الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(46) باب فضائل عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ومريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون
[2346]
عَن عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أُرِيتُكِ فِي
ــ
(46)
ومن باب فضائل عائشة بنة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما
تكنى: بأم عبد الله - ابن الزبير، وهو ابن أختها: أسماء - أباح لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تكتنيَ به. تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد موت خديجة، وقبل الهجرة بثلاث سنين، وهو أولى ما قيل في ذلك، وهي بنت ست سنين. وابتنى بها بالمدينة، وهي بنت تسع سنين. وقال ابن شهاب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بها في شوال قبل الهجرة بثلاث سنين، وأعرس بها في المدينة في شوال على رأس ثمانية عشر شهرًا من مهاجره إلى المدينة، وقد روي عنها أنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست، وبنى بي وأنا بنت تسع، وقُبِض عني، وأنا بنت ثماني عشرة (1).
وتوفيت سنة ثمان وخمسين ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان، وأمرت أن تدفن ليلًا، فدفنت بعد الوتر بالبقيع، وصلَّى عليها أبو هريرة رضي الله عنه. ونزل في قبرها خمسة: عبد الله وعروة ابنا الزبير، والقاسم ومحمد ابنا محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وكانت فاضلة، عالمة، كاملة. قال مسروق: رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض، وقال عطاء: كانت عائشة أفقه الناس، وأحسن الناس رأيًا في العامَّة، وقال عروة: ما رأيت أحدًا أعلم بفقه، ولا طبٍّ، ولا شعرٍ من عائشة، وقال أبو الزناد: ما رأيت أحدًا أروى لشعرٍ من عروة، فقيل له: ما أرواك يا أبا عبد الله! قال: وما
(1) رواه مسلم (1422)(72).
المَنَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ جَاءَنِي بِكِ المَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِن حَرِيرٍ فَيَقُولُ: هَذِهِ امرَأَتُكَ فَأَكشِفُ عَن وَجهِكِ، فَإِذَا أَنتِ هِيَ، فَأَقُولُ: إِن يَكُ مِن عِندِ اللَّهِ يُمضِهِ.
رواه البخاريُّ (3895)، ومسلم (2438)، والترمذي (3875).
ــ
روايتي في رواية عائشة؟ ! ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرًا. قال الزهري: لو جُمع علم عائشة إلى علم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل. وجملة ما روت عن النبي صلى الله عليه وسلم ألفا حديث، ومائتا حديث، وعشرة أحاديث. أخرج منها في الصحيحين ثلاثمائة إلا ثلاثة أحاديث.
و(قوله: جاءني بك الملك في سرقة من حرير، فيقول: هذه امرأتك): السَّرَقة - بفتح الراء -: واحدة السَّرق، وهي شقق الحرير البيض. وقيل: الجيد من الحرير. وقال أبو عبيد: وأحسنها فارسيه، وأصلها سَرَه، وهو: الجيد. وأنشد غير أبي عبيد للعجاج:
ونَسَجَت لَوَامِعُ الحَرُورِ
…
سَبَائِبًا كَسَرَقِ الحَرير
والسَّبائب - بالهمز والباء-: هي ما رَقَّ من الثياب والخُمُر، ونحوها. قال المهلَّب: السَّرَقَةُ: كالكلَّة والبرقع، والأول: هو المعروف، وفيه دليل على أن للرؤيا ملكًا يمثل الصور في النوم، كما قد حكيناه عن بعض العلماء.
و(قوله: إن يك من عند الله يُمضِه) ظاهره: الشَّك في صحة هذه الرؤيا، فإنَّ كان هذا منه صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، فلا إشكال فيه، لأنَّ حكمه حكم البشر، وأما إن كان بعد النبوة فهو مشكل، إذ رؤيا الأنبياء وحي كما تقدَّم، والوحي لا يشك فيه، وقد انفصل عن هذا: بأن قيل: إن شكه لم يكن في صحة أصل الرؤيا، وإن ذلك من الله، ولكن في كون هذه الرؤيا على ظاهرها، فلا تحتاج إلى تعبير، أو في كونها امرأته في الدنيا، أو في الآخرة. وقيل: لم يكن عنده شك في ذلك، بل:
[2347]
وعنها قَالَت: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لَأَعلَمُ إِذَا كُنتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنتِ عَلَيَّ غَضبَى، قَالَت: فَقُلتُ: وَمِن أَينَ تَعرِفُ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَمَّا إِذَا كُنتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ! وَإِذَا كُنتِ غَضبَى قُلتِ: لَا وَرَبِّ إِبرَاهِيمَ، قَالَت: قُلتُ: أَجَل وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهجُرُ إِلَّا اسمَكَ.
ــ
محققًا له، لكنه أتى به على صورة الشك، وهو غير مراد، كما قال الشاعر:
أيا ظَبيَة الوَعساءِ بَينَ حَلاحِل
…
وبَينَ النَّقا آنتِ أَم أُمُّ سَالِمِ؟
وهذا نوع من أنواع البلاغة معروف عند أهلها يسمى: تجاهل العارف، وقد سُمِّي مزج الشك باليقين، ونحو منه قوله تعالى:{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزَلنَا إِلَيكَ فَاسأَلِ الَّذِينَ يَقرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبلِكَ} وقوله تعالى: {وَإِن أَدرِي لَعَلَّهُ فِتنَةٌ لَكُم وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} ، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يشك في شيء من ذلك، لكن أتى به على التقدير لا التحقيق.
و(قوله: فإذا هي أنت) أي: إنه رآها في النوم كما رآها في اليقظة، فكان المراد بالرؤيا ظاهرها.
و(قوله: إني لأعلم إذا كنت عليَّ راضية، وإذا كنت علي غضبى) غضب عائشة على النبي صلى الله عليه وسلم للأسباب التي ذكرناها في حديث خديجة، أو لبعضها، والغالب: أنها كانت للغيرة التي لا تتمالك المرأة فيها (1).
قال القاضي عياض: يعفى عن النساء في كثير من الأحكام لأجل الغيرة، حتى قد ذهب مالك وغيره من علماء المدينة إلى إسقاط الحد عن المرأة إذا رمت زوجها بالزنى.
و(قولها: أجل والله! ما أهجر إلا اسمك) أجل: يعني: نعم. وتعني بذلك
(1) في (م 4): معها.
رواه أحمد (6/ 61 و 213)، والبخاريُّ (5228)، ومسلم (2439).
[2348]
وعنها قالت: كُنتُ أَلعَبُ بِالبَنَاتِ - وَهُنَّ اللُّعَبُ - فِي بَيتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قالت: وَكَانَت تَأتِينِي صَوَاحِبِي فَكُنَّ يَنقَمِعنَ مِن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَت: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ.
رواه أحمد (6/ 166)، والبخاريُّ (6130)، ومسلم (2440)، وأبو داود (4931)، والنسائي (6/ 131)، وابن ماجه (1982).
ــ
أنها، وإن أعرضت عن ذكر اسمه في حالة غضبها، فقلبها مغمور بمحبته صلى الله عليه وسلم لم يتغيَّر منها شيء. وفي هذا ما يدلّ على ما كانا عليه من صفاء المحبة وحُسن العشرة، وفيه ما يدلّ على: أن الاسم غير المسمَّى، وهي مسألة اختلف فيها أهل اللسان والمتكلمون، وللكلام فيها مواضع أخر.
و(قولها: كنت ألعب بالبنات - وهن اللعب - في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم) اللُّعَبُ: جمع لُعبة، وهو ما يُلعَبُ به. والبنات: جمع بنت، وهنَّ الجواري، وأضيفت اللُّعب للبنات، لأنهنَّ هنَّ اللواتي يصنعنها، ويلعبن بها، وقد تقدَّم القول في جواز ذلك، وفي فائدته، وأنه مستثنى من الصور الممنوعة، لأنَّ ذلك من باب تدريب النساء من صغرهن على النظر لأنفسهن وبيوتهن، وقد أجاز العلماء بيعهن وشراءهن غير مالك فإنَّه كره ذلك، وحمله بعض أصحابه على كراهية الاكتساب بذلك.
و(قولها: فكن ينقمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم) تعني: صواحبها كنَّ ينقبضن ويستترن بالبيت حياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهيبة له.
و(قولها: وكان يُسرِّبهنَّ إلي) أي: يرسلهن إليها، ويسكِّنهنَّ، ويؤنسهنَّ
[2349]
وعن عروة، عن عائشة: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّونَ بِهَدَايَاهُم يَومَ عَائِشَةَ، يَبتَغُونَ بِذَلِكَ مَرضَاتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
رواه البخاريُّ (2580)، ومسلم (2441)، والترمذيُّ (3879)، والنسائي (7/ 69).
[2350]
وعنها، قَالَت: أَرسَلَ أَزوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ بِنتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاستَأذَنَت عَلَيهِ وَهُوَ مُضطَجِعٌ مَعِي فِي مِرطِي، فَأَذِنَ لَهَا، فَقَالَت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَزوَاجَكَ أَرسَلنَنِي إِلَيكَ يَسأَلنَكَ العَدلَ فِي ابنَةِ أَبِي قُحَافَةَ، - وَأَنَا سَاكِتَةٌ - قَالَت: فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَي بُنَيَّةُ أَلَستِ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟ فَقَالَت: بَلَى، قَالَ: أَحِبِّي هَذِهِ، قَالَت: فَقَامَت فَاطِمَةُ حِينَ سَمِعَت ذَلِكَ مِن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَجَعَت إِلَى أَزوَاجِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَخبَرَتهُنَّ بِالَّذِي قَالَت، وَبِالَّذِي قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلنَ لَهَا: مَا نُرَاكِ أَغنَيتِ عَنَّا مِن شَيءٍ، فَارجِعِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولِي لَهُ: إِنَّ أَزوَاجَكَ يَنشُدنَكَ العَدلَ فِي ابنَةِ أَبِي قُحَافَةَ، فَقَالَت فَاطِمَةُ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ فِيهَا أَبَدًا. قَالَت عَائِشَةُ: فَأَرسَلَ أَزوَاجُ
ــ
حتى يزول عنهنَّ ما كان أصابهنَّ منه، فيرجعنَّ يلعبن معها كما كنَّ.
ودخول فاطمة وزينب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مع عائشة في مرطها، دليل على جواز مثل ذلك، إذ ليس فيه كشف عورة، ولا ما يستقبح على من فعل ذلك مع خاصته وأهله. وطلب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم منه العدل بينهن وبين عائشة رضي الله عنها، ليس على معنى أنه جار عليهن، فمنعهن حقًّا هو لهنَّ، لأنَّه صلى الله عليه وسلم منزه عن ذلك، ولأنه لم يكن العدل بينهن واجبًا عليه كما قدَّمناه في كتاب النكاح. لكن صدر ذلك منهنَّ بمقتضى الغيرة والحرص على أن يكون لهنَّ مثل ما كان لعائشة رضي الله عنها، من إهداء الناس له إذا كان في بيوتهنَّ، فكأنهنَّ أردن أن يأمر من أراد أن يهدي له شيئًا ألا يتحرى يوم عائشة رضي الله عنها ولذلك قال: وكان الناس يتحرون
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَينَبَ بِنتَ جَحشٍ - زَوجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ الَّتِي كَانَت تُسَامِينِي مِنهُنَّ فِي المَنزِلَةِ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَم أَرَ امرَأَةً قَطُّ خَيرًا فِي الدِّينِ مِن زَينَبَ، وَأَتقَى لِلَّهِ، وَأَصدَقَ حَدِيثًا، وَأَوصَلَ لِلرَّحِمِ، وَأَعظَمَ صَدَقَةً، وَأَشَدَّ ابتِذَالًا لِنَفسِهَا فِي العَمَلِ الَّذِي تَصَدَّقُ بِهِ، وَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا عَدَا سَورَةً مِن حِدَّةٍ كَانَت فِيهَا، تُسرِعُ مِنهَا الفَيئَةَ - قَالَت: فَاستَأذَنَت عَلَى
ــ
بهداياهم يوم عائشة، ويحتمل أن يقال: إنهنَّ طلبن منه أن يسوي بينهن في الحب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: ألست تحبين من أحب؟ قالت: بلى. قال: فأحبي هذه، وكلا الأمرين لا يجب العدل فيه بين النساء. أما الهدية فلا تطلب من المهدي، فلا يتعين لها وقت، وأما الحب: فغير داخل تحت قدرة الإنسان ولا كسبه.
و(قولها: وهي التي تساميني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) تعني: زينب. وتساميني، أي: تطاولني وترافعني، وهو مأخوذ من السُّموِّ، وهو العلو والرفعة. تعني: أنها كانت تتعاطى أن يكون لها من الحظوة والمنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما كان لعائشة عنده وقيل: إنه مأخوذ من قولهم: سامه حظه خسف، أي: كلفه ما يشق عليه ويذله، وفيه بُعد من جهة اللسان والمعنى.
و(قولها: ولم أر امرأة خيرًا في الدين من زينب. . . الكلام إلى قولها: . . . ولا أشد ابتذالًا لنفسها في العمل) الابتذال: مصدر ابتذل من البذلة، وهي الامتهان بالعمل والخدمة، فكانت تعمل زينب رضي الله عنها بيديها عمل النساء من الغزل والنسيج، وغير ذلك مما جرت عادة النساء بعمله، والكسب به، وكانت تتصدق بذلك، وتصل به ذوي رحمها، وهي التي كانت أطولهن يدًا بالعمل والصَّدقة، وهي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: أسرعكن لحاقًا بي أطولكن يدًا، وسيأتي.
وفيه ما يدلّ على جواز صدقة المرأة مما تكسبه في بيت زوجها من غير أمره.
و(قولها: ما عدا سورة من حدَّة كانت فيها، تسرع منها الفيئة) ما عدا
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَائِشَةَ فِي مِرطِهَا عَلَى الحَالَ الَّتِي دَخَلَت فَاطِمَةُ عَلَيهَا وَهُوَ بِهَا - فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَت: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَزوَاجَكَ أَرسَلنَنِي إِلَيكَ يَسأَلنَكَ العَدلَ فِي ابنَةِ أَبِي قُحَافَةَ، قَالَت: ثُمَّ وَقَعَت بِي فَاستَطَالَت عَلَيَّ وَأَنَا أَرقُبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَرقُبُ طَرفَهُ هَل يَأذَنُ لِي فِيهَا، قَالَت: فَلَم تَبرَح زَينَبُ حَتَّى عَرَفتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَكرَهُ أَن أَنتَصِرَ، قَالَت: فَلَمَّا وَقَعتُ بِهَا لَم أَنشَبهَا حين أَنحَيتُ عَلَيهَا، قَالَت:
ــ
وما خلا: من صيغ الاستثناء، وهما مع ما فعلان ينصبان ما بعدهما في المشهور والأفصح. ومع عدم ما) يخفضان ما بعدهما، لأنَّهما حرفان من حروف الخفض على الأعرف الأشهر، والسَّورة - بفتح السين -: الشِّدَّة، والثوران، ومنه: سَورَةُ الشراب، أي: قوته وحِدَّته، أي: يعتريها ما يعتري الشارب من الشراب، ويروى هذا الحرف: ما عدا سَورَة حَدٍّ - بفتح الحاء من غير تاء تأنيث -، أي: سرعة غضب. والفيئة: الرجوع، ولأجل هذه الحدَّة، وقعت بعائشة، واستطالت عليها، أي: أكثرت عليها من القول والعتب، وعائشة رضي الله عنها ساكتة تنتظر الإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانتصار، فلما علمت أنه لا يكره ذلك من قرائن أحواله انتصرت لنفسها فجاوبتها، وردَّت عليها قولها حتى أفحمتها، وكانت زينب لما بدأتها بالعتب واللَّوم، كانت كأنها ظالمةٌ، فجاز لعائشة أن تنتصر، لقوله تعالى:{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعدَ ظُلمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيهِم مِن سَبِيلٍ}
و(قولها: وقعت فيَّ) هو مأخوذ من الوقيعة التي هي: معركة الحرب، وقيل: هو مأخوذ من الوقع، وهو ألم الرَّجل من المشي، ومنه قولهم: كل الحِذَا يحتذي الحافي الوَقِع - بكسر القاف -.
و(قولها: فلم أنشب أن أنحيت عليها) كذا الرواية الثابتة هنا بالنون والحاء المهملة، والياء باثنتين من تحتها، ومعناه: إني أصبت منها بالذمِّ ما يُؤلمها،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَبَسَّمَ -: إِنَّهَا ابنَةُ أَبِي بَكرٍ.
وفي رواية: فلم أنشبها أن أثخنتها غلبة.
رواه أحمد (6/ 88)، والبخاريُّ (2581)، ومسلم (2442)، والنسائي (7/ 64 - 66).
[2351]
وعنها قالت: إِن كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيَتَفَقَّدُ، يَقُولُ: أَينَ أَنَا اليَومَ؟ أَينَ أَنَا غَدًا؟ استِبطَاءً لِيَومِ عَائِشَةَ، قَالَت: فَلَمَّا كَانَ يَومِي قَبَضَهُ اللَّهُ بَينَ سَحرِي وَنَحرِي.
ــ
فكأنها أصابت منها مقتلًا. وفي الصحاح: أنحيت على حلقه بالسكين، أي: عَرَضتُ، وحينئذ يرجع معنى هذه الرواية لمعنى الرواية الأخرى التي هي: أثخنتها، أي: أثقلتها بجراح الكلم. وهو مأخوذ من قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثخَنتُمُوهُم فَشُدُّوا الوَثَاقَ} أي: أثقلتموهم بالجراح، أو أكثرتم فيهم القتل، ولم أنشبها، أي: لم أمهلها، ولم أتلبث حتى أوقعت بها، وأصله: من نَشِب بالشيء، أو في الشيء إذا نَشِبَ به، واحتبس فيه أو بسببه.
و(قوله: إنها ابنة أبي بكر) تنبيه على أصلها الكريم الذي نشأت عنه، واكتسبت الجزالة والبلاغة، والفضيلة منه، وطيب الفروع بطيب عروقها. وغذاؤها من عروقها. كما قال:
طِيبُ الفُرُوع من الأصُولِ وَلَم يُرَ
…
فرعٌ يَطِيبُ وأصلُهُ الزَّقُّومُ
ففيه مدح عائشة وأبيها رضي الله عنهما.
و(قولها: فلما كان يوم توفي (1)، قبضه الله بين سَحري ونحري) الرواية
(1) كذا في الأصول، وفي التلخيص وصحيح مسلم: فلما كان يومي قبضه أن. . .".
رواه أحمد (6/ 48)، والبخاريُّ (5217)، ومسلم (2443)(84).
[2352]
وعنها أنها سَمِعَت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ قَبلَ أَن يَمُوتَ وَهُوَ مُستنِدٌ إِلَى صَدرِهَا وَأَصغَت إِلَيهِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغفِر لِي وَارحَمنِي وَأَلحِقنِي بِالرَّفِيقِ.
رواه أحمد (6/ 231)، والبخاريُّ (4440)، ومسلم (2444)(85)، والترمذيُّ (3496).
[2353]
وعنها قالت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ: إِنَّهُ لَم يُقبَض نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يُرَى مَقعَدُهُ من الجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرُ. قَالَت عَائِشَةُ: فَلَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَأسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيهِ سَاعَةً، ثُمَّ أَفَاقَ،
ــ
الصحيحة: سَحري بسين مفتوحة غير معجمة، والسَّحر: الرئة، والنَّحر: أعلى الصدر. وأرادت أنه صلى الله عليه وسلم توفي وهو مستند إلى موضع سحرها، وهو الصدر، كما جاء في الرواية الأخرى: وهو مستند إلى صدرها. وحكي عن عمارة بن عقيل بن بلال أنه قال: إنما هو شَجري - بالشين المعجمة والجيم - وشبَّك بين أصابعه، وأومأ إلى أنها ضمَّته إلى صدرها مشبِّكة يديها عليه. وقد تقدَّم القول في الرفيق، وأن الأولى فيه: أنه الذي دلَّ عليه قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} وتخيير الله للأنبياء عند الموت مبالغة في إكرامهم، وفي ترفيع مراتبهم (1) عند الله تعالى، وليستخرج منهم شدَّة شوقهم، ومحبتهم له تعالى، ولما عنده. وقد تقدَّم من هذا شيء في باب ذكر موسى عليه السلام.
(1) في (ع) و (م 4): مكانتهم.
فَأَشخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقفِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ! الرَّفِيقَ الأَعلَى. قَالَت عَائِشَةُ: قُلتُ: إِذًا لَا يَختَارُنَا. قَالَت عَائِشَةُ: وَعَرَفتُ الحَدِيثَ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ فِي قَولِهِ: إِنَّهُ لَم يُقبَض نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقعَدَهُ مِن الجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرُ. قَالَت عَائِشَةُ: فَكَانَت تِلكَ آخِرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَولَهُ: اللَّهُمَّ! الرَّفِيقَ الأَعلَى.
رواه أحمد (6/ 89)، ومسلم (2444)(87).
[2354]
وعنها قَالَت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ أَقرَعَ بَينَ نِسَائِهِ، فَطَارَت القُرعَةُ عَلَى عَائِشَةَ وَحَفصَةَ، فَخَرَجَنَا مَعَهُ جَمِيعًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ بِاللَّيلِ سَارَ مَعَ عَائِشَةَ يَتَحَدَّثُ مَعَهَا، فَقَالَت حَفصَةُ
ــ
و(قولها: فأشخص بصره) أي: حدَّد نظره إلى سقف البيت كما تفعل الموتى.
و(قولها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج أقرع بين نسائه) تعني: إذا خرج إلى سفر، وإنَّما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مبالغة في تطييب قلوبهن إذ لم يكن القسم عليه واجبًا على الخلاف المتقدِّم، وليست القرعة في هذا واجبة عند مالك، لأنَّه قد يكون لبعض النساء من الغَنَاء في السفر والمنفعة، والصلاحية ما لا يكون لغيرها. فتتعين الصالحة لذلك، ولأن من وقعت القرعة عليها لا تجبر على السفر مع الزوج إلى الغزو والتجارة، وما أشبه ذلك، وإنَّما القرعة بينهن من باب تحسين العشرة إذا أردن ذلك، وكن صالحات له، وقال أبو حنيفة بإيجاب القرعة في هذا، وهو أحد قولي الشافعي ومالك أخذًا بظاهر هذا الحديث.
و(قولها: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان بالليل سار مع عائشة رضي الله عنها ظاهره: أنه لم يكن يقسم بين عائشة وحفصة في المسير والحديث، وأن ذلك كان مع عائشة دائمًا دون حفصة، ولذلك تحيَّلت حفصة حتى سار وتحدَّث
لِعَائِشَةَ: أَلَا تَركَبِينَ اللَّيلَةَ بَعِيرِي وَأَركَبُ بَعِيرَكِ فَتَنظُرِينَ وَأَنظُرُ؟ قَالَت: بَلَى، فَرَكِبَت عَائِشَةُ عَلَى بَعِيرِ حَفصَةَ، وَرَكِبَت حَفصَةُ عَلَى بَعِيرِ عَائِشَةَ،
ــ
معها، فيحتمل أن هذا القدر [لا يجب القسم فيه، إذ الطريق ليس محلَّ خَلوة، ولا يحصل لها به اختصاص، ويحتمل أن يقال: إن القدر](1) الذي يقع به التسامح من السير والحديث مع إحداهما هو الشيء اليسير، كما يفعل في الحضر، فإنَّه يتحدث ويسأل وينظر في مصلحة بيت التي لا يكون في يومها، ولكن لا يُكثر من ذلك، ولا يُطيله، وعلى هذا فيكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أدام ذلك، لأنَّ أصل القسم لم يكن عليه واجبًا، والله أعلم.
ولم يختلف الفقهاء في أن الحاضرة لا تحاسب المسافرة فيما مضى لها مع زوجها في السفر، وكذلك لا يختلفون في: أنه يقسم بين الزوجات في السفر كما يقسم بينهن في الحضر. وقد ذكرنا الاحتمال الذي في السير والحديث، وقول حفصة لعائشة رضي الله عنهما: ألا تركبين بعيري، وأركب بعيرك فتنظرين وأنظر. حيلة منها تمت لها على عائشة لصغر سنِّ عائشة، وسلامة صدرها عن المكر والحيل، إذ لم تجرب الأمور بعد، ولا دَرك (2) على حفصة فيما فعلت من جهة أنها أخذت حقًّا هو لعائشة، لأنَّ السير والحديث، إن لم يدخل في القسم فهي وعائشة فيه سواء، فأرادت حفصة أن يكون لها حظ من الحديث والسير معه، وإن كان ذلك واجبًا فقد توصلت إلى ما كان لها، وإنَّما يكون عليها الدَرك من حيث إنها خالفت مراد النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه، فقد يريد أن يحدِّث عائشة حديثًا يُسِرُّ به إليها، أو يختص بها فتسمعه حفصة، وهذا لا يجوز بالاتفاق، لكن حملها على اقتحام ذلك الغيرة التي تورث صاحبها الدَّهَشَ والحَيرة.
(1) ما بين حاصرتين سقط من (ع).
(2)
أي: لا تبعة عليها.
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَمَلِ عَائِشَةَ وَعَلَيهِ حَفصَةُ فَسَلَّمَ، ثُمَّ سَارَ مَعَهَا حَتَّى نَزَلُوا، فَافتَقَدَتهُ عَائِشَةُ فَغَارَت، فَلَمَّا نَزَلُوا جَعَلَت تَجعَلُ رِجلَهَا بَينَ الإِذخِرِ وَتَقُولُ: يَا رَبِّ سَلِّط عَلَيَّ عَقرَبًا أَو حَيَّةً تَلدَغُنِي! رَسُولُكَ وَلَا أَستَطِيعُ أَن أَقُولَ لَهُ شَيئًا.
رواه أحمد (6/ 114)، والبخاريُّ (5211)، ومسلم (2445)، وابن ماجه (1940) مختصرًا.
[2355]
وعَن أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَمَلَ مِن الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَم يَكمُل مِن النِّسَاءِ غَيرُ مَريَمَ بِنتِ عِمرَانَ وَآسِيَةَ امرَأَةِ فِرعَونَ، وَإِنَّ فَضلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ.
رواه أحمد (4/ 394)، والبخاريُّ (3411)، ومسلم (2431)، والنسائي (7/ 68).
ــ
و(قول عائشة: يا رب! سلِّط عليَّ عقربًا يلدغني) دعاءٌ منها على نفسها بعقوبة لما لحقها من النَّدم على ما فعلت، ولما تم عليها من الحيلة، ولما حصل لها من الغَيرة، وهو دعاء باللسان غير مراد بالقلب.
وقولها: رسولك، ولا أستطيع أن أقول له شيئًا) ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف القصة، وإنَّما تمَّت لحفصة حيلتها عليها، والله أعلم، مع أنه يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك بالوحي أو بالقرائن، وتغافل عمَّا جرى من ذلك، إذ لم يجر منهما شيء يترتب عليه حكم، ولا يتعلق به إثم، والله تعالى أعلم.
ورسولك: منصوب بإضمار فعل تقديره: انظر رسولك، ويجوز الرفع على الابتداء، وإضمار الخبر.
و(قوله: كَمَل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء غير مريم وآسية) الكمال: هو التناهي والتمام، ويقال في ماضيه كمل بفتح الميم وضمها، ويكمُل
[2356]
عن عائشة قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَائِشُ هَذَا جِبرِيلُ يَقرَأُ عَلَيكِ السَّلَامَ،
ــ
في مضارعه بالضم، وكمال كل شيء بحسبه، والكمال المطلق: إنما هو لله تعالى خاصة، ولا شك أن أكمل نوع الإنسان: الأنبياء، ثم تليهم الأولياء، ويعني بهم: الصديقين والشهداء الصالحين. وإذا تقرر هذا، فقد قيل: إن الكمال المذكور في الحديث، يعني به: النبوة، فيلزم أن تكون مريم وآسية نبيَّتين، وقد قيل بذلك، والصحيح: أن مريم نبيَّة، لأنَّ الله تعالى أوحى إليها بواسطة الملك، كما أوحى إلى سائر النبيين، وأما آسية، فلم يرد ما يدلّ على نبوتها دلالة واضحة. بل على صديقيتها وفضيلتها. فلو صحَّت لها نبوتها لما كان في الحديث إشكال. فإنَّه يكون معناه: أن الأنبياء في الرجال كثير، وليس في النساء نبي إلا هاتين المرأتين. ومن عداهما من فضلاء النساء صديقات لا نبيَّات، وحينئذ يصحُّ أن تكونا أفضل نساء العالمين.
والأولى أن يقال: إن الكمال المذكور في الحديث ليس مقصورًا على كمال الأنبياء، بل يندرج معه كمال الأولياء، فيكون معنى الحديث: إن نوعي الكمال وجد في الرجال كثيرًا، ولم يوجد منه في النساء المتقدِّمات على زمانه صلى الله عليه وسلم أكمل من هاتين المرأتين، ولم يتعرض النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لأحد من نساء زمانه، إلا لعائشة خاصة، فإنَّه فضلها على سائر النساء، ويُستثنى منهن الأربع المذكورات في الأحاديث المتقدِّمة، وهنَّ: مريم بنت عمران، وخديجة، وفاطمة، وآسية، فإنَّهن أفضل من عائشة، بدليل الأحاديث المتقدِّمة في باب خديجة، وبهذا يصحُّ الجمع، ويرتفع التعارض إن شاء الله تعالى. وإنما كان الثريد أفضل الأطعمة ليسارة مؤنته، وسهولة إساغته، وعظيم بركته، ولأنه كان جلَّ أطعمتهم، وألذَّها بالنسبة إليهم ولعوائدهم، وأما غيرهم فقد يكون غير الثريد عنده أطيب وأفضل، وذلك بحسب العوائد في الأطعمة، والله تعالى أعلم.
و(قوله: إن جبريل يقرأ عليك السلام) يقال: أقرأته السلام، وهو يقرئك