الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(8) باب ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من الحوض المورود ومن أنه أعطي مفاتيح خزائن الأرض
[2211]
عن عَبد اللَّهِ بنُ عَمرِو بنِ العَاصِ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: حَوضِي مَسِيرَةُ شَهرٍ، وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ، وَمَاؤُهُ أَبيَضُ مِن الوَرِقِ، وَرِيحُهُ
ــ
(8 و 9) ومن باب حوض النبي صلى الله عليه وسلم وأوانيه (1)
قد تقدَّم القول على كثير من معاني أحاديث هذا الباب في كتاب الطهارة. ومما يجب على كل مكلف أن يعلمه، ويصدِّق به: أن الله تعالى قد خصَّ نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالكوثر الذي هو الحوض المصرَّح باسمه، وصفته، وشرابه وآنيته في الأحاديث الكثيرة الصحيحة الشهيرة، التي يحصل بمجموعها العلم القطعي، واليقين التواتري، إذ قد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة نيف على الثلاثين. في الصحيحين منهم نيف على العشرين، وباقيهم في غيرهما، مما صح نقله، واشتهرت روايته، ثم قد رواها عن الصحابة من التابعين أمثالُهم، ثم لم تزل تلك الأحاديث مع توالي الأعصار، وكثرة الرواة لها في جميع الأقطار، تتوفر همم الناقلين لها على روايتها وتخليدها في الأمهات، وتدوينها، إلى أن انتهى ذلك إلينا، وقامت به حجة الله علينا، فلزمنا الإيمان بذلك، والتصديق به، كما أجمع عليه السلف، وأهل السنة من الخلف، وقد أنكرته طائفة من المبتدعة، وأحالوه عن ظاهره، وغلوا في تأويله من غير إحالة عقلية، ولا عادية، تلزم من إقراره على ظاهره، ولا منازعة سمعية، ولا نقلية تدعو إلى تأويله، فتأويله تحريف صدر عن عقل سخيف خرق به إجماع السلف، وفارق به مذهب أئمة الخلف.
والحوض:
(1) شرح المؤلف رحمه الله تحت هذا العنوان أيضًا ما أشكل في أحاديث باب: في عِظَم حوض النبي صلى الله عليه وسلم وكبره. . .
أَطيَبُ مِن المِسكِ، كِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَن شَرِبَ مِنهُ فَلَا يَظمَأُ بَعدَهُ أَبَدًا
قَالَ: وَقَالَت أَسمَاءُ بِنتُ أَبِي بَكرٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي عَلَى الحَوضِ حَتَّى أَنظُرَ مَن يَرِدُ عَلَيَّ مِنكُم، وَسَيُؤخَذُ أُنَاسٌ دُونِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مِنِّي وَمِن أُمَّتِي فَيُقَالُ: أَمَا شَعَرتَ مَا عَمِلُوا بَعدَكَ؟ وَاللَّهِ مَا بَرِحُوا بَعدَكَ يَرجِعُونَ عَلَى أَعقَابِهِم.
قَالَ: فَكَانَ ابنُ أَبِي مُلَيكَةَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَن نَرجِعَ عَلَى أَعقَابِنَا أَو أَن نُفتَنَ عَن دِينِنَا.
رواه البخاريُّ (6579)، ومسلم (2292 و 2293).
ــ
مجتمع الماء. يقال: استحوض الماء، إذا اجتمع. ويجمع: أحواضًا وحياضًا.
و(قوله: من شرب منه لم يظمأ أبدًا) أي: لم يعطش آخر ما عليه (1). وظاهر هذا وغيره من الأحاديث: أن الورود على هذا الحوض، والشرب منه، إنما يكون بعد النجاة من النار، وأهوال القيامة، لأنَّ الوصول إلى ذلك المحل الشريف، والشرب منه، والوصول إلى موضع يكون فيه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يمنع عنه، من أعظم الإكرام، وأجل الإنعام، ومن انتهى إلى مثل هذا كيف يعاد إلى حساب، أو يذوق بعد ذلك تنكيل خزي وعذاب؟ ! فالقول بذلك أوهى من السراب.
و(قوله صلى الله عليه وسلم: حوضي مسيرة شهر، زواياه سواء) أي: أركانه معتدلة، يعني:
(1) أي: لا يظمأ ما دام في الموقف للحساب. وقد ورد هذا التعبير في صحيح مسلم برقم (2300).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أن ما بين الأركان متساوٍ، فهو معتدل التربيع، وقد اختلفت الألفاظ الدَّالة على مقدار الحوض، كما هو مبيَّن في الروايات المذكورة في الأصل. وقد ظن بعض القاصرين: أن ذلك اضطراب، وليس كذلك، وإنما تحدَّث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث الحوض مرات عديدة، وذكر فيها تلك الألفاظ المختلفة إشعارًا بأن ذلك تقدير، لا تحقيق، وكلها تفيد أنه كبير متسع، متباعد الجوانب والزوايا، ولعل سبب ذكره للجهات المختلفة في تقدير الحوض: أن ذلك إنما كان بحسب من حضره ممن يعرف تلك الجهات، فيخاطب كل قوم بالجهة التي يعرفونها، والله أعلم.
و(قوله: ماؤه أبيض من الورق) جاء أبيض - هاهنا - في هذا الحديث على الأصل المرفوض (1)، كما قد جاء في قولهم:
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
فأنت أبيَضُهم سِربال طَبَّاخ (2)
وكما قد جاء قوله صلى الله عليه وسلم: توافون سبعين أمَّة أنتم أخيرهم (3)، أي: خيرهم، وكما قد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات (4)، وكل ذلك جاء منبهة على الأصل المرفوض، والمستعمل الفصيح كما جاء في الرواية الأخرى: أشد بياضًا من الثلج (5)، ولا معنى لقول من قال من مُتعسِّفة النحاة: لا يجوز التلفظ بهذه الأصول المرفوضة، مع صحَّة هذه الروايات، وشهرة تلك الكلمات.
(1) أي: على وزن أفعل التي للتفضيل، وهنا في الألوان مرفوضة هذه الصيغة، ويقال: أشدّ بياضًا.
(2)
هذا عجز بيت لطرفة بن العبد، وصدره:
إذا الرِّجال شَتَوا واشتدَّ أكلهم
(3)
رواه الدارمي (2/ 313).
(4)
رواه أحمد (1/ 335)، ومسلم (865)، والنسائي (3/ 88).
(5)
رواه مسلم رقم (247)(36).
[2212]
وعَن عُقبَةَ بنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فَصَلَّى عَلَى أَهلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى المَيِّتِ، ثُمَّ انصَرَفَ إِلَى المِنبَرِ فَقَالَ: إِنِّي فَرَطٌ لَكُم، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيكُم، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَنظُرُ إِلَى حَوضِي الآنَ، وَإِنِّي قَد أُعطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرضِ - أَو مَفَاتِيحَ الأَرضِ - وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيكُم أَن تُشرِكُوا بَعدِي، وَلَكِن أَخَافُ عَلَيكُم أَن تَتَنَافَسُوا فِيهَا.
ــ
و(قول عقبة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فصلى على أهل أحد صلاته على الميت) أي: دعا لهم بدعاء الموتى، وكأنه صلى الله عليه وسلم كان قد استقبل القبلة، ودعا لهم، واستغفر، وهذا كما فعل حيث أمره الله تعالى أن يستغفر لأهل البقيع، فقام عليهم ليلًا، واستغفر لهم، ثم انصرف، كما تقدم في الجنائز.
و(قوله: أعطيت مفاتيح خزائن الأرض) أي: بُشر بفتح البلاد، وإظهار الدين، وإعلاء كلمة المسلمين، وتمليكه جميع ما كان في أيدي ملوكها من الصفراء، والبيضاء، والنفائس، والذخائر، فقد ملَّكه الله ديارهم، ورقابهم، وأرضيهم، وأموالهم. كل ذلك وفاءً بمضمون:{لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ}
و(قوله: إني والله لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي) يعني: أنه قد أمن على جملة أصحابه أن يُبدِّلوا دين الإسلام بدين الشرك. ولا يلزم من ذلك ألا يقع ذلك من آحادٍ منهم، فإنَّ الخبر عن الجملة لا يلزم صدقه على كل واحد من آحادها دائمًا، كيف لا؟ ! وهو الذي أخبر بأن منهم من يرتد بعد موته صلى الله عليه وسلم كما جاء نصًّا في غير ما موضع من أحاديث الحوض وغيرها، وقد ظهر في الوجود ردَّة كثيرٍ ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم وصلَّى معه، وجاهد، ثم كفر بعد موته. وقد تقدم قول ابن إسحاق وحكايته: أنه لم يبق بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم مسجد من مساجد المسلمين إلا كان في أهله ردَّة، إلا ما كان من ثلاثة مساجد. وقتال أبي بكر رضي الله عنه لأهل الردة معلوم متواتر، وإذا كان كذلك فيتعيَّن حمل هذا الحديث على ما ذكرناه.
وفي رواية: ثُمَّ صَعِدَ المِنبَرَ كَالمُوَدِّعِ لِلأَحيَاءِ وَالأَموَاتِ، فَقَالَ: إِنِّي فَرَطُكُم عَلَى الحَوضِ، وَإِنَّ عَرضَهُ كَمَا بَينَ أَيلَةَ إِلَى الجُحفَةِ، إِنِّي لَستُ أَخشَى عَلَيكُم أَن تُشرِكُوا بَعدِي، وَلَكِنِّي أَخشَى عَلَيكُم الدُّنيَا أَن تتَنَافَسُوا فِيهَا وَتَقتَتِلُوا، فَتَهلِكُوا كَمَا هَلَكَ مَن كَانَ قَبلَكُم.
قَالَ عُقبَةُ: فَكَانَت آخِرَ مَا رَأَيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى المِنبَرِ.
رواه أحمد (4/ 149)، والبخاريُّ (1344)، ومسلم (2296)(30 و 31)، وأبو داود (3223)، والنسائيُّ (4/ 61).
* * *
ــ
ويحتمل أن يكون هذا خبرًا عن خصوص أصحابه الذين أعلمه الله تعالى بمآل حالهم، وأنهم لا يزالون على هدي الإسلام وشرعه إلى أن يلقوا الله ورسوله على هديه، إذ قد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكثير منهم بذلك، وشوهدت استقامة أحوالهم حتى توفاهم الله تعالى عليه، ويحتمل أن يحمل هذا الخبر على جميع الأمة، فيكون معناه: الإخبار عن دوام الدين، واتصال ظهوره إلى قيام الساعة، وأنه لا ينقطع بغلبة الشرك على جميع أهله، ولا بارتدادهم، كما قد شهد بذلك الكتاب والسُّنَّة وإجماع الأمة. والأول أظهر من الحديث، والله أعلم.
و(قوله: ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تتنافسوا فيها، وتقتتلوا فتهلكوا) هذا الذي توقعه النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وقع بعده، فعمَّت الفتن، وعظمت المحن، ولم ينج منها إلا من عصم، ولا يزال الهرج إلى يوم القيامة، فنسأل الله تعالى عاقبة خير وسلامة.
وجرباء: صحيح روايته بفتح الجيم وسكون الراء والمد، وقد وقع عند بعض رواة البخاري بالقصر وهو خطأ، وأذرح: بفتح الهمزة، وذال معجمة ساكنة، وراء مضمومة، وحاء مهملة، وهو الصواب. ووقع في رواية العذري بالجيم، وهو خطأ، وقد فسَّرهما في الأصل: بأنهما قريتان من قرى الشام بينهما مسيرة ثلاثة أيام، وقال ابن وضاح في أَذرُح: أنها فلسطين، وهذا يدل على صحة