءت من طعامه، وأن تبعث منه بما شاءت لأهلها، مبالغة في إكرامها، وفي الاحتفال بها، ومع ذلك كله، فكانت أحواله كلها عندها محتقرة بالنسبة إلى أبي زرع، ولذلك قالت: فلو جمعت كل شيء أعطاني ما بلغ أصغر آنية أبي زرع، وسبب ذلك: أن أبا زرع كان الحبيب الأول. كما قال الشاعر (2):
نقِّل فؤادَك حيث شئتَ من الهوى
…
ما الحبُّ إلا للحبيب الأوَّلِ
وقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: كنت لك كأبي زرع لأم زرع تطييب لقلبها، ومبالغة في حسن عشرتها، ومعناه: أنا لك، وهذا نحو قوله تعالى:{كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ} أي: أنتم، ويمكن بقاؤها على ظاهرها، أي: كنت لك في علم الله
(1) في (ز): الضعف.
(2)
هو أبو تمام.
وفي رواية، قال: عياياء طباقاء - ولم يشك - وقال: قليلات المسارح، وقال: وصفر ردائها، وخير نسائها، وعقر جارتها، وقال: ولا تنقث ميرتنا تنقيثا، وقال: وأعطاني من كل ذابحة زوجا.
رواه البخاريُّ (5189)، ومسلم (2448).
* * *
ــ
السَّابق، ويمكن أن تكون مِمَّا أريد بها الدوام، كما قال تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}
وحديث أم زرع هذا فيه أحكام:
منها: جواز محادثة الأهل، ومباسطتهن بما لا ممنوع فيه.
وفيه: جواز إعلام الزوج زوجته بمحبته إياها بالقول إذا لم يؤد ذلك إلى مفسدة في حاله بحيث تهجره، وتتجرَّأ عليه.
وفيه: ما يدل على أن ذكر عيوب من ليس بمعين لا يكون غيبة، وفيه جواز الانبساط بذكر طُرَفِ الأخبار، ومُستطابات الأحاديث، وتنشيط النفوس بذلك، وجواز ذكر محاسن الرجال للنساء، ولكن إذا كانوا مجهولين بخلاف المعيَّن، فإنَّ ذلك هو المنهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها (1).
وفيه: ما يدل على جواز الكلام بالألفاظ الغريبة والأسجاع، وأن ذلك لا يكره، وإنَّما يكره تكلف ذلك في الدُّعاء.
* * *
(1) رواه الطبراني في الكبير (10/ 173)، وانظر: التمهيد (4/ 65).