الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(15) باب النهي عن دعوى الجاهلية
[2492]
عن جَابِرَ قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِن المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِن الأَنصَارِ فَقَالَ الأَنصَارِيُّ: يَا لَلأَنصَارِ! وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلمُهَاجِرِينَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا بَالُ دَعوَى الجَاهِلِيَّةِ؟ قال: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِن المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِن الأَنصَارِ، فَقَالَ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنتِنَةٌ، فَسَمِعَهَا عَبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ، فَقَالَ: قَد فَعَلُوهَا وَاللَّهِ! لَئِن رَجَعنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنهَا الأَذَلَّ. قَالَ عُمَرُ: دَعنِي أَضرِبُ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ، فَقَالَ: دَعهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقتُلُ أَصحَابَهُ.
ــ
الله من دعوى الجاهلية دعوى المسلمين، فينادى: يا للمسلمين! كما قال صلى الله عليه وسلم: فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين (1). وكما نادى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين طعن: يا لله! يا للمسلمين! . فإذا دعا بها المسلم وجبت إجابته، والكشف عن أمره على كل من سمعه؟ فإن ظهر أنه مظلوم نصر بكل وجه ممكن شرعي؛ لأنه إنما دعا للمسلمين لينصروه على الحق. وإن كان ظالما كف عن الظلم بالملاطفة والرفق، فإنَّ نفع ذلك، وإلا أخذ على يده، وكف عن ظلمه؛ فإنَّ الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه: أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده، ثم يدعونه فلا يستجاب لهم.
و(قوله صلى الله عليه وسلم لعمر حين قال: دعني أضرب عنق هذا المنافق: لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) دليل على: أن المنافقين الذين علم نفاقهم في
(1) ينظر تخريج الحديث السابق.
رواه أحمد (3/ 338)، والبخاريُّ (3518)، ومسلم (2584)(63)، والترمذي (3315)، والنسائي في الكبرى (8863).
* * *
ــ
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مستحقين للقتل، لكن امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك؛ لئلا يكون قتلهم منفرا لغيرهم عن الدخول في الإسلام، لأنَّ العرب كانوا أهل أنفة وكبر بحيث لو قتل النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء المنافقين لنفر من بعد عنهم، فيمتنع من الدخول في الدين، وقالوا: هو يقتل أصحابه، ولغضب من قرب من هؤلاء المنافقين (1)، فتهيج الحروب وتكثر الفتن، ويمتنع من الدخول في الدين، وهو نقيض المقصود، فعفا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، ورفق بهم، وصبر على جفائهم وأذاهم، وأحسن إليهم حتى انشرح صدر من أراد الله هدايته، فرسخ في قلبه الإيمان، وتبين له الحق اليقين.
وهلك عن بينة من أراد الله هلاكه، وكان من الخاسرين. ثم أقام النبي صلى الله عليه وسلم مستصحبا لذلك إلى أن توفاه الله تعالى، فذهب النفاق وحكمه، لأنَّه ارتفع مسماه واسمه. ولذلك قال مالك: النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة عندنا اليوم، ويظهر من مذهبه: أن ذلك الحكم منسوخ بقوله تعالى: {لَئِن لَم يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ} إلى قوله تعالى: {وَقُتِّلُوا تَقتِيلا} وبقوله: {جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ} فقد سوى بينهما في الأمر بالجهاد، وجهاد الكفار: قتالهم وقتلهم، فليكن جهاد المنافقين كذلك (2).
وفي الآيتين مباحث ليس هذا موضعها، وقد ذهب غير واحد من أئمتنا إلى أن المنافقين يعفى عنهم ما لم يظهروا نفاقهم؛ فإن أظهروه قتلوا، وهذا أيضًا يخالف ما جرى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن منهم من أظهر نفاقه، واشتهر عنه حتى عرف به، والله أعلم بنفاقه، ومع ذلك لم يقتلوا لما ذكرناه، والله تعالى أعلم.
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ع) و (ز).
(2)
ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقد وضح من هذا الحديث إبطال قول من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين، لأنَّه لم تقم بينة معتبرة بنفاقهم؛ إذ قد نص فيه على المانع من ذلك، وهو غير ما قالوه. وفيه ما يدلّ على أن أهون الشرين يجوز العمل على مقتضاه إذا اندفع به الشر الأعظم. وفيه دليل على القول بصحة الذرائع، وعلى تعليل نفي الأحكام في بعض الصور بمناسبٍ لذلك النفي.
(قوله: أتدرون ما المفلس؟ ) كذا صحت الرواية بـ (ما) فقد وقعت هنا على من يعقل، وأصلها لما لا يعقل. والمفلس: اسم فاعل من أفلس: إذا صار مفلسا، أي: افتقر، وكأنه صارت دراهمه فلوسا، كما يقال: أجبن الرجل: إذا صار أصحابه جبناء، وأقطف: إذا صارت دابته قطوفا (1)، ويجوز أن يراد به: إنه صار الرجل يقال فيه: ليس معه فلس، كما يقال: أقهر الرجل: إذا صار إلى حال يُقهر عليها، وأذل الرجل: إذا صار إلى حال يُذل فيها، وقد فلّسه القاضي تفليسا: نادى عليه: أنه أفلس.
و(قوله: المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة. . . الحديث) أي: هذا أحق باسم المفلس؛ إذ تؤخذ منه أعماله التي تعب في تصحيحها بشروطها، حتى قُبلت منه، فلما كان وقت فقره إليها أُخذت منه، ثم طُرح في النار. فلا إفلاس أعظم من هذا، ولا أخسر صفقة ممن هذه حاله، ففيه ما يدلّ على وجوب السعي في التخلص من حقوق الناس في الدنيا بكل ممكن، والاجتهاد في ذلك، فإن لم يجد إلى ذلك سبيلا، فالإكثار من الأعمال الصالحة، فلعله بعد أخذ ما عليه تبقى له بقية راجحة، والمرجو من كرم الكريم لمن صحت في الأداء نيته، وعجزت عن ذلك قدرته أن يرضي الله عنه خصومه، فيغفر للمطالب والمطلوب، ويوصلهم إلى أفضل محبوب، وقد تقدَّم ذكر من قال: إن الصوم
(1) أي بطيئة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لا يؤخذ مما عليه من الحقوق، وبينا ما يرد عليه، وبماذا ينفصل عنه.
و(قوله: لتؤدُّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة) هذا جواب قسم محذوف، كأنه قال: والله لتؤدّن. والحقوق: جمع حق، وهو ما يحق على الإنسان أن يؤديه، وهو يعم حقوق الأبدان، والأموال، والأعراض، وصغير ذلك وكبيره. كما قال تعالى:{وَيَقُولُونَ يَا وَيلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحصَاهَا} وكما قال: {وَإِن كَانَ مِثقَالَ حَبَّةٍ مِن خَردَلٍ أَتَينَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}
و(قوله: حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) والجلحاء: هي التي لا قرون لها. وكبش أجلح، وشاة جلحاء. ويقاد: من القود، أي: القصاص. وقد حكي أن أبا هريرة رضي الله عنه حمل هذا الحديث على ظاهره، فقال: يؤتى بالبهائم فيقال لها: كوني ترابا، وذلك بعدما يقاد للجماء (1) من القرناء، وحينئذ:{وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيتَنِي كُنتُ تُرَابًا} وقد قيل في معنى الحديث: إن المقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص، والإغياء فيه حتى يفهم منه: أنه لا بد لكل أحد منه، وأنه لا محيص له عنه، ويتأيد هذا بما جاء في هذا الحديث عن بعض رواته من الزيادة، فقال: حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء، وللحجر لم ركب على الحجر وعلى العود خدش العود فظهر من هذا: أن المقصود منه التمثيل المفيد للإغياء والتهويل، لأنَّ الجمادات لا يعقل خطابها ولا ثوابها ولا عقابها، ولم يصر إليه أحد من العقلاء، ومتخيله من جملة المعتوهين الأغبياء، ونظير هذا التمثيل قوله تعالى:{وَلَو أَنَّ قُرآنًا سُيِّرَت بِهِ الجِبَالُ} وقوله: {لَو أَنزَلنَا هَذَا القُرآنَ عَلَى جَبَلٍ} الآية، فتدبر وجه التنظير، والله بحقائق الأمور عليم خبير.
(1) في (ز): الجلحاء.