الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(3) باب كيفية التفقه في كتاب الله والتحذير من اتباع ما تشابه منه وعن المماراة فيه
[2596]
عَن عَائِشَةَ قَالَت: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتَابَ مِنهُ آيَاتٌ مُحكَمَاتٌ
ــ
الجماعة (1) يعني جماعة أصحابي ومن تابعهم على هديهم، وسلك طريقهم كما قال في حديث الترمذي.
وقد تبين بهذه الأحاديث أن هذا الافتراق المحذر منه إنما هو في أصول الدين وقواعده لأنه قد أطلق عليها مللا، وأخبر أن التمسك بشيء من تلك الملل موجب لدخول النار، ومثل هذا لا يقال على الاختلاف في الفروع، فإنه لا يوجب تعديد الملل، ولا عذاب النار، وإنما هو على أحد المذهبين السابقين إما مصيب فله أجران ، وإما مخطئ فله أجر، على ما ذكرناه في الأصول. والضب حرذون الصحراء وجحره خفي، ولذلك ضرب به المثل.
(3)
ومن باب كيفية التفقه في كتاب الله
(قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتَابَ مِنهُ آيَاتٌ مُحكَمَاتٌ} الآية) اختلف الناس في المحكمات والمتشابهات، على أقوال كثيرة، منها أن المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ.
ومنها أن المحكم هو القرآن كله، والمتشابه الحروف المقطعة في أوائل السور.
(1) رواه أبو داود (4596).
هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ وَابتِغَاءَ تَأوِيلِهِ وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِن عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلبَابِ}
ــ
ومنها: أن المحكم آيات الأحكام، والمتشابه: آيات الوعيد. ومنها: أن المتشابه آيات إبهام قيام الساعة، والمحكم: ما عداها.
ومنها: أن المحكم ما وضح معناه وانتفى عنه الاشتباه، والمتشابه: نقيضه. وهذا أشبه ما قيل في ذلك، لأنَّه جار على وضع اللسان، وذلك أن المحكم اسم مفعول من: أحكم. والإحكام: الإتقان. ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه، ولا تردد، وإنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته، واتفاق تركيبها، ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال، وإلى نحو ما ذكرناه صار جعفر بن محمد، ومجاهد، وابن إسحاق.
و(قوله: {هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ} أي: أصله الذي يرجع إليه عند الإشكال والاستدلال، ومنه سُميت الفاتحة: أم القرآن، لأنَّها أصله؛ إذ هي آخذة بجملة علومه، فكأنه قال: المحكمات: أصول ما أشكل من الكتاب، فتعين رد ما أشكل منه إلى ما وضح منه، وهذا أيضًا أحسن ما قيل في ذلك.
و(قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ وَابتِغَاءَ تَأوِيلِهِ} الزيغ: الميل عن الحق، وابتغاء الفتنة: طلب الفتنة، وهي الضلال. مجاهد: الشك. وتأويله ما آل إليه أمره، وكنه حقيقته، فكأنهم تعمقوا في التأويل طلبا لكنه الأمر وحقيقته، فكره لهم التعمق.
و(قوله: {وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} أي: ما يعلم حقيقة ما أريد بالمتشابه إلا الله. والوقف على (الله) أولى.
و(قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِن عِندِ رَبِّنَا} جملة
قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا رَأَيتُم الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّاهم اللَّهُ فَاحذَرُوهُم.
رواه أحمد (6/ 48)، والبخاريُّ (4547)، ومسلم (2665)، وأبو داود (4598)، والترمذي (2993)، وابن ماجه (47).
ــ
ابتدائية مستأنفة، مقتضاها: أن حال الراسخين عند سماع المتشابه الإيمان والتسليم، وتفويض علمه إلى الخبير العليم، وهذا قول ابن مسعود وغيره. وقيل: والراسخون: معطوف على الله تعالى، حكي عن علي وابن عباس، والأول أليق وأسلم.
و(قوله: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله، فاحذروهم) يعني: يتبعونه ويجمعونه طلبا للتشكيك في القرآن، وإضلالا للعوام، كما فعلته الزنادقة والقرامطة الطاعنون في القرآن، أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما وقع في الكتاب والسنة مما يوهم ظاهره الجسمية، حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم، وصورة مصورة ذات وجه، وعين ويد وجنب، ورجل، وإصبع، تعالى الله عن ذلك، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن سلوك طريقهم.
فأمَّا القسم الأول، فلا شك في كفرهم، وأن حكم الله فيهم القتل من غير استتابة.
وأما القسم الثاني، فالصحيح القول بتكفيرهم، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور، ويستتابون؛ فإن تابوا وإلا قُتلوا، كما يفعل بمن ارتد.
فأمَّا من يتبع المتشابه، لا على تلك الجهتين، فإن كان ذلك على إبداء تأويلاتها، وإيضاح معانيها، فذلك مختلف في جوازه بناء على الخلاف في جواز تأويلها، وقد عرف أن مذهب السلف ترك التعرض لتأويلاتها مع قطعهم باستحالة
[2597]
وعن عَبد اللَّهِ بن عَمرٍو قَالَ: هَجَّرتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَومًا قَالَ: فَسَمِعَ أَصوَاتَ رَجُلَينِ اختَلَفَا فِي آيَةٍ، فَخَرَجَ عَلَينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعرَفُ فِي وَجهِهِ الغَضَبُ، فَقَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَن كَانَ قَبلَكُم بِاختِلَافِهِم فِي الكِتَابِ.
رواه مسلم (2666).
ــ
ظواهرها. ومذهب غيرهم: إبداء تأويلاتها، وحملها على ما يصح حمله في اللسان عليها من غير قطع متعين محمل منها. وأما من يتبع المتشابه على نحو ما فعل صبيغ، فحكمه حكم عمر رضي الله عنه فيه، الأدب البليغ.
والراسخ في العلم: هو الثابت فيه، المتمكن منه.
و(قوله: هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما) أي: خرجت إليه في الهاجرة، وهي: شدة الحر.
و(قوله: فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج يعرف في وجهه الغضب، فقال: إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب) هذا الاختلاف لم يكن اختلافا في القراءة، لأنَّه صلى الله عليه وسلم قد سوغ أن يقرأ القرآن على سبعة أحرف كما تقدَّم، ولم يكن أيضًا في كونها قرآنا، لأنَّ ذلك معلوم لهم ضرورة، ومثل هذا لا يختلف فيه المسلمون، ولا يقرون عليه؛ فإنَّه كفر، فلم يبقَ إلا أنه كان اختلافا في المعنى. ثم تلك الآية يحتمل أن كانت من المحكمات الظاهرة المعنى، فخالف فيها أحدهما الآخر، إما لقصور فهم، وإما لاحتمال بعيد، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ إذ قد ترك الظاهر الواضح، وعدل إلى ما ليس كذلك، ويحتمل أن كانت من المتشابه، فتعرضوا لتأويلها، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فيكون فيه حجَّة لمذهب السلف في التسليم للمتشابهات، وترك تأويلها.
[2598]
وعَن جُندَبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقرَؤُوا القُرآنَ مَا ائتَلَفَت عَلَيهِ قُلُوبُكُم، فَإِذَا اختَلَفتُم فِيهِ فَقُومُوا.
رواه أحمد (4/ 312)، والبخاريُّ (5061)، ومسلم (2667)(3).
* * *
ــ
و(قوله: اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا) يحتمل هذا الخلاف أن يحمل على ما قلناه آنفا. قال القاضي: وقد يكون أمره بالقيام عند الاختلاف في عصره وزمنه؛ إذ لا وجه للخلاف والتنازع حينئذ، لا في حروفه، ولا في معانيه، وهو صلى الله عليه وسلم حاضر معهم، فيرجعون إليه في مشكله، ويقطع تنازعهم بتبيانه.
قلت: ويظهر لي أن مقصود هذا الحديث الأمر بالاستمرار في قراءة القرآن، وفى تدبره، والزجر عن كل شيء يقطع عن ذلك. والخلاف فيه في حالة القراءة قاطع عن ذلك في أي شيء كان، من حروفه أو معانيه، والقلب إذا وقع فيه شيء لا يمكن رده على الفور، فأمرهم بالقيام إلى أن تزول تشويشات القلب. ويستفاد هذا من قوله: اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإن القراءة باللسان، والتدبر بالقلب، فأمر باستدامة القراءة مدة دوام تدبر القلب، فإذا وقع الخلاف في تلك الحال انصرف اللسان عن القراءة، والقلب عن التدبر. وعلى هذا فمن أراد أن يتلو القرآن، فلا يبحث عن معانيه في حال قراءته مع غيره، ويفرد لذلك وقتا غير وقت القراءة. والله أعلم.
والحاصل: أن الباحثين في فهم معاني القرآن يجب عليهم أن يقصدوا ببحثهم التعاون على فهمه واستخراج أحكامه، قاصدين بذلك وجه الله تعالى، ملازمين الأدب والوقار، فإن اتفقت أفهامهم، فقد كملت نعمة الله تعالى عليهم، وإن اختلفت وظهر لأحدهما خلاف ما ظهر للآخر، وكان ذلك من مثارات الظنون ومواضع الاجتهاد، فحق كل واحد أن يصير إلى ما ظهر له، ولا يثرب على الآخر ولا يلومه، ولا يجادله، وهذه حالة الأقوياء والمجتهدين، وأما من لم