الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَجَلَسَ وِجَاهَهُم مِن الشِّقِّ الآخَرِ.
قَالَ شَرِيكٌ: فَقَالَ سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ: فَأَوَّلتُهَا قُبُورَهُم.
رواه أحمد (4/ 393 و 406 - 407)، والبخاريُّ (3693 و 3695 و 6216)، ومسلم (2403)(28 و 29)، والترمذيُّ (3710).
* * *
(38) باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه
-
[2314]
عن سَعدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ: أَنتَ مِنِّي بِمَنزِلَةِ هَارُونَ مِن مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعدِي.
ــ
على ما قدرت علي، فيه: استسلام لأمر الله تعالى، ورضا بما قدره الله تعالى.
و(قوله: فجلس وجاههم من الشق الآخر) الشق: الجانب، يعني: أنه جلس في مقابلة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر.
و(قول سعيد: فأوَّلت ذلك قبورهم) هذا من سعيد من باب الفراسة، ومن باب ما يقع في قلوب المحدَّثين الذين قدَّمنا ذكرهم لا من باب تأويل الرؤيا، إذ كان ذلك في اليقظة، وذلك أنه لما حدَّث بكيفية جلوس الثلاثة في جهة واحدة من القُفِّ، وعثمان في مقابلتهم وقع في قلبه: أن ذلك كان إشعارًا بكيفية دفنهم، كما كان. والله تعالى أعلم.
(38)
ومن باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه
هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكنى: أبا الحسن، واسم أبي طالب: عبد مناف، وقيل: اسمه كنيته، واسم
رواه أحمد (1/ 185)، والبخاريُّ (3706)، ومسلم (2404)(30)، والترمذيُّ (3724).
ــ
هاشم عمرو، وسُمِّي هاشِمًا، لأنَّه أوَّل من هشم الثريد، وأم علي فاطمة بنت أسد بن هاشم، وهي أوَّل هاشمية ولدت لهاشمي، توفيت مسلمة قبل الهجرة، وقيل: إنها هاجرت، وكان علي أصغر ولد أبي طالب، كان أصغر من جعفر بعشر سنين، وكان جعفر أصغر من عقيل بعشر سنين. وكان عقيل أصغر من طالب بعشر سنين. وروي عن سلمان وأبي ذر والمقداد وخباب وجابر وأبي سعيد الخدري وزيد بن أرقم: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول من أسلم - يعنون من الرجال - وإلا فقد اتفق الجمهور على أن أول من أسلم وأطاع النبي صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد، وقد تقدَّم من قال: إن أول من أسلم أبو بكر رضي الله عنهم.
وقد روى أبو عمر بن عبد البر عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولكم واردًا على الحوض أولكم إسلامًا: علي بن أبي طالب (1). قيل: أسلم وهو ابن سبع سنين، وقيل: ابن ثمان. وقيل: ابن عشر. وقيل: ابن ثلاث عشرة. وقيل: ابن خمس عشرة. وقيل: ابن ثمان عشرة.
وروى سلمة بن كهيل عن حبة بن جوين العرني قال: سمعت عليًّا رضي الله عنه يقول: أنا أوَّل مَن صلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد عبدت الله قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الأمة خمس سنين.
وروي عن علي رضي الله عنه، أنه قال: مكثت مع رسول الله كذا وكذا، لا يصلِّي معه أحد غيري إلا خديجة.
وأجمعوا: على أنه رضي الله عنه صلَّى إلى القبلتين، وأنه شهد بدرًا وأحدًا، ومشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها، إلا غزوة تبوك، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتخلَّف في أهله، وقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ . وزوَّجه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدة نساء أهل الجنة،
(1) ذكره صاحب تنزيه الشريعة (1/ 377)، واللآلئ (1/ 169)، والموضوعات (1/ 347). وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فاطمة، وآخى بينه وبينه، وقال صلى الله عليه وسلم: لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق (1). وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: إنه يحبُه الله ورسوله، وإنَّه يحبُّ الله ورسوله.
وكان رضي الله عنه قد خُصَّ من العلم، والشجاعة، والحلم، والزهد، والورع، ومكارم الأخلاق ما لا يسعه كتاب، ولا يحويه حصر حساب. بويع له بالخلافة يوم مقتل عثمان، واجتمع على بيعته أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار، إلا نفرًا منهم، فلم يكرههم، وسئل عنهم فقال: أولئك قوم خذلوا الحق، ولم يعضدوا الباطل. وتخلف عن بيعته معاوية ومن معه من أهل الشام، وجرت عند ذلك خطوب لا يمكن حصرها، والتحمت حروب لم يسمع في المسلمين بمثلها، ولم تزل ألويته (2) منصورة عالية على الفئة الباغية إلى أن جرت قضيه التحكيم، وخدع فيها ذو القلب السليم، وحينئذ خرجت الخوارج، فكفَّروه وكلَّ من معه، وقالوا: حكَّمت الرجال في دين الله، والله تعالى يقول:{إِنِ الحُكمُ إِلا لِلَّهِ} ثم اجتمعوا وشقُّوا عصا المسلمين، ونصبوا راية الخلاف، وسفكوا الدماء، وقطعوا السبيل، فخرج إليهم علي بمن معه، ورام رجوعهم فأبوا إلا القتال، فقاتلهم بالنهروان، فقتلهم واستأصل جميعهم، ولم ينج منهم إلا اليسير، وقد تقدَّم قوله صلى الله عليه وسلم: يقتلهم أولى الطائفتين بالحق (3) ثم انتدب إليه رجل من بقايا الخوارج يقال له: عبد الرحمن بن ملجم. قال الزبير: كان من حِمير فأصاب دماء فيهم، فلجأ إلى مراد، فنسب إليهم، فدخل (على علي)(4) في
(1) رواه ابن عساكر في تاريخه (4/ 131) باللفظ المذكور. ورواه الترمذي (3736)، والنسائي (8/ 116) بلفظ:"لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق".
(2)
في (م 4): فئته.
(3)
رواه مسلم (1064)(149).
(4)
في (ز) و (م 3): عليه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مسجده بالكوفة. فقتله ليلة الجمعة، [وقيل: في صلاة صبحها] (1)، وقيل: لإحدى عشرة ليلة خلت من رمضان. [وقيل: لثلاث عشرة. وقيل: لثمان عشرة. وقيل: في أول ليلة من العشر الآخر من رمضان](2) سنة أربعين. واختلف في موضع قبره اختلافًا كثيرًا يدلّ على عدم العلم به، وأنه مجهول. وكذلك اختلف في سِنِّه يوم قتل. فقيل: ابن سبع وخمسين إلى خمس وستين سنة. وكانت مدة خلافته أربع سنين وستة أشهر، وستة أيام. وقيل: ثلاثة. وقيل: أربعة عشر يومًا. فأُخِذ عبد الرحمن بن ملجم، فقُتِل أشقى هذه الأمة. وكان علي رضي الله عنه إذا رآه يقول:
أريدُ حَيَاتَهُ ويُرِيدُ قَتلِي
…
عَذِيرَكَ مِن خَلِيلِكَ مِن مُرادِ (3)
وكان يقول: ما يمنع أشقاها، أو: ما ينتظر أشقاها أن يخضبَ هذه من هذا، والله ليخضبنَّ هذه من دم هذا - ويشير إلى لحيته ورأسه - خضاب دمٍ، لا خضاب حناء ولا عبير.
وقد روى النسائي وغيره من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال لعلي رضي الله عنه: أشقى الناس الذي عقر الناقة، والذي يضربك على هذا- ووضع يده على رأسه - حتى يخضب هذه (4) يعني: لحيته.
وتأخر موته رضي الله عنه ولا رضي عن قاتله - عن ضربه نحو الثلاثة الأيام. جملة ما حفظ له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثًا،
(1) ما بين حاصرتين زيادة في (ع) و (م 4).
(2)
ما بين حاصرتين سقط من (ع).
(3)
البيت لعمرو بن معدي كرب. ورُوي أيضًا: أريد حِباءه. (الطبري 3/ 365).
(4)
ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/ 531)، وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه والبغوي وأبو نعيم في الدلائل.
[2315]
وعنه قال: أَمَرَ مُعَاوِيَةُ بنُ أَبِي سُفيَانَ سَعدًا فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَن تَسُبَّ أَبَا التُّرَابِ؟ فَقَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرتُ ثَلَاثًا قَالَهُنَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَن أَسُبَّهُ، لَأَن تَكُونَ لِي وَاحِدَةٌ مِنهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن حُمرِ النَّعَمِ، سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَهُ - وخَلَّفَهُ فِي بَعضِ مَغَازِيهِ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَلَّفتَنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبيَانِ؟ - فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
ــ
مثل أحاديث عمر رضي الله عنهما أخرج له منها في الصحيحين أربعة وأربعون حديثًا.
و(قول معاوية لسعد بن أبي وقاص: ما منعك أن تسبَّ أبا تراب) يدل: على أن مقدم بني أميَّة كانوا يسبُّون عليًّا وينتقصونه، وذلك كان منهم لما وقر في أنفسهم من أنه أعان على قتل عثمان، وأنه أسلمه لمن قتله، بناء منهم على أنه كان بالمدينة، وأنه كان متمكنًا من نصرته. وكل ذلك ظن كذب، وتأويل باطل غطَّى التعصُّب منه وجه الصَّواب. وقد قدمنا: أن عليًّا رضي الله عنه أقسم بالله: أنه ما قتله، ولا مالأ على قتله، ولا رضيه. ولم يقل أحدٌ من النقلة (1) قط، ولا سمع من أحد: أن عليًّا كان مع القتلة، ولا أنه دخل معهم الدَّار عليه. وأما ترك نصرته، فعثمان رضي الله عنه أسلم نفسه، ومنع من نصرته، كما ذكرناه في بابه. ومِمَّا تشبَّثوا به: أنهم نسبوا عليًّا إلى ترك أخذ القصاص من قتلة عثمان، وإلى أنه منعهم منهم، وأنَّه قام دونهم. وكل ذلك أقوال كاذبة أنتجت ظنونًا غير صائبة، ترتب عليها ذلك البلاء كما سبق به القضاء.
و(قوله: في بعض مغازيه) قد قلنا: إنها كانت غزوة تبوك خلَّفه النبي صلى الله عليه وسلم في أهله، واستخلفه على المدينة، فيما قيل. ولما صعب على علي رضي الله عنه تخلَّفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق عليه، سكَّنه النبي صلى الله عليه وسلم وآنسه بقوله: أما ترضى أن
(1) في (م 4): أهل العلم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ وذلك: أن موسى عليه السلام لما عزم على الذهاب لما وعده الله به من المناجاة قال لهارون: {اخلُفنِي فِي قَومِي وَأَصلِح}
وقد استدل بهذا الحديث الرَّوافض، والإمامية، وسائر فرق الشيعة: على أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف عليًّا رضي الله عنه على جميع الأمة. فأمَّا الرَّوافض فقد كفَّروا الصَّحابة كلهم، لأنَّهم عندهم تركوا العمل بالحق الذي هو النَّصُّ على استخلاف علي رضي الله عنه واستخلفوا غيره بالاجتهاد. ومنهم من كفَّر عليًّا رضي الله عنه لأنه لم يطلب (1) حقَّه. وهؤلاء لا يشك في كفرهم، لأنَّ من كفر الأمَّة كلها والصَّدر الأول، فقد أبطل نقل الشريعة، وهدم الإسلام. وأما غيرهم من الفرق فلم يرتكب أحدٌ منهم هذه المقالة الشنعاء القبيحة القصعاء (2)، ومن ارتكبها منهم ألحقناه بمن تقدَّم في التكفير ومأواه جهنم وبئس المصير، وعلى الجملة فلا حجَّة لأحدٍ منهم في هذا الحديث، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إنما استنابه في أمر خاص وفي وقت خاص، كما استناب موسى هارون عليهما السلام في وقت خاص، فلما رجع موسى عليه السلام من مناجاته، عاد هارون إلى أول حالاته، على أنه قد كان هارون شُرك مع موسى في أصل الرسالة، فلا تكون لهم فيما راموه (3) دلالة. وغاية هذا الحديث أن يدلّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استخلف عليًّا رضي الله عنه على المدينة فقط، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك قعد مقعده، وعاد علي رضي الله عنه إلى ما كان عليه قبل. وهذا كما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم وغيره، ولا يلزم من ذلك استخلافه دائمًا بالاتفاق.
(1) في (م 4): يقم بطلب.
(2)
في (م 4): الغضَّاء.
(3)
في (م 4): فلا يكون لهم فيه على ما راموه.
أَمَا تَرضَى أَن تَكُونَ مِنِّي بِمَنزِلَةِ هَارُونَ مِن مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نُبُوَّةَ بَعدِي، وَسَمِعتُهُ يَقُولُ يَومَ خَيبَرَ: لَأُعطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: فَتَطَاوَلنَا لَهَا فَقَالَ: ادعُوا لِي عَلِيًّا، فَأُتِيَ بِهِ أَرمَدَ، فَبَصَقَ فِي عَينِيهِ، وَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَيهِ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيهِ، وَلَمَّا نَزَلَت هَذِهِ الآيَةُ:{فَقُل تَعَالَوا نَدعُ أَبنَاءَنَا وَأَبنَاءَكُم} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَينًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ! هَؤُلَاءِ أَهلِي.
رواه أحمد (1/ 182)، والبخاريُّ (4416)، ومسلم (2404)(32).
[2316]
وعن سَهلُ بنُ سَعدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَومَ خَيبَرَ: لَأُعطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلًا يَفتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ
ــ
و(قوله: غير أنه لا نبي بعدي) إنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرًا مما وقعت فيه طائفة من غلاة الرَّافضة، فإنَّهم قالوا: إن عليًّا نبي يوحى إليه. وقد تناهى بعضهم في الغلو إلى أن صار في علي إلى ما صارت إليه النصارى في المسيح، فقالوا: إنه الإله. وقد حرَّق علي رضي الله عنه من قال ذلك، فافتتن بذلك جماعة منهم، وزادهم ضلالًا، وقالوا: الآن تحققنا: أنه الله، لأنَّه لا يعذب بالنار إلا الله. وهذه كلها أقوال عوام، جهَّال، سخفاء العقول، لا يُبالي أحدهم بما يقول، فلا ينفع معهم البرهان، لكن السَّيف والسَّنان.
و(قوله: لأعطين الرَّاية رجلًا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله) الكلام إلى آخره فيه دليلان على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهي: إخباره عن فتح خيبر، ووقوعه على نحو ما أخبر. وبرء رمد عين علي رضي الله عنه على (1)
(1) ليست في (م 4).
وَرَسُولُهُ قَالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيلَتَهُم أَيُّهُم يُعطَاهَا، فَلَمَّا أَصبَحَ النَّاسُ غَدَوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُم يَرجُونَ أَن يُعطَاهَا، فَقَالَ: أَينَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ؟ فَقَالُوا: هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشتَكِي عَينَيهِ، قَالَ: فَأَرسِلُوا إِلَيهِ فَأُتِيَ بِهِ، فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَينَيهِ، وَدَعَا لَهُ، فَبَرَأَ حَتَّى كَأَن لَم يَكُن بِهِ وَجَعٌ، فَأَعطَاهُ الرَّايَةَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُم حَتَّى يَكُونُوا مِثلَنَا؟ ! قَالَ: انفُذ عَلَى رِسلِكَ حَتَّى تَنزِلَ بِسَاحَتِهِم،
ــ
فور دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. وفي غير كتاب مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم مسح على عيني علي رضي الله عنه ورقاه.
وفيه من الفقه: جواز بالحق إذا لم تخش على الممدوح فتنة. وقد تقدَّم القول في محبة الله.
وفيه ما يدل: على أن الأولى بدفع الراية إليه من اجتمع له الرئاسة، والشجاعة، وكمال العقل.
و(قوله: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يُعطاها) أي: يتفاوضون بحيث اختلطت أقوالهم (1) فيمن يعطاها. يقال: بات القوم يدوكون دوكًا، أي: في اختلاط ودوران، ووقعوا في دوكة - بفتح الدَّال وضمها - وإنما فعلوا ذلك حرصًا على نيل هذه الرتبة الشريفة، والمنزلة الرَّفيعة، التي لا شيء أشرف منها.
و(قول علي رضي الله عنه: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ معناه: حتى يدخلوا في ديننا فيصيروا مثلنا فيه.
و(قوله: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم) أي: امض لوجهك مُترفقًا متثبِّتًا. وقد جاء مفسَّرًا في رواية أخرى قال فيه: امش ولا تلتفت وقد تقدَّم القول في رَسلك. والسَّاحة: الناحية.
(1) في (م 3) و (ز): أحوالهم.
ثُمَّ ادعُهُم إِلَى الإِسلَامِ، وَأَخبِرهُم بِمَا يَجِبُ عَلَيهِم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأَن يَهدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيرٌ لَكَ مِن أَن يَكُونَ لَكَ حُمرُ النَّعَمِ.
رواه أحمد (5/ 333)، والبخاري (3009)، ومسلم (2406)، وأبو داود (3661).
ــ
و(قوله: ثمَّ ادعهم إلى الإسلام، وأعلمهم (1) بما يجب عليهم من حق الله فيه) هذه الدَّعوة قبل القتال، التي تقدَّم القول فيها في الجهاد، وقد فسَّرها في الرواية الأخرى في الأم قال: فصرخ علي: يا رسول الله! على ماذا أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمَّدًا رسول الله، فإذا فعلوا فقد منعوا منا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله فهذا هو حق الله المذكور في الرواية المتقدِّمة.
و(قوله: فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حمر النَّعم) حض عظيم على تعليم العلم وبثه في الناس، وعلى الوعظ والتذكير بالدار الآخرة والخير، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير (2).
والهداية: الدَّلالة والإرشاد. والنَّعم: هي الإبل، وحمرها هي خيارها حسنًا وقوة ونفاسة، لأنَّها أفضل عند العرب، ويعني به - والله أعلم - أن ثواب تعليم رجل واحد، وإرشاده للخير أعظم من ثواب هذه الإبل النفيسة لو كانت لك فتصدقت بها، لأنَّ ثواب تلك الصدقة ينقطع بموتها، وثواب العلم والهدى لا ينقطع إلى يوم القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة فذكر منها: علم ينتفع به (3). وفي نوم علي ـ رضي الله
(1) في صحيح مسلم والتلخيص: وأخبرهم.
(2)
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 124): رواه الطبراني في الكبير، وفيه القاسم أبو عبد الرحمن، وثقه البخاري، وضعفه أحمد.
(3)
رواه أحمد (2/ 372)، ومسلم (1631)، والترمذي (1376)، والنسائي (6/ 251).
[2317]
وعنه قَالَ: استُعمِلَ عَلَى المَدِينَةِ رَجُلٌ مِن آلِ مَروَانَ قَالَ: فَدَعَا سَهلَ بنَ سَعدٍ فَأَمَرَهُ أَن يَشتِمَ عَلِيًّا، قَالَ: فَأَبَى سَهلٌ، فَقَالَ لَهُ: أَمَّا إِذ أَبَيتَ فَقُل: لَعَنَ اللَّهُ أَبَا التُّرَابِ، فَقَالَ سَهلٌ: مَا كَانَ لِعَلِيٍّ اسمٌ أَحَبَّ إِلَيهِ مِن أَبِي التُّرَابِ، وَإِن كَانَ لَيَفرَحُ إِذَا دُعِيَ بِهَا، فَقَالَ لَهُ: أَخبِرنَا
ــ
عنه ـ في المسجد، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له على ذلك: دليل على جواز ذلك للمتأهل الذي له منزل، وبه قال بعضُ أهل العلم، وكرهه مالك من غير ضرورة، وأجازه للغرباء، لأنَّهم في حاجة وضرورة، وقد تقدَّم ذلك في كتاب الصلاة. ومسح النبي صلى الله عليه وسلم جَنب علي من التراب، وهو يقول: قم أبا التراب، قم أبا التراب دليل على محبته له، وشفقته عليه، ولطفه به، ولذلك كان ذلك الاسم أحب إلى علي رضي الله عنه من كل ما يدعى به، فيا عجبًا من بني أمية كيف صيَّروا الفضائل رذائل، والمناقب معايب، لكن غلبة الأهواء تعوِّض الظلمة من الضياء، وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر بإسناده إلى ضرار الصُّدائي: وقال له معاوية: صف لي عليًّا، فقال: اعفني يا أمير المؤمنين! قال: صفه. قال: أما إذ ولا بد من وصفه، فكان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلًا، ويحكم عدلًا، يتفجَّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس من الليل ووحشته، وكان غزير الدَّمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويفتينا إذا استفتيناه، ونحن - والله - مع تقريبه إيانا، وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يُعظم أهل الدِّين، ويُقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضًا على لحيته يتملل تملل السَّليم (1)، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غُرِّي غيري،
(1)"السليم": اللديغ، والجريح الذي أشرف على الهلاك، كأنهم يتفاءلون له بالسلامة.
عَن قِصَّتِهِ لِمَ سُمِّيَ أَبَا تُرَابٍ؟ قَالَ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيتَ فَاطِمَةَ ف لَم يَجِد عَلِيًّا فِي البَيتِ، فَقَالَ: أَينَ ابنُ عَمِّكِ؟ فَقَالَت: كَانَ بَينِي وَبَينَهُ شَيءٌ فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فَلَم يَقِل عِندِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِنسَانٍ: انظُر أَينَ هُوَ؟ فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هُوَ فِي المَسجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُضطَجِعٌ قَد سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَن شِقِّهِ فَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمسَحُهُ عَنهُ، وَيَقُولُ: قُم أَبَا التُّرَابِ! قُم أَبَا التُّرَابِ!
رواه البخاريُّ (6280)، ومسلم (2409).
* * *
ــ
ألي تعرضت؟ أم إلي تشوَّفت، هيهات هيهات! قد بتتك ثلاثًا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك قليل، آه قلة الزاد، وبُعد السفر، ووحشة الطريق، فبكى معاوية، وقال: رحم الله أبا حسن! كان والله كذلك، كيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح واحدها في حجرها.
قلت: وهذا الحديث: يدل على معرفة معاوية بفضل علي رضي الله عنه ومنزلته، وعظيم حقه، ومكانته، وعند ذلك يبعد على معاوية أن يصرح بلعنه وسبه، لما كان معاوية موصوفًا به من الفضل والدين، والحلم، وكرم الأخلاق، وما يروى عنه من ذلك فأكثره كذب لا يصح. وأصح ما فيها قوله لسعد بن أبي وقاص: ما يمنعك أن تسب أبا التراب؟ وهذا ليس بتصريح بالسب، وإنَّما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج ما عنده من ذلك، أو من نقيضه، كما قد ظهر من جوابه، ولما سمع ذلك معاوية سكت، وأذعن، وعرف الحق لمستحقه، ولو سلمنا: أن ذلك من معاوية حمل على السَّب، فإنَّه يحتمل أن يكون طلب منه أن يسبَّه بتقصير في اجتهاد، في إسلام عثمان لقاتليه، أو في إقدامه على الحرب والقتال للمسلمين، وما أشبه ذلك مما يمكن أن يقصر بمثله من أهل الفضل، وأما