الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(13) باب في رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم للصبيان والعيال والرقيق
[2228]
عَن عَائِشَةَ قَالَت: قَدِمَ نَاسٌ مِن الأَعرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: أَتُقَبِّلُونَ صِبيَانَكُم؟ فَقَالُوا: نَعَم، قَالُوا: لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَأَملِكُ أن كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنكُم الرَّحمَةَ؟ ! .
وفي رواية: من قلبك.
رواه البخاريُّ (5998)، ومسلم (2317)، وابن ماجه (3665).
ــ
(13)
ومن باب: رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم للصبيان والعيال
قوله: وأملك أن كان الله نزع الرَّحمة من قلبك؟ ! كذا وقع هذا اللفظ محذوف همزة الاستفهام، وهي مرادة، تقديره: أو أملك؟ وكذا جاء هذا اللفظ في البخاري بإثباتها، وهو الأحسن، لقلة حذف همزة الاستفهام. وأن مفتوحة، وهي مع الفعل بتأويل المصدر، تقديرها: أو أملك كون الله نزع الرَّحمة من قلبك؟ ! وقد أبعد من كسرها، ولم تصح رواية الكسر. ومعنى الكلام: نفي قدرته صلى الله عليه وسلم عن الإتيان بما نزع الله من قلبه من الرحمة. والرحمة في حقِّنا: هي رقَّة وحُنُوّ يجده الإنسان في نفسه عند مشاهدة مبتلى، أو ضعيف، أو صغير، يحمله على الإحسان إليه، واللطف به، والرفق، والسعي في كشف ما به. وقد جعل الله هذه الرحمة في الحيوان كله - عاقله وغير عاقله - فبها تعطف الحيوانات على نوعها، وأولادها، فتحنو عليها، وتلطف بها في حال ضعفها وصغرها. وحكمة هذه الرحمة تسخير القوي للضعيف، والكبير للصغير حتى ينحفظ نوعه، وتتم مصلحته، وذلك تدبير اللطيف الخبير. وهذه الرحمة التي جعلها الله في القلوب في
[2229]
وعَن أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ الأَقرَعَ بنَ حَابِسٍ أَبصَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ الحَسَنَ، فَقَالَ: إِنَّ لِي عَشرَةً مِن الوَلَدِ مَا قَبَّلتُ وَاحِدًا مِنهُم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ مَن لَا يَرحَم لَا يُرحَم.
رواه البخاريُّ (5997)، ومسلم (2318)، وأبو داود (5218)، والترمذيُّ (1911).
ــ
هذه الدار، وتحصل عنها هذه المصلحة العظيمة هي رحمة واحدة من مائة رحمة ادَّخرها الله تعالى ليوم القيامة، فيرحم بها عباده المؤمنين وقت أهوالها، وشدائدها حتى يخلصَهم منها، ويدخلهم في جنته، وكرامته. ولا يفهم من هذا أن الرحمة التي وصف الحق بها نفسه هي رقَّة وحُنُو، كما هي في حقِّنا، لأنَّ ذلك تغيُّر يوجب للمتصف به الحدوث، والله تعالى منزه ومقدَّس عن ذلك، وعن نقيضه الذي هو القسوة، والغلظ، وإنما ذلك راجعٌ في حقِّنا إلى ثمرة تلك الرأفة، وفائدتها، وفي اللطف بالمبتلى، والضعيف، والإحسان إليه، وكشف ما هو فيه من البلاء، فإذا هي في حقه سبحانه وتعالى من صفات الفعل لا من صفات الذات، وهذا كما تقدَّم في غضبه تعالى ورضاه في غير موطن. وإذا تقرر هذا، فمن خلق الله تعالى في قلبه هذه الرحمة الحاملة له على الرفق، وكشف ضر المبتلى، فقد رحمه الله تعالى بذلك في الحال، وجعل ذلك علامة على رحمته إياه في المآل، ومن سلب الله ذلك المعنى منه، وابتلاه بنقيض ذلك من القسوة والغلظ، ولم يلطف بضعيف، ولا أشفق على مبتلى، فقد أشقاه في الحال، وجعل ذلك علمًا على شقوته في المآل، نعوذ بالله من ذلك، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: الراحمون يرحمهم الرحمن (1). وقال: لا يرحم الله من عباده إلا الرحماء (2). وقال: لا تنزع
(1) رواه أبو داود (4941)، والترمذي (1925).
(2)
رواه البخاري (6655)، ومسلم (923).
[2230]
وعَن أَنَس قَالَ: مَا رَأَيتُ أَحَدًا كَانَ أَرحَمَ بِالعِيَالِ مِن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَانَ إِبرَاهِيمُ مُستَرضِعًا لَهُ فِي عَوَالِي المَدِينَةِ، فَكَانَ يَنطَلِقُ وَنَحنُ مَعَهُ فَيَدخُلُ البَيتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ،
ــ
الرحمة إلا من شقي (1)، وقال: من لا يَرحم لا يُرحم (2).
وفي هذه الأحاديث ما يدلّ على جواز تقبيل الصغير على جهة الرحمة، والشفقة، وكراهة الامتناع من ذلك على جهة الأنفة. وهذه القبلة هي على الفم، ويكره مثل ذلك في الكبار، إذ لم يكن ذلك معروفًا في الصدر الأول، ولا يدل على شفقة. فأما تقبيل الرأس فإكرام عند من جرت عادتهم بذلك كالأب والأم. وأما تقبيل اليد فكرهه مالك، ورآه من باب الكبر، وإذا كان ذلك مكروهًا في اليد كان أحرى في الرِّجل، وقد أجاز تقبيل اليد والرِّجل بعض الناس، مستدلًا بأن اليهود قبَّلوا يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجليه حين سألوه عن مسائل، فأخبرهم بها (3)، ولا حجة في ذلك، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد نزهه الله عن الكبر، وأمن ذلك عليه، وليس كذلك غيره، ولأن ذلك أظهر من اليهود تعظيمه، واعتقادهم صدقه، فأقرَّهم على ذلك ليتبين للحاضرين - بإذلالهم أنفسهم له - ما عندهم من معرفتهم بصدقه، وأن كفرهم بذلك عناد وجحد. ولو فهمت الصحابة رضي الله عنهم جواز تقبيل يده ورجله لكانوا أوَّل سابق إلى ذلك، فيفعلون ذلك به دائمًا وفي كل وقت، كما كانوا يتبركون ببزاقه، ونخامته (4)، ويدلكون بذلك وجوههم، ويتطيبون بعرقه، ويقتتلون على وضوئه، ولم يرو قطُّ عن واحد منهم بطريق صحيح أنه قبل له يدًا ولا رجلًا، فصحَّ ما قلناه، والله ولي التوفيق.
(1) رواه أبو داود (4942)، والترمذي (1924).
(2)
انظر تخريجه في التلخيص برقم (2937).
(3)
رواه ابن ماجه (3705).
(4)
في (ز): نخاعته.
وَكَانَ ظِئرُهُ قَينًا فَيَأخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرجِعُ.
قَالَ عَمرٌو: فَلَمَّا تُوُفِّيَ إِبرَاهِيمُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ إِبرَاهِيمَ ابنِي مَاتَ فِي الثَّديِ،
ــ
و(قوله: وكان ظئره قينا) الظئر: أصله اسم للمرضعة. ثم قد يقال على زوجها صاحب اللَّبن ذلك. قال الخليل: ويقال للمذكر والمؤنث. وقال أبو حاتم: الظُئر من الناس والإبل: إذا عَطَفَت على ولد غيرها، والجمع: ظُؤَار. وقال ابن السكيت: لم يأت فُعال بضم الفاء جمعًا إلا تُؤام جمع تَوأَم، وظؤار جمع ظئر، وعراق جمع عرق، ورُخال جمع رِخل (1)، وفُرارٌ جمع فَرِير: وهو ولد الظبية. وغنمٌ رُبابٌ: جمع شاة رُبَّاء. قال ابن ولاد: وهي حديثة عهد بنتاج. وقال ابن الأنباري: تجمع الظئر: ظُؤَارًا، أظؤرًا، ولا يقال: ظؤرة. وحكى أبو زيد في جمعه: ظؤرة. قال الهروي: ولا يجمع على فُعلةٍ إلا أربعة أحرف: ظِئرٌ، وظُؤرة، وصاحبٌ، وصحبة، وفارِهٌ وفُرهةٌ، ورائق وروقة. وفي الصحاح: الظئر - مهموز - والجمع ظُؤار على فعال بالضم. وظؤور وأظآر.
والقين: الحداد. والقَين: العبد. والقينة: الأمة، مغنية كانت أو غير مغنية. وقد غلط من ظنها: المغنية فقط. والجمع: القيان. قال زهير:
ردَّ القِيانُ جِمال الحيِّ فاحتَمَلُوا
…
إلى الظَّهِيرة أَمر بينهم لَبِكُ
قلت: وأصل هذه اللفظة من: اقتان النبت اقتنانًا، أي: حَسُنَ، واقتانت الروضة: أخذت زخرفها، ومنه قيل للماشطة: قينة، ومُقيِّنَة، لأنَّها تزيِّن النساءَ، شُبهت بالأمة، لأنَّها تُصلح البيت وتزينه.
و(قوله: إن إبراهيم ابني قد مات في الثدي) أي: في حال رضاعه، أي:
(1)"الرَّخِلُ": الأنثى من أولاد الضأن.
وَإِنَّ لَهُ لَظِئرَينِ يكَمِّلَانِ رَضَاعَهُ فِي الجَنَّةِ.
رواه أحمد (3/ 112)، ومسلم (2316).
[2231]
وعن جَرِيرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَن لَا يَرحَم النَّاسَ لَا يَرحَمهُ اللَّهُ.
رواه أحمد (4/ 362)، والبخاريّ (6013)، ومسلم (2319).
[2232]
وعَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى الغَدَاةَ جَاءَ خَدَمُ المَدِينَةِ بِآنِيَتِهِم فِيهَا المَاءُ، فَمَا يُؤتَى بِإِنَاءٍ إِلَّا غَمَسَ يَدَهُ فِيهَا فَرُبَّمَا جَاؤوهُ فِي الغَدَاةِ البَارِدَةِ فَيَغمِسُ يَدَهُ فِيهَا.
رواه مسلم (2324).
ــ
لم يكمل مدَّة رضاعه. قيل: إنه مات وهو ابن ستة عشر شهرًا، وهذا القول: أخرجه فَرط الشفقة والرحمة والحزن.
و(قوله: إن له لظئرين يُكملان رضاعه في الجنة) هذا يدلُّ على أن حكمه حكم الشهيد، فإنَّ الله تعالى قد أجرى عليه رزقه بعد موته، كما قد أجرى ذلك على الشهيد (1)، حيث قال:{بَل أَحيَاءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ} وعلى هذا: فمن مات من صغار المسلمين بوجه من تلك الوجوه السبعة التي ذكرنا أنها أسباب الشهادة كان شهيدًا، ويلحق بالشهداء الكبار بفضل الله ورحمته إياهم، وإن لم يبلغوا أسنانهم، ولم يُكلَّفوا تكليفهم، قتل من الصغار في الحرب كان حكمه: حكم الكبير فلا يغسَّل، ولا يصلَّى عليه، ويدفن بثيابه كما يفعل بالكبير. وموافقة النبي صلى الله عليه وسلم لمن يطلب منه غمس يده في الماء، وللجارية التي كلَّمته: دليل
(1) في (م 2) و (ع): أخبر بذلك عن الشهداء.
[2233]
وعنه قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَادٍ حَسَنُ الصَّوتِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: رُوَيدك يَا أَنجَشَةُ لَا تَكسِر القَوَارِيرَ، يَعنِي ضَعَفَةَ النِّسَاءِ.
رواه البخاريُّ (6211)، ومسلم (2223)(73).
[2234]
وعَنه أَنَّ امرَأَةً كَانَ فِي عَقلِهَا شَيءٌ فَقَالَت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيكَ حَاجَةً، فَقَالَ: يَا أُمَّ فُلَانٍ انظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئتِ حَتَّى أَقضِيَ حَاجَتَكِ، فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعضِ الطُّرُقِ، حَتَّى فَرَغَت مِن حَاجَتِهَا.
رواه أحمد (3/ 98)، والبخاريُّ (6072)، ومسلم (2326)، وأبو داود (4819)، والترمذيُّ (324) في الشمائل، وابن ماجه (4177).
* * *
ــ
على كمال حسن خلقه وتواضعه، وإسعاف منه لمن طلب منه ما يجوز طلبه، وإن شق ذلك عليه، ويحصل لهم أجرٌ على نيَّاتهم، وبركة في أطعماتهم، وقضاء حاجاتهم، وقد كانت الأَمَة تأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت من المدينة، وهذا كمالٌ لا يعرفه إلا الذي خصَّه به.
و(قوله لأنجشة: رويدك) أي: رفقك، وهو منصوب نصب المصدر، أي: ارفق رفقَكَ.
وقوله في الأم (1): ويحك يا أنجشة! رويدًا سوقَكَ بالقوارير) ويحَ، قال سيبويه: ويحك: زجر لمن أشرف على الهلاك. وويل: لمن وقع فيه. وقال الفراء: ويح وويس بمعنى: ويل. وقال غيرهما: ويح: كلمة لمن وقع في هلكة لا يستحقها فيرثى له ويرحم. وويل بضدِّه، وويس: تصغير.
(1) هي في مسلم برقم (2323)(71).