الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(4) باب في قوله تعالى: {وَنَفسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَاهَا}
[2576]
عَن أَبِي الأَسوَدِ الدّؤلِيِّ قَالَ: قَالَ لِي عِمرَانُ بنُ الحُصَينِ: أَرَأَيتَ مَا يَعمَلُ النَّاسُ اليَومَ وَيَكدَحُونَ فِيهِ، أَشَيءٌ قُضِيَ عَلَيهِم
ــ
فيهم، ولا ينقص منهم أبدا. ثم رمى بهما، وقال: فرغ ربكم من العباد، فريق في الجنة وفريق في السعير (1). قال: هذا حديث حسن صحيح. والأحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة، يفيد مجموعها العلم القطعي واليقين الحقيقي الاضطراري بإبطال مذاهب القدرية، لكنهم كابروا في ذلك كله وردوه، وتأولوا ذلك تأويلا فاسدا، وموهوه للأصول التي ارتكبوها من التحسين والتقبيح والتعديل والتجويز، والقول بتأثير القدرة الحادثة على جهة الاستقلال، وقد تكلم أئمة أهل السنة معهم في هذه الأصول، وبينوا فسادها في كتبهم.
و(قوله: فيم العمل؟ ) هذا السؤال هو الأول الذي تضمنه قوله: أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؛ وقد بيناه.
(4 و 5) ومن باب: في قوله تعالى:
{وَنَفسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَاهَا} (2)
قوله: (أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه) الكدح: السعي في العمل لدنيا كان أو لآخرة، وأصله: العمل الشاق والكسب المتعب.
(1) رواه الترمذي (2141).
(2)
هذا العنوان لم يردْ في نسخ المفهم، واستدركناه من التلخيص. وقد شرح المؤلف رحمه الله تحت هذا العنوان: هذا الباب، والباب الذي يليه بعنوان باب: الأعمال بالخواتيم.
وَمَضَى عَلَيهِم مِن قَدَرِ مَا سَبَقَ؛ أَو فِيمَا يُستَقبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُم بِهِ نَبِيُّهُم، وَثَبَتَت الحُجَّةُ عَلَيهِم؛ فَقُلتُ: بَل شَيءٌ قُضِيَ عَلَيهِم، وَمَضَى عَلَيهِم. قَالَ: فَقَالَ: فَلَا يَكُونُ ظُلمًا؛ قَالَ: فَفَزِعتُ مِن ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا، وَقُلتُ: كُلُّ شَيءٍ خَلقُ اللَّهِ وَمِلكُ يَدِهِ فَلَا يُسأَلُ عَمَّا يَفعَلُ وَهُم يُسأَلُونَ. فَقَالَ لِي: يَرحَمُكَ اللَّهُ! إِنِّي لَم أُرِد بِمَا سَأَلتُكَ إِلَّا لِأَحزِرَ عَقلَكَ! إِنَّ رَجُلَينِ مِن مُزَينَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيتَ مَا يَعمَلُ النَّاسُ اليَومَ،
ــ
و(قوله: فلا يكون ظلما) كذا الرواية بغير ألف استفهام، وهي مرادة؛ إذ بالاستفهام حصل فزع المسؤول، وبه صح أن يكون ما أتى به من قوله: كل شيء خلق الله وملك يده. . . إلى آخره. جوابا عما سأله عنه، ولو لم يكن الاستفهام مرادا لكان الكلام نفيا للظلم، وهو صحيح وحق، ولا يفزع من ذلك ولا يستدعي جوابا. وبيان ما سأله عنه أنه لما تقرر عنده أن ما يعمل الناس فيه شيء قضي به عليهم، ولا بد لهم منه، فكأنهم يُلجؤون إليه، فكيف يعاقبون على ذلك؛ فعقابهم على ذلك ظلم، وهذه من شُبه القدرية المبنية على التحسين والتقبيح، وقد أجاب عن ذلك أبو الأسود، وأحسن في الجواب، ومقتضى الجواب أن الظلم لا يُتصور من الله تعالى، فإنَّ الكل خلقه وملكه، لا حجر عليه، ولا حُكم، فلا يتصور في حقه الظلم لاستحالة شرطه، على ما بيناه غير مرة، ثم عضد بقوله:{لا يُسأَلُ عَمَّا يَفعَلُ وَهُم يُسأَلُونَ} ولما سمع عمران هذا الجواب تحقق أنه قد وُفق للحق، وأصاب عين الصواب، فاستحسن ذلك منه، وأخبره أنه إنما امتحنه بذلك السؤال ليختبر عقله، وليستخرج عمله، ثم أفاده الحديث المذكور، ومعناه قد تقدم الكلام عليه (1). ثم قال: وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {وَنَفسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَاهَا} وقوله: {وَنَفسٍ} هو قسم بنفوس بني آدم،
(1) ما بين حاصرتين سقط من (م 4).
وَيَكدَحُونَ فِيهِ أَشَيءٌ قُضِيَ عَلَيهِم وَمَضَى فِيهِم مِن قَدَرٍ قَد سَبَقَ، أَو فِيمَا يُستَقبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُم بِهِ نَبِيُّهُم، وَثَبَتَت الحُجَّةُ عَلَيهِم؛ فَقَالَ: لَا بَل شَيءٌ قُضِيَ عَلَيهِم، وَمَضَى فِيهِم وَتَصدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل:{وَنَفسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَاهَا}
رواه مسلم (2650).
* * *
ــ
وأفردها لأن مراده النوع، وهذا نحو قوله:{عَلِمَت نَفسٌ مَا قَدَّمَت وَأَخَّرَت} أي: كل نفس. كما قال: {كُلُّ نَفسٍ بِمَا كَسَبَت رَهِينَةٌ} . ألا ترى قوله: {فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَاهَا} أي: حملها على ما أراد من ذلك، فمنها ما خُلق للخير، وأعانها عليه ويسره لها، ومنها ما خلق للشر ويسره لها، وهذا هو الموافق للحديث المتقدِّم، المصدق بالآية.
و(قوله: {وَمَا سَوَّاهَا} أي: والذي سواها، وقد قدمنا أن (ما) في أصلها لما لا يعقل، وقد تجيء بمعنى الذي، وهي تقع لمن يعقل ولما لا يعقل (1). والتسوية: التعديل. يعني أنه خلقها مكملة بكل ما تحتاج إليه، مؤهلة لقبول الخير والشر، غير أنه يجري عليها في حال وجودها وما لها ما سبق لها مما قضي به عليها. وفي حديث عمران هذا من الفقه جواز اختبار العالم عقول أصحابه الفضلاء بمشكلات المسائل، والثناء عليهم إذا أصابوا، وبيان العذر عن ذلك. والذي قضي عليها أنها إما من أهل السعادة وبعمل أهل السعادة الذي به تدخل الجنة تعمل، وإما من أهل الشقاوة، وبعمل أهل الشقاوة الذي به تدخل النار تعمل. كما قال تعالى (2): هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، وهؤلاء للنار،
(1) ما بين حاصرتين سقط من (م 4).
(2)
في حديث قدسي.