الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(43) باب فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد
[2336]
عَن ابن عمر أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا كُنَّا نَدعُو زَيدَ بنَ حَارِثَةَ إِلَّا زَيدَ بنَ مُحَمَّدٍ، حَتَّى نَزَلَ فِي القُرآنِ:{ادعُوهُم لآبَائِهِم هُوَ أَقسَطُ عِندَ اللَّهِ}
ــ
(43)
ومن باب: فضائل زيد بن حارثة بن شرحبيل بن كعب الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويكنى: أبا أسامة بابنه أسامة بن زيد، وكان أصابه سباءٌ في الجاهلية فاشتراه حكيم بن حزام لخديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فوهبته للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك قبل النبوَّة بمكة، وزيد ابن ثماني سنين، فأعتقه، وتبناه النبي صلى الله عليه وسلم فكان يطوف به على حلق قريش ويقول: هذا ابني وارثًا، وموروثًا (1) - يُشهدهم على ذلك -. وذكر عن الزهري: أنَّه قال: ما علمت أحدًا أسلم قبل زيد. وروي عن الزهري من وجوه: أن أوَّل من أسلم خديجة. وقُتِل زيد بمؤتة من أرض الشام سنة ثمان من الهجرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمَّره في تلك الغزاة، وقال: إن قُتِل زيدٌ فجعفر، فإنَّ قُتِل جعفر فعبد الله بن رواحة (2) فقُتِل الثلاثة في تلك الغزاة، ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي زيد، وجعفر بكى، وقال: أخواي، ومؤنساي، ومحدثاي (3).
و(قوله: ما كنَّا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد ابن محمَّد) كان التبنِّي معمولًا به في الجاهلية والإسلام، يُتوارث به، ويُتناصر، إلى أن نسخ الله ذلك كله بقوله:{ادعُوهُم لآبَائِهِم هُوَ أَقسَطُ عِندَ اللَّهِ} أي: أعدلُ. فرفع الله تعالى
(1) انظر: الإصابة (3/ 25).
(2)
رواه أبو داود (2627).
(3)
ذكره ابن الأثير في الاستيعاب (2/ 284).
رواه أحمد (2/ 77)، والبخاريُّ (4782)، ومسلم (2425)، والترمذي (3209).
ــ
حكم التبني، ومنع من إطلاق لفظه، وأرشد بقوله إلى الأولى والأعدل أن يُنسب الرَّجل إلى أبيه نسبًا، ولو نسب إلى أبيه من التبني، فإنَّ كان على جهة الخطأ - وهو أن يسبق اللسان إلى ذلك من غير قصد - فلا إثم، ولا مؤاخذة، لقوله تعالى:{وَلَيسَ عَلَيكُم جُنَاحٌ فِيمَا أَخطَأتُم بِهِ} ، أي: لا إثم فيه، ولا يجري هذا المجرى إطلاق ما غلب عليه اسم التبني، كالحال في المقداد بن عمرو، فإنَّه قد غلب عليه نسب التبني، فلا يكاد يعرف إلا بالمقداد بن الأسود، فإنَّ الأسود بن عبد يغوث كان قد تبناه في الجاهلية، وعرف به، فلما نزلت الآية قال المقداد: أنا ابن عمرو، ومع ذلك فبقي ذلك الإطلاق عليه، ولم يسمع فيمن مضى من عصَّى (1) مُطلِق ذلك عليه، وإن كان متعمدًا. وليس (2) كذلك الحال في زيد بن حارثة، فإنَّه لا يجوز أن يقال فيه: زيد بن محمَّد، فإن قاله أحدٌ متعمِّدًا عَصَى، لقوله تعالى:{وَلَكِن مَا تَعَمَّدَت قُلُوبُكُم} أي: فعليكم فيه الجناح. والله تعالى أعلم. ولذلك قال بعده: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي: غفورًا للعمد ورحيمًا برفع إثم الخطأ.
ومعنى قوله تعالى: {ادعُوهُم لآبَائِهِم} أي: انسبوهم إليهم، ولذلك عدَّاه باللام، ولو كان الدُّعاء بمعنى: النداء لعدَّاه بالباء.
وقوله: {فَإِن لَم تَعلَمُوا آبَاءَهُم فَإِخوَانُكُم فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُم} فانسبوهم إليكم نسبة الأخوة الدينية التي قال الله فيها: {إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ} والمولويَّة التي قال فيها: {وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ} وقد تقدَّم: أنَّه يقال: مولى على المُعتِق، والمُعتَق، وابن العم، والناصر.
(1)"عصى": اعتبره عاصيًا لله.
(2)
ساقطة من (ع) و (م 4).
[2337]
وعنه قال: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعثًا، وَأَمَّرَ عَلَيهِم أُسَامَةَ بنَ زَيدٍ، فَطَعَنَ النَّاسُ فِي إِمرَتِهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِن تَطعَنُوا فِي إِمرَتِهِ فَقَد كُنتُم تَطعَنُونَ فِي إِمرَةِ أَبِيهِ مِن قَبلُ، وَايمُ اللَّهِ! إِن كَانَ لَخَلِيقًا
ــ
و(قوله: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثًا، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد رضي الله عنهما هذا البعث - والله تعالى أعلم - هو الذي جهَّزه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أسامة، وأمره عليهم، وأمره أن يغزو أُبنى، وهي القرية التي هي عند مؤتة - الموضع الذي قتل فيه زيد أبو أسامة -، فأمره أن يأخذ بثأر أبيه. وطعن من في قلبه ريبٌ في إمارته، من حيث: إنه من الموالي، ومن حيث: إنه كان صغير السِّن، لأنَّه كان إذ ذاك ابن ثماني عشرة سنة، فمات النبي صلى الله عليه وسلم وقد برز هذا البعث عن المدينة، ولم ينفصل بعد عنها، فنفَّذَه أبو بكر رضي الله عنه بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و(قوله: إن تطعنوا في إمرته، فقد كنتم طعنتم في إمرة أبيه قبل) هذا خطاب منه صلى الله عليه وسلم لمن وقع له ذلك الطعن، لكنه على كريم خلقه لم يعيِّنهم سترًا لهم، إذ مَعتبتُه كانت كذلك، كما تقدَّم، وكان الطعن في إمارة زيد من حيث إنه كان مولًى، فشهد النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة وأبيه رضي الله عنهما بأنَّهما صالحان للإمارة، لما يعلم من أهليتهما لها، وأن كونهما موليين لا يغضُّ من مناصبهما، ولا يقدح في أهليتهما للإمارة.
ولا خلاف أعلم في جواز المولى والمفضول، وقد تقدَّم القول في استخلاف المفضول.
والإمرة رويناها بالكسر بمعنى: الولاية، وقال أبو عبيد: يُقال: لك عليَّ أمرةٌ مطاعة - بفتح الهمزة -، وكذلك حكاه القتبي، وهي واحدة الأمر.
قلت: وهذا على قياس: جَلسة، وجِلسة - بالفتح للمصدر والكسر للهيئة -.
والخليق، والحريُّ، والقَمِنُ، والحقيقُ: كلُّها بمعنى واحد.
لِلإِمرَةِ، وَإِن كَانَ لَمِن أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِن أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعدَهُ.
ــ
و(قوله: وإن كان لمن أحبِّ الناس إليَّ) إن عند البصريين مخففة من الثقيلة، واللام الداخلة بعدها هي المفرقة بين إن المخففة وبين إن الشرطية. وعند الكوفيين: إن نافية، واللام بمعنى: إلا. وهذا نحو قوله (1):
شَلَّت (2) يَمِينُك إن قَتَلتَ لَمُسلِمًا
…
حَلَّت عَلَيك عقوبةُ المُتَعَمِّدِ
تقديرها عند البصريين: إنك قتلت مسلمًا. وعند الكوفيين: ما قتلت إلا مسلمًا.
وهذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر عن محبته [لزيد رضي الله عنه، ثمَّ أخبر عن محبته](3) لأسامة فقال: وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده. فكان أسامة الحبُّ ابن الحبِّ. وبذلك كان يُدعى. ورضي الله عن عمر بن الخطاب، لقد قام بالحق، وعرفَه لأهله، وذلك: أنَّه فرض لأسامةَ في العطاء خمسة آلاف، ولابنه عبد الله ألفين. فقال له عبد الله: فضلت عليَّ أسامة، وقد شهدت ما لم يشهد؟ ! فقال رضي الله عنه: إن أسامة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وأبوه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك. ففضل محبوب رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبوبه، وهكذا يجب أن يحب ما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغض ما أبغض، وقد قابل مروان هذا الحب الواجب بنقيضه، وذلك: أنَّه مرَّ بأسامة بن زيد وهو يصلي عند باب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له مروان: إنَّما أردت أن يُرى مكانك فقد رأينا مكانك، فعل الله بك وفعل - قولًا قبيحًا - فقال له أسامة: إنَّك آذيتني، وإنَّك فاحش متفحش،
(1) البيت لعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل القرشية العدوية، ترثي زوجها الزبير بن العَوَّام رضي الله عنه، وتدعو على عمرو بن جرموز قاتله.
(2)
شلَّت: بفتح الشين، وأصل الفعل شلِلَت، ومن يقوله بضم الشين فقد أخطأ.
(3)
ما بين حاصرتين ساقط من (م 4).
زاد في أخرى: فأوصيكم به فإنه من صالحيكم.
رواه أحمد (2/ 110)، والبخاريُّ (6627)، ومسلم (2426)(63 و 64)، والترمذيُّ بإثر حديث (3816).
* * *
ــ
وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يبغض الفاحش المتفحش (1). فانظر ما بين الفعلين، وقس ما بين الرَّجلين، فلقد آذى بنو أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحبابه، وناقضوه في مَحابِّه.
تنبيه: روى موسى بن عقبة عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أحبُّ الناس إليَّ أسامة فما حاشا فاطمة ولا غيرها. وهذا يعارضه ما تقدَّم من قوله صلى الله عليه وسلم إن أحبَّ الناس إليه عائشة، ومن الرِّجال أبوها (2)، ويرتفع التعارض من وجهين:
أحدهما: أن الأحاديث الصحيحة المشهورة إنما جاءت في حبِّه لأسامة بـ من التي للتبعيض، كما قد نصَّ عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: إنه لمن أحب الناس إلي.
وقد رواه هشام بن عروة، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أسامة بن زيد أحب الناس إليَّ أو من أحب الناس إلي (3) فعلى هذا يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من أحب الناس إلي أسامة فأسقطها بعض الرواة.
والوجه الثاني: على تسليم أن صحيح الرواية بغير من فيرتفع التعارض بأن كل واحد من هؤلاء أحب بالنسبة إلى عالمه.
وبيان ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يحب هؤلاء من حيث الصورة الظاهرة، فإنَّ أسامة كان أسود أفطس، وإنَّما كان يحبهم من حيث المعاني، والخصائص التي كانوا موصوفين بها.
فكان أبو بكر ـ رضي الله
(1) رواه أحمد (5/ 202)، وابن حبان (5694) الإحسان.
(2)
تقدم تخريجه في التلخيص برقم (2702).
(3)
ذكره ابن الأثير في "أسد الغابة"(1/ 79) عن ابن عمر.