الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(5) باب في وجوب صلة الرحم وثوابها
[2461]
عَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الخَلقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنهُم قَامَت الرَّحِمُ، فَقَالَت: هَذَا مَقَامُ العَائِذِ بك مِن القَطِيعَةِ قَالَ: نَعَم، أَمَا تَرضَينَ أَن أَصِلَ مَن وَصَلَكِ، وَأَقطَعَ مَن قَطَعَكِ؟
ــ
(5)
ومن باب: وجوب صلة الرحم
(قوله: إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم) خلق هنا: بمعنى اخترع، وأصله: التقدير، كما تقدَّم. والخلق هنا: بمعنى المخلوق، وأصله مصدر، يقال: خلق يخلق خلقا: إذا قدر، وإذا اخترع. قال زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ
…
ـض القوم يخلق ثمَّ لا يفري
أي: تقطع ما قدرت. وقال الله تعالى: {هَذَا خَلقُ اللَّهِ} أي: مخلوقه. ومعنى فرغ منهم: أي كمل خلقهم، لا أنه اشتغل بهم، ثم فرغ من شغله بهم، إذ ليس فعله بمباشرة، ولا بمناولة، ولا خلقه بآلة، ولا محاولة، تعالى عما يتوهمه المتوهمون، وسبحانه إذا أراد شيئا، فإنما يقول له: كن فيكون.
و(قوله: قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة) هذا الكلام من المجاز المستعمل، والاتساع المشهور، إذ الرحم عبارة عن قرابات الرجل من جهة طرفي آبائه وإن علوا، وأبنائه وإن نزلوا، وما يتصل بالطرفين من الأعمام والعمات، والأخوال والخالات، والإخوة والأخوات، ومن يتصل بهم من أولادهم برحم جامعة. والقرابة إذا نسبة من النسب، كالأبوة، والأخوة، والعمومة، وما كان كذلك استحال حقيقة القيام والكلام، فيحمل هذا الكلام على التوسع، ويمكن حمله على أحد وجهين:
قَالَت: بَلَى، قَالَ: فَذَاكِ لَكِ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقرَؤوا إِن شِئتُم فَهَل عَسَيتُم إِن تَوَلَّيتُم أَن تُفسِدُوا فِي الأَرضِ وَتُقَطِّعُوا أَرحَامَكُم أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُم اللَّهُ فَأَصَمَّهُم وَأَعمَى أَبصَارَهُم أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَم عَلَى قُلُوبٍ أَقفَالُهَا.
رواه البخاريُّ (5987)، ومسلم (2554).
ــ
أحدهما: أن يكون الله تعالى أقام من يتكلم عن الرحم من الملائكة، فيقول ذلك، وكأنه وكل بهذه العبادة من يناضل عنها، ويكتب ثواب من وصلها، ووزر من قطعها، كما قد وكل الله بسائر الأعمال كراما كاتبين، وبمشاهدة أوقات الصلوات ملائكة متعاقبين.
وثانيهما: أن ذلك على وجه التقدير والتمثيل المفهم للإغياء، وشدة الاعتناء، فكأنه قال: لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت هذا الكلام، كما قال تعالى:{لَو أَنزَلنَا هَذَا القُرآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِن خَشيَةِ اللَّهِ} ثم قال: {وَتِلكَ الأَمثَالُ نَضرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ}
وعلى التقديرين فمقصود هذا الكلام: الإخبار بتأكد أمر صلة الرحم؟ وأنه تعالى قد نزلها منزلة من قد استجار به فأجاره، وأدخله في ذمته وخفارته، وإذا كان كذلك فجار الله تعالى غير مخذول، وعهده غير منقوض؛ ولذلك قال مخاطبا للرحم: أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ ! وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنَّه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبه على وجهه في النار (1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا إن شئتم: {فَهَل عَسَيتُم إِن تَوَلَّيتُم أَن تُفسِدُوا فِي الأَرضِ وَتُقَطِّعُوا أَرحَامَكُم} عسى: من أفعال المقاربة، ويكون رجاء وتحقيقا، قال الجوهري: عسى من الله واجبة في جميع القرآن إلا قوله تعالى:
(1) رواه مسلم (657)، والترمذي (222).
[2462]
وعَن عَائِشَةَ قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالعَرشِ تَقُولُ: مَن وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَن قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ.
رواه أحمد (6/ 62)، والبخاريُّ (5989)، ومسلم (2555).
[2463]
وعن جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَدخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ. قَالَ سُفيَانُ: يَعنِي: قَاطِعَ الرَحِمٍ.
ــ
{عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبدِلَهُ أَزوَاجًا خَيرًا مِنكُنَّ} وإذا اتصل بعسى ضمير فاعل كان فيها لغتان، فتح السين وكسرها، وقرئ بهما، وظاهر الآية: أنه خطاب لجميع الكفار. قال قتادة: معنى الآية: فلعلكم - أو يخاف عليكم - إن أعرضتم عن الإيمان أن تعودوا إلى الفساد في الأرض بسفك الدماء.
قلت: وعلى هذا فتكون الرحم المذكورة هنا رحم دين الإسلام والإيمان التي قد سماها الله إخوة بقوله: {إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ} وقال الفراء: نزلت هذه الآية في بني هاشم وبني أمية. وعلى هذا فتكون رحم القرابة، وعلى هذا فالرحم المحرم قطعها، المأمور بصلتها على وجهين؛ عامة وخاصة.
فالعامة: رحم الدين، وتجب مواصلتها بملازمة الإيمان، والمحبة لأهله ونصرتهم، والنصيحة لهم، وترك مضارتهم، والعدل بينهم، والنصفة في معاملتهم، والقيام بحقوقهم الواجبة كتمريض المرضى، وحقوق الموتى: من غسلهم، والصلاة عليهم، ودفنهم، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم.
وأما الرحم الخاصة: فتجب لهم الحقوق العامة، وزيادة عليها كالنفقة على القرابة القريبة، وتفقد أحوالهم، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم، وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة، حتى إذا تزاحمت الحقوق بدئ بالأقرب فالأقرب كما تقدَّم.
و(قوله: لا يدخل الجنة قاطع) قال سفيان يعني: قاطع رحم. هذا التفسير
رواه أحمد (4/ 84)، والبخاريُّ (5984)، ومسلم (556)، وأبو داود (1696)، والترمذي (1909).
ــ
صحيح لكثرة مجيء لفظ قاطع في الشرع مضافا إلى الرحم، فإذا ورد عريا عن الإضافة حمل على ذلك الغالب. والكلام في كون القاطع لا يدخل الجنة قد تقدَّم في الإيمان؛ وأنه يصح أن يحمل على المستحل لقطع الرحم، فيكون القاطع كافرا، أو يخاف أن يفسد قلبه بسبب تلك المعصية فيختم عليه بالكفر، فلا يدخل الجنة، أو لا يدخل الجنة في الوقت الذي يدخلها الواصل لرحمه، لأنَّ القاطع يحبس في النار بمعصيته، ثم بعد ذلك يخلص منها بتوحيده، كل ذلك محتمل، والله ورسوله أعلم بعين المقصود.
وهذا الحديث يدلّ دلالة واضحة على وجوب صلة الرحم على الجملة، وعلى تحريم قطعها، وأنه كبيرة. ولا خلاف فيه. لكن الصلة درجات بعضها أرفع من بعض، فأدناها ترك المهاجرة، وأدنى صلتها بالسلام (1). كما قال صلى الله عليه وسلم: صلوا أرحامكم ولو بالسلام (2) وهذا بحسب القدرة عليها، والحاجة إليها، فمنها ما يتعين ويلزم، ومنها ما يستحب ويرغب فيه، وليس من لم يبلغ أقصى الصلات يسمى قاطعا، ولا من قصر عما ينبغي له، ويقدر عليه يسمى واصلا. قال القاضي: وقد اختلف في الرحم التي تجب صلتها، فقال بعض أهل العلم: هي كل رحم محرم، وعلى هذا فلا تجب في بني الأعمام وبني الأخوال، وقيل: بل هذا في كل رحم ممن ينطلق عليه ذلك من ذوي الأرحام في المواريث محرما كان، أو غير محرم.
(1) كذا في جميع نسخ المفهم، وما وردَ في "إكمال إكمال المعلم" أوضح في بيان المقصود. قال الأُبيُّ: والصِّلة درجات بعضها فوق بعض، وأدناه تركُ المهاجرة، والكلام ولو بالسلام. إكمال إكمال المعلم (7/ 12).
(2)
ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 152) وقال: رواه البزار، وفيه يزيد بن عبد الله بن البراء الغنوي، وهو ضعيف.
[2464]
عن أَنَسُ بنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَن سره أَن يُبسَطَ لَهُ فِي رِزقِهِ وَيُنسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَليَصِل رَحِمَهُ.
رواه أحمد (3/ 229)، والبخاري (5986)، ومسلم (2557)(20)، وأبو داود (1693).
[2465]
وعَن أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُم وَيَقطَعُونِي، وَأُحسِنُ إِلَيهِم وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحلُمُ عَنهُم وهم يَجهَلُونَ عَلَيَّ،
ــ
قلت: فيخرج من هذا: أن رحم الأم التي لا يتوارث بها لا تجب صلتهم، ولا يحرم قطعهم، وهذا ليس بصحيح، والصواب ما ذكرناه قبل هذا من التعميم والتقسيم.
و(قوله: من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه) بسط الرزق: سعته وتكثيره والبركة فيه. والنسء: التأخير، والأثر: الأجل، سمي بذلك، لأنَّه تابع الحياة. ومعنى التأخير هنا في الأجل - وإن كانت الآجال مقدرة في علم الله لا يزاد فيها ولا ينقص -: أنه يبقى بعده ثناء جميل، وذكر حميد، وأجر متكرر، فكأنه لم يمت، وقيل معناه: يؤخر أجله المكتوب في اللوح المحفوظ، والذي في علم الله ثابت لا تبديل له، كما قال تعالى:{يَمحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} أي: أصل المكتوب في اللوح المحفوظ، هو علم الله تعالى الذي لا يقبل المحو ولا التغيير، حكي معناه عن عمر رضي الله عنه في الآية.
و(قوله: إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي) أحلم - بضم اللام -: أصفح. ويجهلون: يقولون قول الجهال من السب والتقبيح.
فَقَالَ: لَئِن كُنتَ كَمَا قُلتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُم المَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِن اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيهِم مَا دُمتَ عَلَى ذَلِكَ.
رواه أحمد (2/ 300)، ومسلم (2558).
[2466]
وعن أبي أَيُّوبَ أَنَّ أَعرَابِيًّا عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ - أَو بِزِمَامِهَا - ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! - أَو
ــ
و(قوله: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل) الرواية: بضم تاء تسفهم، وكسر السين، وضم الفاء، أي: تجعلهم يسفونه من السف، وهو شرب كل دواء يؤخذ غير ملتوت، تقول: سففت الدواء وغيره مما يؤخذ غير معجون، وأسففته غيري، أي: جعلته يسفه. والمل: الرماد الحار. يقال: أطعمنا خبز ملة، ومعنى ذلك: أن إحسانك إليهم مع إساءتهم لك، يتنزل في قلوبهم منزلة النار المحرقة، لما يجدون من ألم الخزي، والفضيحة، والعار الناشئ في قلب من قابل الإحسان بالإساءة.
و(قوله: ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك) الظهير: المعين، ومعناه: أن الله تعالى يؤيدك بالصبر على جفائهم، وحسن الخلق معهم، ويعليك عليهم في الدنيا والآخرة مدة دوامك على معاملتك لهم بما ذكرت.
و(قوله: إن أعرابيا عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أخذ بخطام ناقته، أو بزمامها) هذا يدلّ على تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان لا يصرف الناس بين يديه، ولا يمنع أحد منه، والخطام، والزمام، والمقود كلها بمعنى واحد! - وإن كانت في أصول اشتقاقها مختلفة- فسمي خطاما من حيث إنه يجعل على الخطم، وهو الأنف، ويسمى: زماما، لأنَّه يزم به، ومقودا، لأنَّه يقاد به، وهذا شك من الراوي في أي اللفظين قال.
يَا مُحَمَّدُ - أَخبِرنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِن الجَنَّةِ وَمَا يُبَاعِدُنِي مِن النَّارِ! قَالَ: فَكَفَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصحَابِهِ ثُمَّ قَالَ: لَقَد وُفِّقَ - أَو لَقَد هُدِيَ - قَالَ: كَيفَ قُلتَ؟ قَالَ: فَأَعَادَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: تَعبُدُ اللَّهَ لَا تُشرِكُ بِهِ شَيئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ. دَع النَّاقَةَ.
وفي رواية: وتصل ذا رحمك فلما أدبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن تمسك بما أمر به دخل الجنة.
رواه أحمد (5/ 417)، والبخاريُّ (5983)، ومسلم (13) في الإيمان (12 و 14)، والنسائيُّ (1/ 234).
* * *
ــ
و(قوله: فكف ثم نظر في أصحابه ثم قال: لقد وفق، أو لقد هدي) يعني: أنه كف الناقة عن سيرها، ونظر إلى أصحابه مستحسنا لهذا السؤال، ومستحضرا لأفهام أصحابه، ومنوها بالسائل، ثم شهد له بالتوفيق والهداية لما ينبغي أن يسأل عنه، لأنَّ مثل هذا السؤال لا يصدر إلا عن قلب منور بالعلم بالله تعالى، وبما يقرب إليه، عازم على العمل بما يفنى به، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بما يتعين عليه في تلك الحال، فقال: تعبد الله لا تشرك به شيئًا، أي: توحده في إلهيته، وتخلص له في عبادته. وتقيم الصلاة، أي: تفعلها على أوقاتها وبأحكامها. وتؤتي الزكاة: أي تعطيها من استحقها على شروطها. وتصل رحمك، أي: تفعل في حقهم ما يكون صلة لهم، وتجتنب ما يكون قطعا لهم على ما بيناه. ولم يذكر له النبي صلى الله عليه وسلم الصوم ولا الحج ولا الجهاد، لأنَّه لم يكن تعين عليه في تلك الحال شيء سوى ما ذكر له، أو لأن بعض تلك العبادات لم تكن فرضت بعد. والله تعالى أعلم.
و(قوله: إن تمسك بما أمرته دخل الجنة) يدلّ على: أن دخول الجنة لا بد فيه من الأعمال، كما قال تعالى: {وَتِلكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثتُمُوهَا بِمَا كُنتُم