الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) باب كراهة الخصومة في الدين والغلو في التأويل والتحذير من اتباع الأهواء
[2594]
عَن عَائِشَةَ قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَبغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ.
رواه أحمد (6/ 55)، والبخاريُّ (2457)، ومسلم (2668)، والترمذيُّ (2976)، والنسائي (8/ 247).
ــ
(2)
ومن باب: كراهة الخصومة في الدين والغلو في التأويل والتحذير من اتباع الأهواء (1)
قوله: إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم) الرواية الخصم - بسكون الصاد - وقد قيده بعضهم بكسرها، وكلاهما اسم للمخاصم، غير أن الذي بالسكون هو مصدر في الأصل، وضع موضع الاسم؛ ولذلك يكون في المذكر والمؤنث، والتثنية والجمع بلفظ واحد في الأكثر، ومن العرب من يثنيه ويجمعه، لأنَّه يذهب به مذهب الاسم، وقد جاءت اللغتان في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى:{وَهَل أَتَاكَ نَبَأُ الخَصمِ إِذ تَسَوَّرُوا المِحرَابَ} ثم قال: {خَصمَانِ بَغَى بَعضُنَا عَلَى بَعضٍ} فأمَّا الذي بالكسر فهو الشديد الخصومة، ويجمع: خصم، فيقال: خصم، وخصم خصمون، كما قال تعالى:{هُم قَومٌ خَصِمُونَ} والألد: هو الشديد الخصومة، مأخوذ من اللديدين، وهما جانبا الوادي، لأنَّه كلما أخذ عليه جانب أخذ في جانب آخر، وقيل: لإعماله
(1) لم يردْ هذا الباب في التلخيص، والحديثان المشروح ما أشكل فيهما تحت هذا العنوان وردا في صحيح مسلم، الأول برقم (2668)(5) والثاني برقم (2669)(6).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لديديه، وهما: صفحتا عنقه، عند خصومته. وكان حكم الألد أن يكون تابعا للخصم، لأنَّ الألد صفة، والخصم اسم، لكن لما كان (خصم) مصدرا في الأصل، وكان الألد صفة مشهورة، عُكس الأمر، فجعل التابع متبوعا، وهذا على نحو قوله:{وَغَرَابِيبُ سُودٌ} وإنَّما يقال: أسود غربيب. وهذا المبغوض عند الله تعالى هو الذي يُقصد بخصومته: مدافعة الحق، ورده بالأوجه الفاسدة، والشبه الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كخصومة أكثر المتكلمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وسلف أمته، إلى طرق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، وأمور صناعية، مدار أكثرها على مباحث سوفسطائية، أو مناقشات لفظية ترد بشبهها على الآخذ فيها شبه ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالا عنها أجدلهم لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها! وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها! ثم إن هؤلاء المتكلمين قد ارتكبوا أنواعا من المحال لا يرتضيها البُله، ولا الأطفال، لما بحثوا عن تحيز الجواهر، والأكوان والأحوال، ثم إنهم أخذوا يبحثون فيما أمسك عن البحث فيه السلف الصالح، ولم يوجد عنهم فيه بحث واضح، وهو كيفية تعلقات صفات الله تعالى، وتقديرها، واتخاذها في أنفسها، وأنها هي الذات، أو غيرها، وأن الكلام، هل هو متحد، أو منقسم؛ وإذا كان منقسما فهل ينقسم بالأنواع أو بالأوصاف؛ وكيف تعلق في الأزل بالمأمور؛ ثم إذا انعدم المأمور فهل يبقى ذلك التعلق؛ وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلا هو عين الأمر لعمرو بالزكاة؛ إلى غير ذلك من الأبحاث المبتدعة التي لم يأمر الشرع بالبحث عنها، وسكت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن سلك سبيلهم، عن الخوض فيها؛ لعلمهم بأنها بحث عن كيفية ما لا تُعلم كيفيته؛ فإنَّ العقول لها حد تقف عنده، وهو العجز عن التكييف لا يتعداه، فرق بين البحث في كيفية الذات وكيفية الصفات، ولذلك قال العليم الخبير:{لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ولا تبادر بالإنكار فعل الأغبياء الأغمار؛ فإنك قد حُجبت عن كيفية حقيقة نفسك مع علمك بوجودها، وعن كيفية إدراكاتك، مع أنك تدرك بها. وإذا عجزت عن إدراك كيفية ما بين جنبيك، فأنت عن إدراك ما ليس كذلك أعجز. وغاية علم العلماء وإدراك عقول الفضلاء أن يقطعوا بوجود فاعل هذه المصنوعات منزه عن صفاتها، مقدس عن أحوالها، موصوف بصفات الكمال اللائق به.
ثم مهما أخبرنا الصادقون عنه بشيء من أوصافه وأسمائه، قبلناه واعتقدناه، وما لم يتعرضوا له سكتنا عنه، وتركنا الخوض فيه. هذه طريقة السلف، وما سواها مهاوٍ وتَلَف، ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين ما قد ورد في ذلك عن الأئمة المتقدمين، فمن ذلك قول عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر الشغل، والدين قد فرغ منه، ليس بأمر يؤتكف على النظر فيه. وقال مالك: ليس هذا الجدال من الدين في شيء. وقال: كان يقال: لا تمكن زائغ القلب من أذنك؛ فإنك لا تدري ما يعلقك من ذلك. وقال الشافعي: لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه، ما عدا الشرك، خير له من أن ينظر في علم الكلام. وإذا سمعت من يقول: الاسم هو المسمى، أو غير المسمى، فاشهد أنه من أهل الكلام، ولا دين له. قال: وحكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام. وقال الإمام أحمد بن حنبل: لا يفلح صاحب الكلام أبدا، علماء الكلام زنادقة. وقال ابن عقيل: قال بعض أصحابنا: أنا أقطع أن الصحابة رضي الله عنهم ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر، فبئس ما رأيته. قال: وقد أفضى هذا الكلام بأهله إلى الشكوك، وبكثير
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
منهم إلى الإلحاد، وأصل ذلك: أنهم ما قنعوا بما بعثت به الشرائع، وطلبوا الحقائق، وليس في قوة العقل إدراك ما عند الله من الحكم التي انفرد بها، ولو لم يكن في الجدال إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه الضلال، كما قال فيما خرجه الترمذي: ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل (1)، وقال: إنه صحيح.
قلت: وقد رجع كثير من أئمة المتكلمين عن الكلام بعد انقضاء أعمار مديدة، وآماد بعيدة، لما لطف الله تعالى بهم، وأظهر لهم آياته، وباطن برهانه، فمنهم: إمام المتكلمين أبو المعالي (2)، فقد حكى عنه الثقات أنه قال: لقد خليت أهل الإسلام وعلومهم، وركبت البحر الأعظم، وغصت في الذي نهوا عنه، كل ذلك رغبة في طلب الحق، وهربا من التقليد، والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، وأختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص، والويل لابن الجويني. وكان يقول لأصحابه: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به.
وقال أحمد بن سنان: كان الوليد بن أبان الكرابيسي، خالي، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: تعلمون أحدا أعلم مني؟ قالوا: لا، قال: فتتهموني؟ قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم، أفتقبلون؟ قالوا: نعم. قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث، فإني رأيت الحق معهم. وقال أبو الوفا بن عقيل: لقد بالغت في الأصول طول عمري، ثم عدت القهقرى إلى مذهب المكتب.
(1) رواه الترمذي (3253).
(2)
هو إمام الحرمين الجويني (ت 478 هـ).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قلت: وهذا الشهرستاني صاحب نهاية الإقدام في علم الكلام وصف حاله فيما وصل إليه من الكلام وما ناله، فتمثل بما قاله:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها
…
وصيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر
…
على ذقن أو قارعا سن نادم
ثم قال: عليكم بدين العجائز؛ فإنَّه (1) أسنى الجوائز.
قلت: ولو لم يكن في الكلام شيء يذم به إلا مسألتان هما من مبادئه، لكان حقيقا بالذم، وجديرا بالترك.
إحداهما: قول طائفة منهم: إن أول الواجبات الشك في الله تعالى.
والثانية: قول جماعة منهم: إن من لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرقوها، والأبحاث التي حرروها، فلا يصح إيمانه، وهو كافر.
فيلزمهم على هذا تكفير أكثر المسلمين من السلف الماضين، وأئمة المسلمين، وأن من يبدأ بتكفيره أباه وأسلافه وجيرانه، وقد أورد على بعضهم هذا، فقال: لا يشنع علي بكثرة أهل النار، وكما قال، ثم إن من لم يقل بهاتين المسألتين من المتكلمين ردوا على من قال بهما بطرق النظر والاستدلال بناء منهم على أن هاتين المسألتين نظريتان، وهذا خطأ فاحش، فالكل يخطئون الطائفة الأولى بأصل القول بالمسألتين، والثانية بتسليم أن فسادها ليس بضروري، ومن شك في تكفير من قال: إن الشك في الله تعالى واجب؛ وأن معظم الصحابة والمسلمين كفار، فهو كافر شرعا، أو مختل العقل وضعا؛ إذ كل واحدة منهما معلومة الفساد بالضرورة الشرعية الحاصلة بالأخبار المتواترة القطعية، وإن لم يكن
(1) في (ز): فهو.
[2595]
عَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِن قَبلِكُم شِبرًا بِشِبرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَو دَخَلُوا فِي جُحرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعتُمُوهُم قُلنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ قَالَ: فَمَن؟ .
رواه أحمد (3/ 84)، والبخاري (7320)، ومسلم (2669) وهذا الحديث والذي قبله لم يردا في أصول التلخيص واستدركا من المفهم.
* * *
ــ
كذلك فلا ضروري يصار إليه في الشرعيات ولا العقليات. عصمنا الله من بدع المبتدعين، وسلك بنا طرق السلف الماضين. وإنما طولت في هذه المسألة الأنفاس؛ لما قد شاع من هذه البدع في الناس، ولأنه قد اغتر كثير من الجهال بزخرف تلك الأقوال، وقد بذلت ما وجب علي من النصيحة، والله تعالى يتولى إصلاح القلوب الجريحة.
و(قوله: لتتبعن سنن الذين من قبلكم، شبرا بشبر وذراعا بذراع) قيدناه (سنن) بفتح السين، وهو الطريق وبضمها، وهو جمع سنة. وهي الطريقة المسلوكة. وذكر الشبر والذراع والحجر أمثال تفيد أن هذه الأمة يطرأ عليها من الابتداع والاختلاف مثل الذي كان وقع لبني إسرائيل. وقد روى الترمذي هذا المعنى بأوضح من هذا، ققال: ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من يأتي أمه علانية، لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين، كلها في النار إلا واحدة. قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي (1). خرجه من حديث عبد الله بن عمر. وقد رواه أبو داود من حديث معاوية بن أبي سفيان وقال: ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي
(1) رواه الترمذي (2641).