الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(5) باب مثل ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم
[2202]
عَن أَبِي مُوسَى عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ مِن الهُدَى وَالعِلمِ كَمَثَلِ غَيثٍ أَصَابَ أَرضًا، فَكَانَت مِنهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَت المَاءَ فَأَنبَتَت الكَلَأَ وَالعُشبَ الكَثِيرَ، وَكَانَ مِنهَا أَجَادِبُ أَمسَكَت
ــ
(5)
ومن باب مثل ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم
الغيث: المطر. والطائفة من الأرض: القطعة منها، ومن الناس: الجماعة. والطيبة: المنبتة. وقبلت: لم يختلف رواة مسلم في هذا الحرف أنه بالباء بواحدة من القبول، أي: شربت الماء فانتفعت به، وقيَّده بعض رواة البخاري: قيَّلت - بياء مثناة من تحت -. وقال الأصيلي: إنه تصحيف، وقال غيره: ليس كذلك، ومعناه: جمعت، تقول العرب: تقيَّل الماء في الموضع المنخفض: إذا اجتمع فيه.
قلت: وهذا ليس بشيء، لأنَّه قد ذكر بعد هذا الطائفة الممسكة الماء، الجامعة له، فعلى ما قاله تكون الطائفتان واحدة، ويفسد معنى الخبر والتشبيه، وقيل: يكون معنى: قيلت: شربت. قال: والقيل: شرب نصف النهار، وقيلت الإبل: إذا شربت قائلة.
قلت: وهذا أيضًا ليس بشيء، لأنَّ مقصود الحديث لا يخص شرب القائلة من غيرها. والأظهر: ما قاله الأصيلي. والكلأ: المرعى، وهو العشب. والرَّطب: يسمى: الخلى. واليابس يسمى: الحشيش.
و(قوله: وكانت منها أجادب) لم أرو هذا إلا بالجيم، والدال المهملة،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وهو الصحيح. قال الأصمعي: الأجادب من الأرض: ما لا ينبت الكلأ. ومعناه: أنها جردة بارزة لا يسترها شيء، وقد رواها بعضهم أجاذب - بالذال المعجمة -. وقال بعضهم: إنما هي أخاذات بالخاء والذال المعجمتين، جمع أخاذة، وهي الماسكة للماء، وقد قال بعضهم: أحازه - بالحاء المهملة والزاي - وليس بشيء. وبعضهم قالها: أجارد بالجيم والراء، جمع أجرد، وهو الذي لا نبات فيه.
قلت: والصحيح الواضح: الأول رواية ومعنى - إن شاء الله -، ومقصود هذا الحديث: ضرب مثل لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من العلم والدِّين، ولمن جاءهم بذلك، فشبَّه ما جاء به بالمطر العام الذي يأتي الناس في حال إشرافهم على الهلاك يحييهم، ويغيثهم. ثم شبَّه السامعين له: بالأرض المختلفة، فمنهم: العالم العامل المعلِّم (1)، فهذا بمنزلة الأرض الطيبة شربت، فانتفعت في نفسها، وأنبتت، فنفعت غيرها. ومنهم الجامع للعلم، الحافظ له، المستغرق لزمانه في جمعه ووعيه، غير أنه لم يتفرغ للعمل بنوافله، ولا ليتفقه فيما جمع، لكنه أدَّاه (2) لغيره كما سمعه، فهذا بمنزلة الأرض الصَّلبة التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس بذلك الماء، فيشربون ويسقون، وهذا القسم: هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: نضَّر الله امرأً سمع مني حديثًا، فبلَّغه غيره، فربَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه، وربَّ حامل فقه ليس بفقيه (3). لا يقال: فتشبيه هذا القسم بهذه الأرض التي أمسكت على غيرها، ولم تشرب في نفسها يقتضي ألا تكون عملت بما لزمها من العلم ولا من الدِّين، ومن لم يقم بما وجب عليه من أمور الدِّين، فلا ينسب للعلماء، ولا للمسلمين، لأنَّا نقول: القيام بالواجبات ليس خاصًّا بالعلماء. بل: يستوي فيها العلماء
(1) في (م 3) و (ز): المتعلم.
(2)
في أكثر النسخ: "ودَّاه" وما أثبتناه من (ز) و (م 3).
(3)
رواه أحمد (1/ 437)، والترمذي (2657)، وابن ماجه (232).
المَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنهَا وَسَقَوا وَرَعَوا، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنهَا أُخرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمسِكُ مَاءً، وَلَا تُنبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَن فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَن لَم يَرفَع بِذَلِكَ رَأسًا، وَلَم يَقبَل هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرسِلتُ بِهِ.
رواه أحمد (4/ 399)، والبخاري (79)، ومسلم (2282)(15).
ــ
وغيرهم. ومن لم يقم بواجبات علمه كان من الطائفة الثالثة التي لم تشرب، ولم تمسك، لأنَّه لما لم يعمل بما وجب عليه لم ينتفع بعلمه، ولأنه عاص فلا يصلح للأخذ عنه.
و(قوله: وأصاب طائفة أخرى) هذا مثل للطائفة الثالثة التي بلغها الشرع فلم تؤمن، ولم تقبل، وشبهها بالقيعان، السَّبخة التي لا تقبل الماء في نفسها وتفسده على غيرها، فلا يكون منها إنبات، ولا يحصل بما حصل فيها نفع.
والقيعان جمع قاع، وهو ما انخفض من الأرض، وهو المستنقع أيضًا. وهذا يعم ما يفسد فيه الماء، وما لا يفسد، لكن مقصود الحديث: ما يفسد فيه الماء.
و(قوله: سقوا ورعوا) يقال: سقى وأسقى بمعنى واحد. وقيل: سقيته: ناولته ما يشرب، وأسقيته: جعلت له سقيا. ورعوا: من الرعي، وقد رويته عن بعض المقيَّدين: زرعوا، من الزرع وكلاهما صحيح.
و(قوله: فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني الله به فعلم وعلَّم) هذا مثال الطائفة الأولى.
و(قوله: ومثل من لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) مثال الطائفة الثالثة، وسكت عن الثانية إما لأنها قد دخلت في الأولى بوجه، لأنَّها قد حصل منها نفع في الدين، وإمَّا لأنه أخبر بالأهم فالأهم، وهما الطائفتان المتقابلتان: العليا، والسفلى. والله تعالى أعلم.
[2203]
وعنه عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَومَهُ فَقَالَ: يَا قَومِ إِنِّي رَأَيتُ الجَيشَ بِعَينَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ العُريَانُ فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِن قَومِهِ فَأَدلَجُوا فَانطَلَقُوا عَلَى مُهلَتِهِم، وَكَذَّبَت طَائِفَةٌ مِنهُم فَأَصبَحُوا مَكَانَهُم فَصَبَّحَهُم الجَيشُ فَأَهلَكَهُم وَاجتَاحَهُم، فَذَلِكَ مَثَلُ مَن أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَ مَا جِئتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَن عَصَانِي وَكَذَّبَ مَا جِئتُ بِهِ مِن الحَقِّ.
رواه البخاريُّ (6482)، ومسلم (2283)(16).
ــ
وقوله في الحديث الآخر: إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم! إني رأيت الجيش بعيني) هذا ضرب مثل لحاله في الإنذار، ولأحوال السَّامعين لإنذاره، فإنَّه أنذرهم بما علمه من عقاب الله، وبما يتخوف عليهم من فجأته، فمن صدَّقه نجا، ومن أعرض عنه هلك. وهذا بخلاف التمثيل في الحديث الأوَّل، فإنَّ ذلك بالنسبة إلى تحصيل العلم والانتفاع به، وإلى الإعراض عنه، فهما مثلان مختلفان.
و(قوله: وإنِّي أنا النذير العُريان) هذا مثل، قيل كان أصله: أن رجلًا مُعيَّنًا سلبه العدو، فانفلت منهم، فأنذر قومه عريانًا. وقيل: كان الرَّجُل من العرب إذا رأى ما يوجب إنذار قومه تجرَّد من ثيابه، وأشار إليهم ليعلمهم بما دهمهم، وهذا أشبه، وأليق بمقصود الحديث.
والنجاء: السرعة، وهو منصوب على المصدر، وهو بالمد، وقيل: بالقصر. حكاه أبو زيد (1)، ولو تكرر لفظه لوجب نصبه.
وأدلجوا: ساروا من أول الليل إدلاجًا، والاسم: الدَّلج، والدَّلجة - بفتح الدال - والادلاج: الخروج من آخر الليل، والمصدر: الادلاج، والاسم: الدُّلجة
(1) هو سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري، من أئمة الأدب واللغة في البصرة، توفي سنة 215 هـ.
[2204]
وعن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ استَوقَدَ نَارًا، فَجَعَلَت الدَّوَابُّ وَالفَرَاشُ يَقَعنَ فِيهِ فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُم وَأَنتُم تَقَحَّمُونَ فِيهِ.
رواه البخاريُّ (6483)، ومسلم (2284)(17)، والترمذيُّ (2877).
[2205]
وعن جابر مثله، وقال: وأنتم تفلتون من يدي.
رواه مسلم (2285)(19).
* * *
ــ
- بضم الدال - قال ابن قتيبة: ومن الناس من يجيز الوجهين في كل واحد منهما، كما يقال: بَرهةً من الدَّهر، وبُرهة.
واجتاحهم: أهلكهم، واستأصلهم. يقال: جاحَتهُم السَّنَةُ، تجوحهم جَوحًا، وجياحة. واجتاحتهم، تجتاحهم، اجتياحة.
و(قوله: استوقد نارًا) أي: أوقدها، والسِّين والتاء زائدتان.
والجَنَادِب (1): جمع جُندَب - بفتح الدَّال وضمها - وهي: الجرادة. هذا هو المعروف من اللغة. وقال أبو حاتم: الجندب على خلقة الجرادة، له أربعة أجنحة يصرر بالليل صرًّا شديدًا.
والفراش قال الفراء: هو غوغاء الجراد التي تنفرش وتتراكب. وقال غيره: هو الطير الذي يتساقط في النار وفي السراج.
قلت: وهذا أشبه بما في الحديث.
والحجز جمع حجزة، وهي معقد الإزار والسراويل. ويقال: تحاجز القوم، إذا أخذ بعضهم بحجزة بعض، وإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع منه.
والتقحُّم: هو التهجُّم على الشيء من غير
(1) هذه اللفظة ليست في حديث أبي هريرة الذي أورده في التلخيص، وإنما هي في حديث جابر في صحيح مسلم برقم (2285)(19).