الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(63) باب فضائل حسان بن ثابت
[2394]
عَن أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ عُمَرَ مَرَّ بِحَسَّانَ وَهُوَ يُنشِدُ الشِّعرَ فِي المَسجِدِ، فَلَحَظَ إِلَيهِ، فَقَالَ: قَد كُنتُ أُنشِدُ وَفِيهِ مَن هُوَ خَيرٌ مِنكَ! ثُمَّ
ــ
(63)
ومن باب: فضائل حسان بن ثابث رضي الله عنه
ابن المنذر بن عمرو بن النجار الأنصاري، يكنى أبا الوليد، وقيل أبا عبد الرحمن، وقيل أبا الحسام. ويقال له: شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم روي عن عائشة رضي الله عنها أنها وصفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان والله كما قال شاعره حسان بن ثابت:
متى يبدُ في الدَّاجي البهيم جَبِينُه
…
يَلُح مِثلَ مِصباحِ الدُّجى المُتَوَقِّدِ
فمَن كانَ أَو مَن قَد يَكُونُ كَأَحمَدٍ
…
نظامٌ لِحَقٍّ أَو نَكالٌ لِمُلحِدِ (1)
قال أبو عبيد: فضل حسان الشعراء بثلاث: كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي صلى الله عليه وسلم في النبوَّة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام. وقال أيضًا: أجمعت العرب على أن أشعر أهل المدر حسان بن ثابت. وقال أبو عبيد وأبو عمرو بن العلاء: حسان أشعر أهل الحضر. وقال الأصمعي: حسان أحد فحول الشعراء، فقال له أبو حاتم: تأتي له أشعارٌ ليِّنة! فقال الأصمعي: نُسبت له وليست له، ولا تصح عنه. وروي عنه أنه قال: الشعر نَكِدٌ يقوى في الشر ويُسهل، فإذا دخل في الخير ضعف، هذا حسَّان فحل من فحول الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقط. وقيل لحسان: لانَ شِعرُك - أو هَرِمَ شعرك - في الإسلام يا أبا الحسام! فقال: إن الإسلام يحجز عن الكذب! يعني أن الشعر لا يجوِّده إلا الإفراط والتزين في الكذب، والإسلام قد منع ذلك، فقل ما يجود شعر من يتقي الكذب.
وتوفي حسان قبل
(1) انظر: أسد الغابة (2/ 5)، وديوان حسان (1/ 465).
التَفَتَ إِلَى أَبِي هُرَيرَةَ فَقَالَ: أَنشُدُكَ اللَّهَ، أَسَمِعتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَجِب عَنِّي، اللَّهُمَّ أَيِّدهُ بِرُوحِ القُدُسِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَم.
رواه أحمد (5/ 222)، والبخاريُّ (3212)، ومسلم (2485)(151)، والنسائي (2/ 48).
ــ
الأربعين في خلافة علي رضي الله عنهما، وقيل: سنة خمسين، وقيل: سنة أربع وخمسين - ولم يختلفوا أنه عاش مائة وعشرين سنة؛ منها ستون في الجاهلية وستون في الإسلام، وكذلك عاش أبوه وجدُّه، وأدرك النابغة الذبياني والأعشى وأنشدهما من شعره، فكلاهما استجاد شعره وقال إنك شاعر.
و(قوله: إن عمر مرَّ بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد، فلحظ إليه)؛ أي: أومأ إليه بعينيه أن اسكت، وهذا يدلُّ على أن عمر رضي الله عنه كان يكره إنشاد الشعر في المسجد، وكان قد بنى رحبة خارج المسجد وقال: من أراد أن يلغط أو ينشد شعرًا فليخرج إلى هذه الرحبة.
وقد اختلف في ذلك، فمن مانع مطلقًا ومن مجيز مطلقًا، والأولى التفصيل؛ وهو أن ينظر إلى الشعر، فإنَّ كان مِمَّا يقتضي الثناء على الله تعالى أو على رسوله صلى الله عليه وسلم أو الذبَّ عنهما كما كان شعر حسان أو يتضمن الحضَّ على الخير فهو حسن في المساجد وغيرها، وما لم يكن كذلك لم يجز، لأنَّ الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش والكذب والتزيين بالباطل، ولو سلم من ذلك فأقل ما فيه اللغو والهذر، والمساجد منزهة عن ذلك لقوله تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ} ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن (1)، وقد تقدَّم هذا المعنى.
و(قوله صلى الله عليه وسلم لحسان أجب عني، اللهم أيده بروح القدس)، إنما قال
(1) رواه أحمد (3/ 191)، ومسلم (285) (100) بلفظ: "إن هذه المساجد لا تصلح =
[2395]
وعن البَرَاءَ بنَ عَازِبٍ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِحَسَّانَ بنِ ثَابِتٍ: اهجُهُم - أَو هَاجِهِم - وَجِبرِيلُ مَعَكَ.
رواه أحمد (4/ 302)، والبخاريُّ (4123)، ومسلم (2486)(153).
ــ
النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأنَّ نفرًا من قريش كانوا يهجون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، منهم: عبد الله بن الزَّبعرى، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعمرو بن العاص، وضرار بن الخطاب - وقيل لعلي: اهج عنا القوم الذين يهجوننا! فقال: إن أذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلت! فأعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عليًّا ليس عنده ما يراد من ذلك، ثم قال: ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله أن ينصروه بألسنتهم؟ ، فقال حسان: أنا لها! وأخذ طرف لسانه وقال: والله ما يسرُّني به مِقوَلٌ ما بين بصرى وصنعاء (1).
وكان طويل اللسان يضرب بلسانه أرنبةَ أنفه، وكان له ناصية يسدلها بين عينيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تهجوهم وأنا منهم؟ وكيف تهجو أبا سفيان وهو ابن عمي؟ ، فقال: والله لأسلنَّك منهم كما تسل الشعرة من العجين! فقال: ائت أبا بكر؛ فإنَّه أعلم بأنساب القوم منك. فكان يمضي لأبي بكر ليقفه على أنسابهم، وكان يقول: كفَّ عن فلان وفلانة، واذكر فلانًا وفلانة. فجعل حسان يهجوهم، فلما سمعت قريشٌ شعر حسان قالوا: إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة (2)! فقال حسان:
= لشيء من هذا البول ولا القذر إنما. . . ". ورواه أحمد (5/ 447 و 448)، ومسلم (537) (33)، والنسائي (1/ 259) بلفظ: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس. . .".
(1)
ذكره الأصبهاني في الأغاني (4/ 137). و "مقول": لسان.
(2)
المصدر السابق (4/ 138 - 139).
[2396]
وعَن مَسرُوقٍ قَالَ: دَخَلتُ عَلَى عَائِشَةَ وَعِندَهَا حَسَّانُ بنُ ثَابِتٍ يُنشِدُهَا شِعرًا يُشَبِّبُ بِأَبيَاتٍ لَهُ، فَقَالَ:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ
…
وَتُصبِحُ غَرثَى مِن لُحُومِ الغَوَافِلِ
ــ
أَبلِغ أَبا سُفيَانَ أنَّ مُحمدًا
…
هُوَ الغُصنُ ذُو الأفنَانِ لا الواحِدُ الوَغدُ
ومَا لَكَ فِيهِم مَحتِدٌ يَعرِفونهُ
…
فَدُونَكَ فَالصَق مِثلَ مَا لَصِقَ القُردُ
وإِنَّ سَنامَ المَجدِ في آلِ هَاشِم
…
بَنُو بِنتِ مَخزُومٍ وَوَالِدُكَ العَبدُ
وَمَن وَلَدَت أبنَاءُ زُهرَةَ مِنهُمُ
…
كِرَامٌ وَلَم يَقرَب عَجَائِزَكَ المَجدُ
وَلَستَ كَعَبَّاسٍ وَلا كَابنِ أُمِّهِ
…
وَلكِن لَئِيمٌ لا يَقُومُ لَهُ زَندُ
وإِنِ امرَأً كَانَت سُمَيَّةُ أُمَّهُ
…
وسَمرَاءُ مَغمُوزٌ إذَا بَلَغَ الجَهدُ
وَأنتَ هَجِينٌ نِيطَ فِي آلِ هَاشِمٍ
…
كَمَا نِيطَ خَلفَ الرَّاكِبِ القَدَحُ الفَردُ
الأفنان: الأغصان، واحدها فنن. والوغد: الدنيء من الرجال، والمَحتِد: الأصل. ودونك: ظرف قصد به الإغراء، والمغرى به محذوف تقديره: فدونك محتدك فالصق به، والعرب تغري بـ (عليك) و (إليك) و (دونك). وسنام المجد: أرفعه، والمجد: الشرف. قال أبو عمر: بنت مخزوم هي فاطمة بنت عمرو بن عابد بن عمران بن مخزوم، وهي أم أبي طالب وعبد الله والزبير - بني عبد المطلب.
و(قوله: ومن ولدت أبناء زهرة منهم)؛ يعني حمزة وصفية، أمهما هالة ابنة أهيب بن عبد مناف بن زهرة، والعباس هو ابن عبد المطلب، وابن أمه: شقيقه ضرار بن عبد المطلب، أمهما نسيبة امرأة من النمر بن قاسط. وسميَّة: أم أبي سفيان، وسمراء: أم أبيه. واللؤم: اسم للبخل ودناءة الأفعال والآباء. والمغموز: المعيب المطعون فيه، والهجين: من كانت أمه دنية، والمقرف: من
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كان أبوه دنيا. ونيط: ألصق وعلق، والقدح يعني به قدح الراكب الذي يكون تعليقه بعد إكمال وقر البعير، لأنَّه لا يحفل به. ومنه الحديث: لا تجعلوني كقدح الراكب (1).
و(قوله صلى الله عليه وسلم اللهم أيده بروح القدس)، أيده: قوِّه، والأيد: القوة، ومنه قوله تعالى:{وَالسَّمَاءَ بَنَينَاهَا بِأَيدٍ} أي: بقوة.
وروح القدس: هو جبريل عليه السلام، كما قال في الرواية الأخرى: اهجهم - أو هاجهم - وجبريل معك؛ أي: بالإلهام والتذكير والمعونة.
وقول حسان:
حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنُّ بِرِيبَةٍ
…
وتُصبِحُ غَرثَى من لُحُومِ الغَوافِلِ
حصان: عفيفة، وقد تقدَّم القول في وجوه الإحصان. ورزان: كاملة الوقار والعقل. يقال: رزن الرجل رزانة فهو رزين إذا كان وقورًا، وامرأة رزان. وغرثى: من الغرث وهو الجوع، يقال: رجل غرثان، وامرأة غرثى، كعطشان وعطشى. والغوافل جمع تكسير غافلة، يعني: أنهن غافلات عما رمين به من الفاحشة، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَرمُونَ المُحصَنَاتِ الغَافِلاتِ المُؤمِنَاتِ} ، ويعني حسان بهذا البيت أن عائشة رضي الله عنها في غاية العفة والنزاهة عن أن تُزنَّ بريبة، أي: تُتَّهم بها. ثم وصفها بكمال العقل والوقار والورع المانع لها من أن تتكلم بعرض غافلة، وشبَّهها بالغرثى لأنَّ بعض الغوافل
(1) قال السخاوي (ص 221 - 222). رواه عبد بن حُميد، والبزار في مسنديهما، وعبد الرزاق في جامعه، وابن أبي عاصم في الصلاة، والتيمي في الترغيب، والطبراني، والبييقي في الشعب، والضياء، وأبو نعيم في الحلية. ومن طريقه الديلمي. كلهم من طريق موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف. والحديث غريب. وانظره في: جلاء الأفهام (ص 78 - 79)، وفي جامع الأصول (4/ 155).
فَقَالَت لَهُ عَائِشَةُ: لَكِنَّكَ لَستَ كَذَلِكَ! قَالَ مَسرُوقٌ: فَقُلتُ لَهَا: لِمَ تَأذَنِينَ لَهُ يَدخُلُ عَلَيكِ وَقَد قَالَ اللَّهُ: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبرَهُ مِنهُم لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ؟ فَقَالَت: وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِن العَمَى! فقالت: إِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ - أَو يُهَاجِي - عَن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
رواه البخاريُّ (4756)، ومسلم (2488).
ــ
قد كان هو آذاها فما تكلمت فيها، وهي حمنة بنت جحش، فكأنها كانت بحيث تنتصر ممن آذاها بأن تقابلها بما يؤذيها، لكن حجزها عن ذلك دينها وعقلها وورعها.
و(قول عائشة رضي الله عنها لحسان رضي الله عنه: لكنك لست كذلك) تعني أنه لم يصبح غرثان من لحوم الغوافل، وظاهر هذا الحديث أن حسان كان ممن تكلم بالإفك، وقد جاء ذلك نصًّا في حديث الإفك الطويل الذي يأتي فيه أن الذين تكلموا بالإفك مسطح وحسان وحمنة وعبد الله (1) بن أُبىِّ ابن سلول، غير أنه قد حكى أبو عمر أن عائشة رضي الله عنها قد برَّأت حسَّان من الفرية وقالت: إنه لم يقل شيئًا! وقد أنكر حسان أن يكون قد قال من ذلك شيئًا في البيت الثاني الذي ذكره متصلًا بالبيت المذكور آنفًا، فقال:
فَإِنَّ كَانَ ما قَد قِيلَ عَنِّي قُلتُهُ
…
فلا رَفَعَت سَوطِي إِليَّ أَنَامِلِي
فيحتمل أن يقال: إن حسان يعني أن يكون قال ذلك نصًّا وتصريحا، ويكون قد عرَّض بذلك وأومأ إليه فنسب ذلك إليه، والله أعلم.
وقد اختلف الناس فيه هل خاض في الإفك أم لا؟ وهل جلد الحَّد أم لا؟ فالله أعلم أيُّ ذلك كان.
و(قول عائشة رضي الله عنها وأيُّ عذابٍ أشدُّ من العمى؟ ) ظاهره يدلُّ
(1) في (م 4): عدو الله.
[2397]
وعَن عَائِشَةَ قَالَت: قَالَ حَسَّانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائذَن لِي فِي أَبِي سُفيَانَ! قَالَ: كَيفَ بِقَرَابَتِي مِنهُ؟ قَالَ: وَالَّذِي أَكرَمَكَ لَأَسُلَّنَّكَ مِنهُم كَمَا تُسَلُّ الشَّعرَةُ مِن العجين! فَقَالَ:
وَإِنَّ سَنَامَ المَجدِ مِن آلِ هَاشِمٍ
…
بَنُو بِنتِ مَخزُومٍ وَوَالِدُكَ العَبدُ
قَصِيدَتَهُ هَذِهِ.
رواه مسلم (2489).
[2398]
وعنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اهجُ قُرَيشًا؛ فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيهَا مِن رَشقٍ بِالنَّبلِ! فَأَرسَلَ إِلَى ابنِ رَوَاحَةَ فَقَالَ: اهجُهُم! فَهَجَاهُم فَلَم يُرضِ، فَأَرسَلَ إِلَى كَعبِ بنِ مَالِكٍ، ثُمَّ أَرسَلَ إِلَى حَسَّانَ بنِ ثَابِتٍ، فَلَمَّا
ــ
على أن حسان كان ممن تولَّى كبره، وهذا بخلاف ما قاله عروة عن عائشة رضي الله عنها: إن الذي تولَّى كبره هو عبد الله بن أبي ابن سلول، وأنه هو الذي كان يستوشيه ويجمعه.
و(قول عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اهج قريشًا)، هكذا وقع في بعض النسخ اهج على أنه أمر لواحد ولم يتقدم له ذكر، فكأنه أمر لأحد الشعراء الحاضرين، ووقع في أصل شيخنا أبي الصبر أيوب اهجوا بضمير الجماعة، فيكون أمرًا لجميع من حضر هناك من الشعراء.
و(قوله فإنَّه أشدُّ عليها من رَشقً بالنبل)، الضمير في إنه عائد على الهجو الذي يدلُّ عليه اهج قريشًا، وفي عليها لقريش، ورشق بفتح الراء وهو الرَّمي، ففيه دليل على أن الكافر لا حرمة لعرضه كما أنه لا حرمة لماله ولا لدمه، وأنه يُتعرض لنكايتهم بكل ما يؤلمهم من القول والفعل.
دَخَلَ عَلَيهِ قَالَ حَسَّانُ: قَد آنَ لَكُم أَن تُرسِلُوا إِلَى هَذَا الأَسَدِ الضَّارِبِ بِذَنَبِهِ! ثُمَّ أَدلَعَ لِسَانَهُ، ثم جَعَلَ يُحَرِّكُهُ فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لَأَفرِيَنَّهُم بِلِسَانِي فَريَ الأَدِيمِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَعجَل، فَإِنَّ أَبَا بَكرٍ أَعلَمُ قُرَيشٍ بِأَنسَابِهَا، وَإِنَّ لِي فِيهِم نَسَبًا حَتَّى يُلَخِّصَ لَكَ نَسَبِي! فَأَتَاهُ حَسَّانُ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَد لَخَّصَ لِي نَسَبَكَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لَأَسُلَّنَّكَ مِنهُم كَمَا تُسَلُّ الشَّعرَةُ مِن العَجِينِ!
ــ
و(قوله: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه)، هذا من حسان مدح لنفسه، شبَّه نفسه بالأسد إذا غضب فحمي، وذلك أنه غضب لهجو قريش للنبي صلى الله عليه وسلم واحتد لذلك، واستحضر في ذهنه هجو قريش فتصوره وأحس أنه قد أعين على ذلك ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال تلك الكلمات مظهرًا لنعمة الله تعالى عليه، وأنه قد أجيب فيه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وليفخر بمعونة الله تعالى له على ذلك. وتنزل هذا الافتخار في هذا الموطن منزلة افتخار الأبطال في حال القتال، فإنَّهم يمدحون أنفسهم ويذكرون مآثرهم ومناقبهم في تلك الحال نظمًا ونثرًا، وذلك يدلّ على ثبوت الجأش وشجاعة النفس وقوة العقل والصَّبر وإظهار كل ذلك للعدو وإغلاظ عليهم وإرهاب لهم، وكل هذا الافتخار يوصل إلى رضا الغفار، فلا عتب ولا إنكار.
و(قوله: ثم أدلع لسانه)؛ أي أخرجه وحرَّكه، كأنه كان (1) يعدُّه للإنشاد.
و(قوله: والذي بعثك بالحق لأفرينَّهم بلساني فَريَ الأديم)؛ أي: لأمزقنهم بالهجو كما يمزق الجلد بعد الدِّباغ، فإنَّه يقطع خفافًا ونعالًا وغير ذلك، وتشبيه حسان نفسه بالأسد الضارب بذنبه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وإقرار الكل عليه دليل على بطلان قول من نسب حسَّان إلى الجبن، ويتأيد هذا بأن حسان لم يزل يُهاجي قريشا وغيرهم من خيار العرب ويهاجونه
(1) ليست في (ز).
قَالَت عَائِشَةُ: فَسَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِحَسَّانَ: إِنَّ رُوحَ القُدُسِ لَا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحتَ عَن اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَقَالَت: سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: هَجَاهُم حَسَّانُ فَشَفَى وَاشتَفَى.
ــ
فلم يعيره أحد منهم بالجبن ولا نسبه إليه، والحكايات المنسوبة إليه في ذلك أنكرها كثير من أهل الأخبار، وقيل: إن حسَّان أصابه الجبن عندما ضربه صفوان بن المعطل بالسيف، فكأنه اختل في إدراكه، والله تعالى أعلم.
و(قوله: إن روح القدس لا يزال معك ما نافحت عن الله ورسوله)؛ أي مدَّة منافحتك. والمنافحة: المخاصمة والمجادلة، وأصلها الدَّفع. يقال: نفحت الناقة الحالب برجلها أي دفعته. ونفحه بسيفه، أي: ضربه به من بعيد.
و(قوله صلى الله عليه وسلم هجاهم حسَّان فشفى واشتفى)؛ أي: شفى الألم الذي أحدثه هجوهم، واشتفى هو في نفسه، أي: أصاب منهم بثأره شفاء. وأنشد حسان:
هَجَوتَ مُحمَّدًا فأَجَبتُ عنه
…
. . . . . . . . . . . .
لم يرو مسلم أوَّل هذه القصيدة، وقد ذكرها بكمالها ابن إسحاق، وذكر أوَّلها:
عَفَت ذَاتُ الأَصَابِعِ فَالجِواءُ
…
إِلَى عَذرَاءَ مَنزِلُها خَلاءُ
فلنذكرها على ما ذكرها ابن إسحاق ونفسِّر غريبها فإنَّها قصيدة حسنة مشتملة على فوائد كثيرة.
وقوله عفت معناه: درست وتغيَّرت، وذات الأصابع والجِواء: موضعان بالشام، وعذراء: قرية عند دمشق، وإنَّما ذكر حسان هذه المواضع لأنَّه كان يردها كثيرًا على ملوك غسان يمدحهم، وكان ذلك قبل الإسلام. وخلا: خال ليس به أحد.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ديارٌ من بني الحَسحَاس قَفرٌ
…
تُعَفِّيها الرَّوامسُ والسَّماء
وكانت لا يَزَالُ بها أَنِيسٌ
…
خِلالَ مُرُوجِها نَعَمٌ وَشَاءُ
الدِّيار: المنازل. وبنو الحسحاس: قبائل معروفون، وتعفيها: تغيِّرها. والروامس: الرياح - وسُمِّيت بذلك لأنَّها ترمس الآثار، أي: تغيرها، والرمس والرسم: الأثر الخفي. والسماء: المطر. والسماء: كل ما علاك فأظلَّك. خلال: بمعنى بين. ومروج: جمع مرج، وهو الموضع المنبت للعشب المختلف الذي يختلط بعضه ببعض. والنعم: الإبل خاصة، والأنعام: يتناول الإبل والبقر والغنم، والشاء: الغنم.
فَدَع هَذَا ولَكِن مَن لِطَيفً
…
يُؤَرِّقُنِي إذا ذَهَبَ العِشاءُ
الطَّيف: ما يراه النائم في منامه، وهو في الأصل مصدر طاف الخيال يطوف طيفًا، ولم يقولوا في هذا طائف في اسم الفاعل، قال السُّهيلي: لأنه تخيُّل لا حقيقة له، فأمَّا قوله:{فَطَافَ عَلَيهَا طَائِفٌ مِن رَبِّكَ} فلا يقال فيه طيف، لأنَّه اسم فاعل حقيقة، ويقال: إنه جبريل، فأمَّا قوله تعالى:{إِذَا مَسَّهُم طَائِفٌ مِنَ الشَّيطَانِ تَذَكَّرُوا} . فمن قرأه طائف اسم فاعل فإنَّه أراد به الشيطان نفسه، ومن قرأه طيف أراد به تخيله ووسواسه، وهي لا حقيقة لها. ويؤرقني: يسهرني. إذا ذهب العشاء، أي: بعد العشاء في الوقت الذي ينام فيه الناس، يعني أنه يسهر لفكرته في الطيف أو للوعته به كلما غمض.
لِشَعثاءَ التي قد تَيَّمتهُ
…
فَلَيسَ لِقَلبِه منها شِفاءُ
قيل: إن شعثاء هذه هي ابنةُ كاهنِ امرأة حسان، ولدت له ابنته أم فراس. وتيَّمته: ذلَّلته.
كَأَنَّ سَبِيَّةً مِن بَيتِ رَأسٍ
…
يكُونُ مِزَاجَها عَسَلٌ وماءُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
السبية: الخمر. وبيت رأس: موضع فيه خمر عالية، وقيل: رأس رجل خمار نسبت إليه، ومزاجها: خلطها. وقد جعل الخبر معرفة والاسم نكرة، وهو عكس الأصل، وإنَّما جاز ذلك لأنَّ عسلًا وماءً اسمان من أسماء الأجناس، فأفاد مُنكِّره ما يفيد معرَّفه، فكأنهما معرفتان، وخبر كأن محذوف، تقديره: كأنَّ فيها سبيَّة مستلذَّة، وهذا إنما اضطر إلى ذلك من لم يرو في القصيدة قوله:
على أَنيابِها أو طَعمُ غَضًّ
…
مِنَ التُّفَّاح هَصَّرَهُ الجِناء
وذلك أن هذا البيت لم يقع في رواية ابن إسحاق، فمن صحَّ عنده هذا البيت جعل خبر كأن على أنيابها ولم يحتَج إلى تقدير ذلك المحذوف. والأنياب: هي الأسنان التي بين الضَّواحك والرُّباعيات. والغَضُّ: الطري، وهصَّره: دلَاّه وأدناه. الجناء: أي الاجتناء، وهو بكسر الجيم والمد، والجنى - بالفتح والقصر- ما يُجتنى من الشجر (1)، قال أبو القاسم السُّهيلي: وهذا البيت موضوع.
إذا ما الأَشرِباتُ ذُكِرنَ يومًا
…
فَهُنَّ لِطَيِّب الرَّاح (2) الفِدَاءُ
الأشربات: جمع أشربة، فشراب الواحد، وجمع قلته المكسر أشربة، وجمع سلامته أشربات. والراح: من أسماء الخمر، واللام هنا للعهد؛ أي: الخمر السيئة المتقدِّمة الذكر.
نُوَلِّيها المَلامَةَ إن أَلَمنا
…
إذا ما كان مغث (3) أو لِحَاءُ
ونَشرَبُها فَتَترُكُنا مُلُوكًا
…
وأُسدًا ما يُنَهنِهُنا اللِّقاءُ
ألمنا: أي أتينا ما نلام عليه. والمقتُ: مما يمقت عليه، أي يبغض
(1) في (ز): الثمرة.
(2)
في (ز): الريح.
(3)
لم يعثر في كتب اللغة على معنى المغث بما ذهب إليه الشارح. والرواية الصحيحة قطعًا هي: مغث بالغين لا مقت.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كالضرب والأذى. واللحاء: الملاحاة باللسان - يريد إن فعلنا شيئًا من ذلك اعتذرنا بالسكر، وينهنهنا: يضعفنا ويفزعنا.
عَدِمنا خَيلَنا إِن لَم تَرَوها
…
تُثِيرُ النَّقعَ مَوعِدُها كَدَاءُ
يُنَازِعنَ الأَعِنَّةَ مُصعِدَاتٍ (1)
…
على أَكتَافِها الأَسَلُ الظِّمَاءُ
الضمير في تروها عائد على الخيل وإن لم يجر لها ذكر، لكنها تفسرها الحال والمشاهدة، وتثير: تحرك. والنقع: الغبار، وكداء: التثنية التي بأعلى مكة، وكُدَى - بضم الكاف والقصر - تثنية بأسفل مكة، وقد تقدَّم ذكرهما. وينازعن: يجاذبن. والأسل: الرِّماح. والظماء: العطاش. ووصف الرماح بذلك لأنَّ حامليها يريدون أن يطعنوا أعداءهم بها فيرووها من دمائهم. ومُصعِدات: مرتفعات، ومصغيات: مائلات.
تَظَلُّ جِيَادُنا مُتَمَطِّراتٍ
…
تُلَطِّمُهُنَّ بالخُمُرِ النِّساءُ
الجياد: الخيل. متمطرات: يعني بالعرق من الجري، والرواية المشهورة يلطمهن من اللطم وهو الضرب في الخد، ويعني أن هذه الخيل لكرمهن في أنفسهن ولعزَّتهن عليهم تبادر النساء فيمسحن وجوه هذه الخيل بالخُمُر. وكان الخليل يروي هذا اللفظ يطلمهن بتقديم الطاء على اللام ويجعله بمعنى ينفض، وقال ابن دريد: الطلم ضربك خبز الملة بيدك لينتفض ما به من الرماد. ورواية مسلم لهذا الحديث ثَكِلَت بُنَيتي بدل عدمنا خيلنا. والثكل: فقد الولد. وبُنيتي: تصغير بنت. ومعنى صدر هذا البيت على الروايتين: الدعاء على نفسه إن لم يغز قريشًا. ووقع أيضًا لبعض رواة مسلم موعدها كداء، ولبعضهم غايتها بدل موعدها، والمعنى متقارب. ووقع في بعض النسخ مكان موعدها: من كنفي
(1) في (ز): مصغيات.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كداء على الإقواء (1)، وليس بشيء، إذ لا ضرورة تحوج إليه مع صحَّة الروايات المتقدِّمة، وكنفا كداء: جانباها.
فإِمَّا تُعرِضُوا عنَّا اعتَمَرنا
…
وكَانَ الفَتحُ وانكَشَفَ الغِطَاءُ
هذا يدل على أن حسان قال هذه القصيدة قبل يوم الفتح كما قال ابن هشام، وظاهره أن ذلك كان في عُمرة (2) الحديبية حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت، وقال ابن إسحاق: إن حسان قالها في فتح مكة - وفيه بُعدٌ.
وإِلا فَاصبِرُوا لِجلاد يَومٍ
…
يُعِزُ اللهُ فيهِ مَن يَشاءُ
هذا من باب إلهام العالم، لأنَّ حسان قد علم أن الله قد أعز نبيَّه، وقد قال تعالى:{وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ} وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ} الآية، وقال:{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} إلى غير ذلك، وقد دلَّ على هذا قوله بعد هذا:
وجِبرِيلُ رَسُولُ اللهِ فِينا
…
ورُوحُ القُدسِ ليسَ لَهُ كِفَاءُ
أي: لا يقاومه أحد ولا يماثله. وروح القدس: هو جبريل عليه السلام، والقدس: الطهارة، وهو معطوف على رسول الله، والكفاء: الكفو وهو المثل.
وقالَ الله قد أَرسَلتُ عَبدًا
…
يقُولُ الحقَّ إِن نَفَعَ البَلاءُ
أي الابتلاء وهو الاختبار، وقد ضمن صدر هذا البيت معنى الابتلاء، ولذلك أشار بقوله البلاء لأنَّ اللام فيه للعهد لا للجنس، فتدبَّره!
ورواية مسلم في هذا البيت:
(1)"الإقواء": هو اختلاف حركة الإعراب في القوافي. خزانة الأدب (4/ 200).
(2)
في (م 4): عام.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
. . . . . . . . .
…
يقُولُ الحَقَّ لَيسَ بِه خَفاءُ
ثم شهد حسَّان بتصديقه فقال:
شَهِدتُ به فَقُومُوا صدِّقُوه
…
فَقُلتُم لا نَقُومُ ولا نَشَاءُ
أي: لا نقوم لتصديقه ولا نريده - فعاندوا، ولما كان ذلك قال:
وقَال اللهُ قَد يَسَّرتُ جُندًا
…
هُمُ الأَنصارُ عُرضَتُها اللِّقاءُ
أي قَصدُها وهمُّها لقاؤكم وقتالكم، يعني أنهم لما ظهر عنادهم نصر الله نبيَّه بجند الأنصار، ولم يذكر المهاجرين لأنَّهم لم يظهر لهم أثر إلا عند اجتماعهم بالأنصار، والله تعالى أعلم.
لَنا فِي كُلِّ يومٍ مِن مَعَدٍّ
…
سِبَابٌ أو قِتَالٌ أو هِجاءُ
هكذا رواية ابن إسحاق، ويروى سباء من السَّبي، ومعناه واضح، فالهمزة مكان الباء، والذي في كتاب مسلم نلاقي كل يوم من معدٍّ سباب، ويعني بمعدٍّ قريشًا، نسبهم لمعدِّ بن عدنان، وأو في البيت للتنويع، ويعني بالسباب السب نثرًا، وبالهجاء السب نظمًا، والله تعالى أعلم.
وقد دلَّ عليه قوله:
فَنُحكِم بالقَوَافي مَن هَجَانا
…
ونَضرِبُ حِينَ تَختَلِطُ الدِّماءُ
فنحكم: نمنع، ويعني أنه يجيب الهاجي بأبلغ من هجائه وأصعب عليه فيمتنع من العود، ويعني باختلاط الدماء التحام الحرب ومخالطة الدماء عند الحرب.
أَلا أَبلِغ أَبا سُفيانَ عَنِّي
…
مُغَلغَلةً فقد بَرِحَ الخَفَاءُ
أبو سفيان هذا هو ابن الحارث، وهو كان الهاجي أولًا، وقد تقدَّم أنه كان أحد الشعراء. والمغلغلة: الرسالة تُحمل من بلد إلى بلد. وبرح الخفاء: أي انكشف السر وظهر المضمر - وهو مثل.
قَالَ حَسَّانُ:
هَجَوتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبتُ عَنهُ
…
وَعِندَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الجَزَاءُ
هَجَوتَ مُحَمَّدًا بَرًّا تقيًا
…
رَسُولَ اللَّهِ شِيمَتُهُ الوَفَاءُ
ــ
فإنَّ سيوفنا تَرَكَتكَ عبدًا
…
وعبد الدَّارِ ساد بها (1) الإماء
عبدًا: يعني ذليلًا ذل العبيد.
هجَوتَ محمَّدًا وأَجَبتُ عنه
…
وعِندَ اللهِ في ذاكَ الجزاءُ
الخطاب لأبي سفيان، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنشده هذا البيت قال له: جزاؤك عند الله الجنة (2).
هَجَوتَ محمَّدًا بَرًّا حَنِيفًا
…
رَسُولَ اللهِ شِيمَتُه الوفاءُ
البرُّ: التَّقي، والحنيف: المائل عن الأديان كلها إلى دين إبراهيم. والشِّيمة: السَّجيَّة والسَّليقة والخليقة والجبلَّة - كلها: الطبيعة.
وقوله:
أَتَهجُوه ولَستَ لَهُ بِكُفءٍ
…
فَشَرُّكُمَا لِخَيرِكُما الفِداءُ
هذا يتضمن الدُّعاء لإنزال المكاره بأكثر الرجلين شرًّا وإنزال الخير بأكثرهما خيرًا، وعند ذلك يتوجَّه عليه إشكال وهو أن شرًّا وخيرًا هنا للمفاضلة، والمعقول من المفاضلة اشتراك المتفاضلين فيما وقعت فيه واختصاص أحدهما بزيادة فيه، فيلزم منه أن يكون في النبي صلى الله عليه وسلم شرٌّ وهو باطل، فتعيَّن تأويل ذلك، فقال السُّهيلي: إن شرًّا هنا بمعنى أنقص. وحكي عن سيبويه أنه قال: تقول مررت برجل شرٌّ منك، أي: أنقص عن أن تكون مثله. قال السُّهيلي: ونحو منه قوله صلى الله عليه وسلم:
(1) في (ع) و (م 4): سادتها.
(2)
انظر: الأغاني (4/ 163).
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرضِي
…
لِعِرضِ مُحَمَّدٍ مِنكُم وِقَاءُ
عدمنا خيلنا إِن لَم تَرَوهَا
…
تُثِيرُ النَّقعَ مِن كَنَفَي كَدَاءِ
يُبَارِينَ الأَعِنَّةَ مُصعِدَاتٍ
…
عَلَى أَكتَافِهَا الأَسَلُ الظِّمَاءُ
تَظَلُّ جِيَادُنَا مُتَمَطِّرَاتٍ
…
تُلَطِّمُهُنَّ بِالخُمُرِ النِّسَاءُ
فَإِن أَعرَضتُمُو عَنَّا اعتَمَرنَا
…
وَكَانَ الفَتحُ وَانكَشَفَ الغِطَاءُ
وَإِلَّا فَاصبِرُوا لِضِرَابِ يَومٍ
…
يُعِزُّ اللَّهُ فِيهِ مَن يَشَاءُ
وَقَالَ اللَّهُ: قَد أَرسَلتُ عَبدًا
…
يَقُولُ الحَقَّ لَيسَ بِهِ خَفَاءُ
ــ
شرُّ صفوف الرجال آخرها (1) يريد نقصان حظهم عن حظ الصف الأول، ولا يجوز أن يريد به التفضيل في الشرِّ.
قلت: وأوضح من هذا وأبعد من الاعتراض أن يقال إن الأصل في أفعل ما ذكر، غير أن المعنى الذي يقصد به المفاضلة فيه قد يكون معنى وجوديًا، كما يقال: بياض الثلج أشدُّ من بياض العاج، وقد يكون المعنى توهُّميا بحسب زعم المخاطب، كما قال تعالى:{فَسَيَعلَمُونَ مَن هُوَ شَرٌّ مَكَانًا} ، وذلك أن الكفار زعموا أن المؤمنين شرٌّ منهم، فأجيبوا بأن قيل لهم: ستعلمون باطل زعمكم بأن تشاهدوا عاقبة من هو الموصوف بالشر، وعلى هذا يخرج معنى البيت، فإنَّهم كانوا يعتقدون في النبي صلى الله عليه وسلم شرًّا، فخاطبهم بحسب زعمهم، ودعا على الأشر من الفريقين منهما له وهو يعنيهم قطعًا، فإنَّهم هم أهل الشر، لكنهم أتاهم بدعاء نَصَف يُسكِت الظالم ويُرضي المظلوم.
وقوله:
فإنَّ أَبي ووَالِدَهُ وعِرضِي
…
لِعِرضِ محمًّدٍ مِنكُم وِقَاءُ
(1) رواه مسلم (2546)(230)، وأبو داود (678)، والترمذي (334)، والنسائي (2/ 93).
وَقَالَ اللَّهُ: قَد يَسَّرتُ جُندًا
…
هُم الأَنصَارُ عُرضَتُهَا اللِّقَاءُ
لَنَا فِي كُلِّ يَومٍ مِن مَعَدٍّ
…
سِبَابٌ أَو قِتَالٌ أَو هِجَاءُ
فَمَن يَهجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنكُم
…
وَيَمدَحُهُ وَيَنصُرُهُ سَوَاءُ
وَجِبرِيلٌ رَسُولُ اللَّهِ فِينَا
…
وَرُوحُ القُدُسِ لَيسَ لَهُ كِفَاءُ
رواه مسلم (2490).
* * *
ــ
قال ابن قتيبة: يعني بالعِرض هنا النفس، فكأنه قال: أبي وجدي ونفسي وقاية لنفس محمد. وقال غيره: بل العِرض هنا هو الحرمة التي تنتهك بالسب والغيبة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا (1).
وقوله:
لِسانِي صَارِمٌ لا عَيبَ فِيهِ
…
وبَحرِي لا تُكَدِّرُهُ الدِّلاءُ
الصَّارم: السَّيف القاطع، ولا تكدره الدِّلاء: أي لا تغيره. وهذا مثل يضرب للرجل العظيم الحليم القوي الذي لا يبالي بما يرد عليه من الأمور، وبهذا البيت كني حسان أبا الحسام رضي الله عنه وجازاه خيرًا.
* * *
(1) رواه مسلم (1218)(147)، وأبو داود (1905)، والنسائي (1/ 290)، وابن ماجه (3074).