الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(15) باب بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الإثم، وقيامه لمحارم الله عز وجل، وصيانته عما كانت عليه الجاهلية من صغره
[2238]
عَن عُروَةَ بنِ الزُّبَيرِ، عَن عَائِشَةَ زَوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَت: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَينَ أَمرَينِ إِلَّا أَخَذَ أَيسَرَهُمَا مَا لَم يَكُن إِثمًا، فَإِن كَانَ إِثمًا كَانَ أَبعَدَ النَّاسِ مِنهُ، وَمَا انتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفسِهِ إِلَّا أَن تُنتَهَكَ حُرمَةُ اللَّهِ.
ــ
[(15) ومن باب: بُعد النبي صلى الله عليه وسلم من الإثم وقيامه لمحارم الله عز وجل](1)
(قول عائشة: ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما) تعني: أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا خيَّره أحد في شيئين يجوز له فعل كل واحد منهما، أو عرضت عليه مصلحتان، مال للأيسر (2) منهما، وترك الأثقل، أخذًا بالسُّهولة لنفسه، وتعليمًا لأمَّته. فإذا كان في أحد الشيئين إثم تركه، وأخذ الآخر، وإن كان الأثقل.
وكونه صلى الله عليه وسلم سقط إلى الأرض لما جعل إزاره على عنقه، يدلّ: على أن الله تعالى حفظه من صغره، وتولى تأديبه بنفسه، ولم يكله في شيء من ذلك لغيره، ولم يزل الله يفعل ذلك به حتى كره له أحوال الجاهلية، وحماه عنها، حتى لم يجر عليه شيء منها. كل ذلك لطفٌ به، وعطفٌ عليه، وجمع للمحاسن لديه.
و(قولها: ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى) يعني: أنه كان يصبر على جهل من جهل عليه، ويحتمل جفاه، ويصفح عمَّن أذاه في خاصة نفسه، كصفحه عمَّن قال: يا محمد! اعدل، فإنَّ هذه قسمة ما أريد بها وجه
(1) ما بين حاصرتين ليست في الأصول، واستدرك من التلخيص.
(2)
في (م 3): للأصلح.
رواه أحمد (6/ 162)، والبخاريّ (3560)، ومسلم (2327)(77)، وأبو داود (4785).
[2239]
وعنها قَالَت: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَن يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
رواه أحمد (6/ 229)، ومسلم (2328)(79)، وأبو داود (4786).
ــ
الله تعالى، وما عدلت منذ اليوم! وكصفحه عن الذي جبذ رداءه عليه حتى شقَّه، وأثر في عنقه. فإنَّ قيل: فأذاه انتهاك حرمة من حرم الله، فكيف يترك الانتقام لله تعالى فيها؟ وكيف وقد قال الله تعالى:{يُؤذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} فالجواب: أنه صلى الله عليه وسلم ترك الانتقام مِمَّن آذاه استئلافًا وتركًا لما ينفِّر عن الدخول في دينه، كما قال صلى الله عليه وسلم: لئلا يتحدث الناس أن محمَّدًا يقتل أصحابه (1). وقد قال مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعفو عمَّن شتمه، مشيرًا إلى ما ذكرنا. وإذا تقرر هذا فمراد عائشة رضي الله عنها بقولها: إلا أن تنتهك حرمة الله: الحرمة التي لا ترجع لحق النبي صلى الله عليه وسلم، كحرمة الله، وحرمة محارمه، فإنَّه كان يقيم حدود الله على من انتهك شيئًا منها، ولا يعفو عنها، كما قال في حديث السَّارقة: لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها (2)، لكن ينبغي أن يفهم: أن صفحه عمَّن آذاه كان مخصوصًا به وبزمانه لما ذكرناه، وأما بعد ذلك فلا يُعفى عنه بوجه.
قال القاضي عياض رحمه الله: أجمع العلماء على أن من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم كفر. واختلفوا، هل حكمه حكم المرتد يُستتاب؟ أو حكم الزنديق لا يُستتاب؟ وهل قتله للكفر أو للحدِّ؟ فجمهورهم: على أن حكمه حكم الزنديق، لا تقبل
(1) سبق تخريجه.
(2)
رواه البخاري (3475)، ومسلم (1688)(8)، وأبو داود (4373)، والترمذي (1430)، والنسائي (8/ 73 - 74)، وابن ماجه (2547).
[2240]
وعن جَابِرَ بنَ عَبدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنقُلُ مَعَهُم الحِجَارَةَ إلى الكَعبَةِ وَعَلَيهِ إِزَارُهُ، فَقَالَ لَهُ العَبَّاسُ: يَا ابنَ أَخِي، لَو حَلَلتَ إِزَارَكَ فَجَعَلتَهُ عَلَى مَنكِبِكَ دُونَ الحِجَارَةِ! فَجَعَلَهُ عَلَى مَنكِبِهِ فَسَقَطَ مَغشِيًّا عَلَيهِ. قَالَ: قال: فَمَا رُئِيَ بَعدَ ذَلِكَ اليَومِ عُريَانًا.
رواه أحمد (3/ 310)، والبخاريُّ (364)، ومسلم (340)(77).
* * *
ــ
توبته. وهو مشهور مذهب مالك، وقول الشافعي، وأحمد، وإسحاق. ورأوا: أن قتله للحدِّ، ولا ترفعه التوبة، لكن تنفعه عند الله تعالى، ولا يسقط حد القتل عنه. وقال أبو حنيفة والثوري: هي كفر وردَّة، وتقبل توبته إذا تاب. وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك.
واختلفوا في الذمِّي إذا سبَّه بغير الوجه الذي به كَفَر، فعامَّة العلماء: على أنه يقتل لحق النبي صلى الله عليه وسلم. وأبو حنيفة، والثوري، والكوفيون لا يرون قتله. قالوا: ما هو عليه من الكفر أشد.
واختلف أهل المدينة وأصحاب مالك في قتله إذا سبه بالوجه الذي به كَفَرَ، من تكذيبه، وجَحد نبوَّته، والأصح الأشهر قتله. واختلفوا في الكافر بعد سبِّه، هل يسقط ذلك القتل عنه أم لا؟ والأشهر عندنا: سقوطه، لأنَّ الإسلام يجبُّ ما قبله. وحكى أبو محمد بن نصر في درء القتل (1) عنه روايتين.
ويستفاد من حديث عائشة رضي الله عنها ترغيب الحكام، وولاة الأمور في الصفح عمن جهل عليهم، وجفاهم، والصبر على أذاهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، وأن الحاكم لا يحكم لنفسه. وقد أجمع العلماء: على أن القاضي لا يحكم لنفسه، ولا لمن لا تجوز شهادته له، على ما حكاه عياض رحمه الله.
(1) في (م 3): الحدّ.