المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(15) باب النهي عن دعوى الجاهلية - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - جـ ٦

[أبو العباس القرطبي]

فهرس الكتاب

- ‌(32) كتاب الرؤيا

- ‌(1) باب الرؤيا الصادقة من الله والحلم من الشيطان وما يفعل عند رؤية ما يكره

- ‌(2) باب أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا

- ‌(3) باب الرؤيا الصالحة جزء من أجزاء النبوة

- ‌(4) باب رؤية النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(5) باب لا يخبر بتلعب الشيطان به

- ‌(6) باب استدعاء العابر ما يعبر، وتعبير من لم يسأل

- ‌(7) باب فيما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه

- ‌(33) كتاب النبوات وفضائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌(1) باب كونه مختارا من خيار الناس في الدنيا وسيدهم يوم القيامة

- ‌(2) باب من شواهد نبوته صلى الله عليه وسلم وبركته

- ‌(3) باب في عصمة الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام ممن أراد قتله

- ‌(4) باب ذكر بعض كرامات رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال هجرته وفي غيرها

- ‌(5) باب مثل ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم

- ‌(6) باب مثل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأنبياء

- ‌(7) باب إذا رحم الله أمة قبض نبيها قبلها

- ‌(8) باب ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من الحوض المورود ومن أنه أعطي مفاتيح خزائن الأرض

- ‌(9) باب في عظم حوض النبي صلى الله عليه وسلم ومقداره وكبره وآنيته

- ‌(10) باب شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وإمداده بالملائكة

- ‌(11) باب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وأحسن الناس خلقا

- ‌(12) باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا وقال: لا. وفي كثرة عطائه

- ‌(13) باب في رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم للصبيان والعيال والرقيق

- ‌(14) باب في شدة حياء النبي صلى الله عليه وسلم وكيفية ضحكه

- ‌(15) باب بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الإثم، وقيامه لمحارم الله عز وجل، وصيانته عما كانت عليه الجاهلية من صغره

- ‌(16) باب طيب رائحة النبي صلى الله عليه وسلم وعرقه ولين مسه

- ‌(17) باب في شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيفيته

- ‌(18) باب في شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخضابه

- ‌(19) باب في حسن أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(20) باب في خاتم النبوة

- ‌(21) باب كم كان سن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قبض؟وكم أقام بمكة

- ‌(22) باب عدد أسماء النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(23) باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالله وأشدهم له خشية

- ‌(24) باب وجوب الإذعان لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم والانتهاء عما نهى عنه

- ‌(25) باب ترك الإكثار من مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم توقيرا له واحتراما

- ‌(26) باب عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخطأ فيما يبلغه عن الله تعالى

- ‌(27) باب كيف كان يأتيه الوحي

- ‌(28) باب في ذكر عيسى ابن مريم عليهما السلام

- ‌(29) باب في ذكر إبراهيم عليه السلام

- ‌(30) باب

- ‌(31) باب قصة موسى مع الخضر عليه السلام

- ‌(32) باب في وفاة موسى عليه السلام

- ‌(33) باب في ذكر يونس ويوسف وزكريا عليهم السلام

- ‌(34) باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تخيروا بين الأنبياء

- ‌(35) باب فضائل أبي بكر الصديق واستخلافه رضي الله عنه

- ‌(36) باب فضائل عمر بن الخطاب

- ‌(37) باب فضائل عثمان رضي الله عنه

- ‌(38) باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌(39) باب فضائل سعد بن أبي وقاص

- ‌(40) باب فضائل طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم

- ‌(41) باب فضائل الحسن والحسين

- ‌(42) باب فضائل أهل البيت رضي الله عنهم

- ‌(43) باب فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد

- ‌(44) باب فضائل عبد الله بن جعفر

- ‌(45) باب فضائل خديجة بنت خويلد

- ‌(46) باب فضائل عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ومريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون

- ‌(47) باب ذكر حديث أم زرع

- ‌(48) باب فضائل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(49) باب فضائل أم سلمة وزينب زوجي النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(50) باب فضائل أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه وسلم وأم سليم، أم أنس بن مالك

- ‌(51) باب فضائل أبي طلحة الأنصار

- ‌(52) باب فضائل بلال بن رباح

- ‌(53) باب فضائل عبد الله بن مسعود

- ‌(54) باب فضائل أبي بن كعب

- ‌(55) باب فضائل سعد بن معاذ

- ‌(56) باب فضائل أبي دجانة سماك بن خرشة، وعبد الله بن عمرو بن حرام

- ‌(57) باب فضائل جليبيب

- ‌(58) باب فضائل أبي ذر الغفاري

- ‌(59) باب فضائل جرير بن عبد الله رضي الله عنه

- ‌(60) باب فضائل عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر

- ‌(61) باب فضائل أنس بن مالك

- ‌(62) باب فضائل عبد الله بن سلام

- ‌(63) باب فضائل حسان بن ثابت

- ‌(64) باب فضائل أبي هريرة رضي الله عنه

- ‌(65) باب قصة حاطب بن أبي بلتعة وفضل أهل بدر وأصحاب الشجرة

- ‌(66) باب في فضائل أبي موسى الأشعري والأشعريين

- ‌(67) باب فضائل أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه

- ‌(68) باب فضائل جعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عميس وأصحاب السفينة

- ‌(69) باب فضائل سلمان وصهيب رضي الله عنهما

- ‌(70) باب فضائل الأنصار رضي الله عنهم

- ‌(71) باب خير دور الأنصار رضي الله عنهم

- ‌(72) باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لغفار وأسلم

- ‌(73) باب فضل مزينة وجهينة وأشجع وبني عبد الله

- ‌(74) باب ما ذكر في طيئ ودوس

- ‌(75) باب ما ذكر في بني تميم

- ‌(76) باب خيار الناس

- ‌(77) باب ما ورد في نساء قريش

- ‌(78) باب في المؤاخاة التي كانت بين المهاجرين والأنصار

- ‌(79) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أمنة لأصحابي وأصحابي أمنة لأمتي

- ‌(80) باب خير القرون قرن الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم

- ‌(81) باب وجوب احترام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والنهي عن سبهم

- ‌(82) باب ما ذكر في فضل أويس القرني رضي الله عنه

- ‌(83) باب ما ذكر في مصر وأهلها وفي عمان

- ‌(84) باب في ثقيف كذاب ومبير

- ‌(85) باب ما ذكر في فارس

- ‌(86) باب

- ‌(34) كتاب البر والصلة

- ‌(1) باب في بر الوالدين وما للأم من البر

- ‌(2) باب ما يتقى من دعاء الأم

- ‌(3) باب المبالغة في بر الوالدين عند الكبر وبر أهل ودهما

- ‌(4) باب في البر والإثم

- ‌(5) باب في وجوب صلة الرحم وثوابها

- ‌(6) باب النهي عن التحاسد والتدابر والتباغض وإلى كم تجوز الهجرة

- ‌(7) باب النهي عن التجسس والتنافس والظن السيئ وما يحرم على المسلم من المسلم

- ‌(8) باب لا يغفر للمتشاحنين حتى يصطلحا

- ‌(9) باب التحاب والتزاور في الله عز وجل

- ‌(10) باب في ثواب المرضى وذوي الآفات إذا صبروا

- ‌(11) باب الترغيب في عيادة المرضى وفعل الخير

- ‌(12) باب تحريم الظلم والتحذير منه وأخذ الظالم

- ‌(13) باب الأخذ على يد الظالم ونصر المظلوم

- ‌(14) باب من استطال حقوق الناس اقتص من حسناته يوم القيامة

- ‌(15) باب النهي عن دعوى الجاهلية

- ‌(16) باب مثل المؤمنين

- ‌(17) باب تحريم السباب والغيبة ومن تجوز غيبته

- ‌(18) باب الترغيب في العفو والستر على المسلم

- ‌(19) باب الحث على الرفق ومن حرمه حرم الخير

- ‌(20) باب لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعانا والتغليظ على من لعن بهيمة

- ‌(21) باب لم يبعث النبي صلى الله عليه وسلم لعانا وإنما بعث رحمة، وما جاء من أن دعاءه على المسلم أو سبه له طهور وزكاة ورحمة

- ‌(22) باب ما ذكر في ذي الوجهين وفي النميمة

- ‌(23) باب الأمر بالصدق والتحذير عن الكذب وما يباح منه

- ‌(24) باب ما يقال عند الغضب ومدح من يملك نفسه عنده

- ‌(25) باب النهي عن ضرب الوجه وفي وعيد الذين يعذبون الناس

- ‌(26) باب النهي أن يشير الرجل بالسلاح على أخيه والأمر بإمساك السلاح بنصولها

- ‌(27) باب ثواب من نحى الأذى عن طريق المسلمين

- ‌(28) باب عذبت امرأة في هرة

- ‌(29) باب في عذاب المتكبر والمتألي على الله، وإثم من قال: هلك الناس، ومدح المتواضع الخامل

- ‌(30) باب الوصية بالجار وتعاهده بالإحسان

- ‌(31) بَابُ فضل السعي على الأَرمَلَةِ وكفالة اليَتِيمِ

- ‌(32) باب التحذير من الرياء والسمعة ومن كثرة الكلام ومن الإجهار

- ‌(33) بَابُ تغليظ عُقُوبَةِ مَن أمر بِمَعرُوف وَلم يَأته وَنهَى عَن المُنكَرِ وأتاه

- ‌(34) بَابُ في تَشمِيتِ العَاطِسِ إذا حمد الله تعالى

- ‌(35) باب في التثاؤب وكظمه

- ‌(36) باب كراهية المدح وفي حثو التراب في وجوه المداحين

- ‌(37) باب ما جاء أن أمر المسلم كله له خير ولا يلدغ من جحر مرتين

- ‌(38) باب اشفعوا تؤجروا ومثل الجليس الصالح والسيئ

- ‌(39) باب ثواب من ابتلي بشيء من البنات وأحسن إليهن

- ‌(40) باب من يموت له شيء من الولد فيحتسبهم

- ‌(41) باب إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده والأرواح أجناد

- ‌(42) باب المرء مع من أحب وفي الثناء على الرجل الصالح

- ‌(35) كتاب القدر

- ‌(1) باب في كيفية خلق ابن آدم

- ‌(2) باب السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه

- ‌(3) باب كل ميسر لما خلق له

- ‌(4) باب في قوله تعالى: {وَنَفسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَاهَا}

- ‌(5) باب الأعمال بالخواتيم

- ‌(6) باب محاجة آدم موسى عليهما السلام

- ‌(7) باب كتب الله المقادير قبل الخلق وكل شيء بقدر

- ‌(8) باب تصريف الله تعالى القلوب وكتب على ابن آدم حظه من الزنا

- ‌(9) باب كل مولود يولد على الفطرة وما جاء في أولاد المشركين وغيرهم، وفي الغلام الذي قتله الخضر

- ‌(10) باب الآجال محدودة والأرزاق مقسومة

- ‌(11) باب الأمر بالتقوى والحرص على ما ينفع وترك التفاخر

- ‌(36) كتاب العلم

- ‌(1) باب فضل من تعلم وتفقه في القرآن

- ‌(2) باب كراهة الخصومة في الدين والغلو في التأويل والتحذير من اتباع الأهواء

- ‌(3) باب كيفية التفقه في كتاب الله والتحذير من اتباع ما تشابه منه وعن المماراة فيه

- ‌(4) باب إثم من طلب العلم لغير الله

- ‌(5) باب طرح العالم المسألة على أصحابه ليختبرهم والتخول بالموعظة والعلم خوف الملل

- ‌(6) باب النهي عن أن يكتب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء غير القرآن ونسخ ذلك

- ‌(7) باب في رفع العلم وظهور الجهل

- ‌(8) باب في كيفية رفع العلم

- ‌(9) باب ثواب من دعا إلى الهدى أو سن سنة حسنة

- ‌(10) باب تقليل الحديث حال الرواية وتبيانه

- ‌(11) باب تعليم الجاهل

الفصل: ‌(15) باب النهي عن دعوى الجاهلية

(15) باب النهي عن دعوى الجاهلية

[2492]

عن جَابِرَ قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِن المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِن الأَنصَارِ فَقَالَ الأَنصَارِيُّ: يَا لَلأَنصَارِ! وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلمُهَاجِرِينَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا بَالُ دَعوَى الجَاهِلِيَّةِ؟ قال: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِن المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِن الأَنصَارِ، فَقَالَ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنتِنَةٌ، فَسَمِعَهَا عَبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ، فَقَالَ: قَد فَعَلُوهَا وَاللَّهِ! لَئِن رَجَعنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنهَا الأَذَلَّ. قَالَ عُمَرُ: دَعنِي أَضرِبُ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ، فَقَالَ: دَعهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقتُلُ أَصحَابَهُ.

ــ

الله من دعوى الجاهلية دعوى المسلمين، فينادى: يا للمسلمين! كما قال صلى الله عليه وسلم: فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين (1). وكما نادى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين طعن: يا لله! يا للمسلمين! . فإذا دعا بها المسلم وجبت إجابته، والكشف عن أمره على كل من سمعه؟ فإن ظهر أنه مظلوم نصر بكل وجه ممكن شرعي؛ لأنه إنما دعا للمسلمين لينصروه على الحق. وإن كان ظالما كف عن الظلم بالملاطفة والرفق، فإنَّ نفع ذلك، وإلا أخذ على يده، وكف عن ظلمه؛ فإنَّ الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه: أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده، ثم يدعونه فلا يستجاب لهم.

و(قوله صلى الله عليه وسلم لعمر حين قال: دعني أضرب عنق هذا المنافق: لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) دليل على: أن المنافقين الذين علم نفاقهم في

(1) ينظر تخريج الحديث السابق.

ص: 561

رواه أحمد (3/ 338)، والبخاريُّ (3518)، ومسلم (2584)(63)، والترمذي (3315)، والنسائي في الكبرى (8863).

* * *

ــ

عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مستحقين للقتل، لكن امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك؛ لئلا يكون قتلهم منفرا لغيرهم عن الدخول في الإسلام، لأنَّ العرب كانوا أهل أنفة وكبر بحيث لو قتل النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء المنافقين لنفر من بعد عنهم، فيمتنع من الدخول في الدين، وقالوا: هو يقتل أصحابه، ولغضب من قرب من هؤلاء المنافقين (1)، فتهيج الحروب وتكثر الفتن، ويمتنع من الدخول في الدين، وهو نقيض المقصود، فعفا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، ورفق بهم، وصبر على جفائهم وأذاهم، وأحسن إليهم حتى انشرح صدر من أراد الله هدايته، فرسخ في قلبه الإيمان، وتبين له الحق اليقين.

وهلك عن بينة من أراد الله هلاكه، وكان من الخاسرين. ثم أقام النبي صلى الله عليه وسلم مستصحبا لذلك إلى أن توفاه الله تعالى، فذهب النفاق وحكمه، لأنَّه ارتفع مسماه واسمه. ولذلك قال مالك: النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة عندنا اليوم، ويظهر من مذهبه: أن ذلك الحكم منسوخ بقوله تعالى: {لَئِن لَم يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ} إلى قوله تعالى: {وَقُتِّلُوا تَقتِيلا} وبقوله: {جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ} فقد سوى بينهما في الأمر بالجهاد، وجهاد الكفار: قتالهم وقتلهم، فليكن جهاد المنافقين كذلك (2).

وفي الآيتين مباحث ليس هذا موضعها، وقد ذهب غير واحد من أئمتنا إلى أن المنافقين يعفى عنهم ما لم يظهروا نفاقهم؛ فإن أظهروه قتلوا، وهذا أيضًا يخالف ما جرى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن منهم من أظهر نفاقه، واشتهر عنه حتى عرف به، والله أعلم بنفاقه، ومع ذلك لم يقتلوا لما ذكرناه، والله تعالى أعلم.

(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ع) و (ز).

(2)

ما بين حاصرتين ساقط من (ع).

ص: 562

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وقد وضح من هذا الحديث إبطال قول من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين، لأنَّه لم تقم بينة معتبرة بنفاقهم؛ إذ قد نص فيه على المانع من ذلك، وهو غير ما قالوه. وفيه ما يدلّ على أن أهون الشرين يجوز العمل على مقتضاه إذا اندفع به الشر الأعظم. وفيه دليل على القول بصحة الذرائع، وعلى تعليل نفي الأحكام في بعض الصور بمناسبٍ لذلك النفي.

(قوله: أتدرون ما المفلس؟ ) كذا صحت الرواية بـ (ما) فقد وقعت هنا على من يعقل، وأصلها لما لا يعقل. والمفلس: اسم فاعل من أفلس: إذا صار مفلسا، أي: افتقر، وكأنه صارت دراهمه فلوسا، كما يقال: أجبن الرجل: إذا صار أصحابه جبناء، وأقطف: إذا صارت دابته قطوفا (1)، ويجوز أن يراد به: إنه صار الرجل يقال فيه: ليس معه فلس، كما يقال: أقهر الرجل: إذا صار إلى حال يُقهر عليها، وأذل الرجل: إذا صار إلى حال يُذل فيها، وقد فلّسه القاضي تفليسا: نادى عليه: أنه أفلس.

و(قوله: المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة. . . الحديث) أي: هذا أحق باسم المفلس؛ إذ تؤخذ منه أعماله التي تعب في تصحيحها بشروطها، حتى قُبلت منه، فلما كان وقت فقره إليها أُخذت منه، ثم طُرح في النار. فلا إفلاس أعظم من هذا، ولا أخسر صفقة ممن هذه حاله، ففيه ما يدلّ على وجوب السعي في التخلص من حقوق الناس في الدنيا بكل ممكن، والاجتهاد في ذلك، فإن لم يجد إلى ذلك سبيلا، فالإكثار من الأعمال الصالحة، فلعله بعد أخذ ما عليه تبقى له بقية راجحة، والمرجو من كرم الكريم لمن صحت في الأداء نيته، وعجزت عن ذلك قدرته أن يرضي الله عنه خصومه، فيغفر للمطالب والمطلوب، ويوصلهم إلى أفضل محبوب، وقد تقدَّم ذكر من قال: إن الصوم

(1) أي بطيئة.

ص: 563

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لا يؤخذ مما عليه من الحقوق، وبينا ما يرد عليه، وبماذا ينفصل عنه.

و(قوله: لتؤدُّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة) هذا جواب قسم محذوف، كأنه قال: والله لتؤدّن. والحقوق: جمع حق، وهو ما يحق على الإنسان أن يؤديه، وهو يعم حقوق الأبدان، والأموال، والأعراض، وصغير ذلك وكبيره. كما قال تعالى:{وَيَقُولُونَ يَا وَيلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحصَاهَا} وكما قال: {وَإِن كَانَ مِثقَالَ حَبَّةٍ مِن خَردَلٍ أَتَينَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}

و(قوله: حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) والجلحاء: هي التي لا قرون لها. وكبش أجلح، وشاة جلحاء. ويقاد: من القود، أي: القصاص. وقد حكي أن أبا هريرة رضي الله عنه حمل هذا الحديث على ظاهره، فقال: يؤتى بالبهائم فيقال لها: كوني ترابا، وذلك بعدما يقاد للجماء (1) من القرناء، وحينئذ:{وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيتَنِي كُنتُ تُرَابًا} وقد قيل في معنى الحديث: إن المقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص، والإغياء فيه حتى يفهم منه: أنه لا بد لكل أحد منه، وأنه لا محيص له عنه، ويتأيد هذا بما جاء في هذا الحديث عن بعض رواته من الزيادة، فقال: حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء، وللحجر لم ركب على الحجر وعلى العود خدش العود فظهر من هذا: أن المقصود منه التمثيل المفيد للإغياء والتهويل، لأنَّ الجمادات لا يعقل خطابها ولا ثوابها ولا عقابها، ولم يصر إليه أحد من العقلاء، ومتخيله من جملة المعتوهين الأغبياء، ونظير هذا التمثيل قوله تعالى:{وَلَو أَنَّ قُرآنًا سُيِّرَت بِهِ الجِبَالُ} وقوله: {لَو أَنزَلنَا هَذَا القُرآنَ عَلَى جَبَلٍ} الآية، فتدبر وجه التنظير، والله بحقائق الأمور عليم خبير.

(1) في (ز): الجلحاء.

ص: 564