الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(32) باب في وفاة موسى عليه السلام
[2286]
عَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: أُرسِلَ مَلَكُ المَوتِ إِلَى مُوسَى عليه السلام، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ وَفَقَأَ عَينَهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ: أَرسَلتَنِي إِلَى عَبدٍ لَا يُرِيدُ المَوتَ، قَالَ: فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيهِ عَينَهُ وَقَالَ: ارجِع إِلَيهِ فَقُل لَهُ: يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتنِ ثَورٍ فَلَهُ بِمَا غَطَّت يَدُهُ بِكُلِّ شَعرَةٍ سَنَةٌ قَالَ: أَي رَبِّ ثُمَّ مَه؟ قَالَ: ثُمَّ المَوتُ. قَالَ: فَالآنَ فَسَأَلَ اللَّهَ أَن يُدنِيَهُ مِن الأَرضِ المُقَدَّسَةِ رَميَةً بِحَجَرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَو كُنتُ ثَمَّ، لَأَرَيتُكُم قَبرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، تَحتَ الكَثِيبِ الأَحمَرِ.
وفي رواية: قال: جَاءَ مَلَكُ المَوتِ إِلَى مُوسَى عليه السلام فَقَالَ لَهُ: أَجِب رَبَّكَ، قَالَ: فَلَطَمَ مُوسَى عليه السلام عَينَ مَلَكِ المَوتِ فَفَقَأَهَا. وذكر نحوه.
رواه أحمد (2/ 315)، والبخاريُّ (3407)، ومسلم (2372)(157 و 158).
* * *
ــ
(32)
ومن باب وفاة موسى عليه السلام
قوله: جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام فقال: أجب ربَّك، فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها، فرجع إلى ربِّه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ظاهر هذا الحديث: أن ملك الموت تمثل لموسى في صورة لها عين، وأنه دعاه لقبض روحه، وأن موسى عرف أنه ملك الموت، وأنه لطمه بيده على عينه ففقأها، ولما ظهر هذا من هذا الحديث شنَّعته الملحدة، وقالوا: إن هذا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كله محال، ولا يصح.
وقد اختلفت أقوال علمائنا في تأويل هذا الحديث. فقال بعضهم: كانت عينًا متخيَّلة لا حقيقية. ومنهم من قال: هي عين معنوية. وإنما فقأها بالحجَّة، وهذان القولان لا يلتفت إليهما لظهور فسادهما، وخصوصًا الأول، فإنَّه يؤدي إلى: أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له، وهو قول باطل بالنصوص المنقولة، والأدلة المعقولة. ومنهم من قال: كان ذلك ابتلاء وامتحانًا لملك الموت، فإنَّ الله تعالى يمتحن خلقه بما شاء. وهذا ليس بجواب، فإنَّه إنما وقع الإشكال في صدور سبب هذا الامتحان من موسى، وكيف يجوز وقوع مثل هذا؟ وأشبه ما قيل فيه: ما قاله الشيخ الإمام أبو بكر بن خزيمة، وهو أن موسى عليه السلام لم يعرف ملك الموت، وأنه رأى رجلًا دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه، فدافع عن نفسه، فلطم عينه، ففقأها. وتجب المدافعة في مثل هذا بكل ممكن. وهذا وجه حسن، غير أن هذا اعترض عليه بما في الحديث، وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله قال: يا رب! أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فلو لم يعرفه موسى - وإنما دفعه عن نفسه - لما صدق هذا القول من ملك الموت.
قلت: وقد أظهر لي ذو الطول والإفضال وجهًا حسنًا يحسم مادة الإشكال، وهو أن موسى عَرَف ملك الموت، وأنه جاء ليقبض روحه، لكنه جاء مجيء الجازم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا صلى الله عليه وسلم من: أن الله تعالى لا يقبض روح نبي حتى يخيره (1)، فلمَّا جاءه على غير الوجه الذي أعَلِم به، بادر بشهامته، وقوة نفسه إلى أدب ملك الموت، فلطمه فانفقأت عينه امتحانًا لملك الموت، إذ لم يصرح له بالتخيير، ومما يدل على صحة هذا: أنه لما رجع إليه ملك الموت، فخيَّره بين الحياة والموت، اختار الموت واستسلم، وهذا الوجه - إن شاء الله - أحسن ما قيل فيه وأسلم، وقد تقدَّم القول
(1) رواه البخاري (6509)، ومسلم (2444)(87).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
في تمثل الملائكة في الصور المختلفة عقلًا، وثبوت وقوع ذلك نقلًا.
و(قوله: قال: أي رب! ثم مه؟ قال؟ ثم الموت. قال: فالآن) مه: هي ما الاستفهامية، لما وقف عليها زاد هاء السكت وهي: لغة العرب إذا وقفوا على أسماء الاستفهام، نحو: عمه، ولمه، وفيمه، فإذا وصلوا حذفوها. وفالآن: ظرف زمان غير متمكن، وهو اسم لزمان الحال الذي يكون المتكلم عليها، وهو الزمان الفاصل بين الماضي والمستقبل، وهذا يدلّ على: أن موسى لما خيَّره الله بين الحياة والموت، اختار الموت شوقًا للقاء الله عز وجل، واستعجالًا لما له عند الله من الثواب والخير، واستراحة من الدنيا المكدرة. وهذا كما خُيِّر نبينا صلى الله عليه وسلم عند موته، فقال: اللهم الرفيق الأعلى (1).
و(قوله: فسأل الله تعالى أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر) أي: مقدار رمية بحجر، فهو منصوب على أنه ظرف مكان. والأرض المقدسة: هي البيت المقدَّس، وإنَّما سأل موسى عليه السلام ذلك تبركًا بالكون في تلك البقعة، وليدفن مع من فيها من الأنبياء، والأولياء، ولأنها أرض المحشر على ما قيل.
و(قوله: ولو كنت ثمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر) ثمَّ - مفتوحة الثاء -: اسم يشار به إلى موضع، فأمَّا ثمَّ - بضم الثاء -: فحرف عطف. ويعني بالطريق: طريق بيت المقدس، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ في طريقه إلى بيت المقدس - ليلة أسري به - بقبر موسى وهو قائم يصلي فيه، وهذا يدل على أن قبر موسى أخفاه الله تعالى عن الخلق، ولم يجعله مشهورًا عندهم، ولعل ذلك لئلا يُعبَد، والله أعلم. وقد وقع في الرواية الأخرى: إلى جانب الطور
(1) رواه البخاري (6510)، ومسلم (2191).