الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(29) باب في ذكر إبراهيم عليه السلام
[2280]
عَن أَنَسِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا خَيرَ البَرِيَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ذَاكَ إِبرَاهِيمُ عليه السلام.
رواه أحمد (3/ 178)، ومسلم (2369)، وأبو داود (4672)، والترمذيُّ (3349).
ــ
وكذبت ما ظهر من ظاهر السَّرقة، فإنَّه يحتمل: أن يكون الرجل أخذ ما له فيه حق، أو يكون صاحبه قد أذن له في ذلك، ويحتمل أن يكون أخذه ليقلبه، وينظر إليه.
ويستفاد من هذا الحديث درء الحد بالشبهة.
(29)
ومن باب ذكر إبراهيم عليه السلام
قوله صلى الله عليه وسلم للذي قال له: يا خير البرية: ذاك إبراهيم البرية: الخلق، وتهمز، ولا تهمز، وقد قرئ بهما، واختلف في اشتقاقها، فقيل: هي مأخوذة من البراء، وهي: التراب. فعلى هذا لا يهمز. وقيل: هي مأخوذة من برأ الله الخلق - بالهمز -، أي: خلقهم، وعلى هذا فيهمز، وقد يكون من هذا، وتسهل همزتها، كما سهلوا همزة خابية، وهي من: خبأت مهموزًا. والبرية في الوجهين: فعيلة بمعنى مفعولة، وقد عارض هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: أنا سيِّد ولد آدم (1). وما علم من غير ما موضع من الكتاب والسُّنَّة، وأقوال السلف والأمَّة: أنه أفضل ولد آدم، وقد انفصل عن هذا بوجهين:
أحدهما: أن ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم على جهة التواضع، وترك التطاول على الأنبياء، كما قال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أكرم ولد آدم على
(1) رواه أحمد (4/ 107)، ومسلم رقم (2276)، والترمذي (3605).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ربي يوم القيامة ولا فخر (1). وخصوصًا على إبراهيم، الذي هو أعظم آبائه وأشرفهم.
وثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم بمنزلته عند الله تعالى، ثم إنه أعلم بأنه أكرم وأفضل، فأخبر به كما أمر، ألا ترى أنه كان في أول أمره يسأل أن يبلغ درجة إبراهيم من الصلاة عليه والرحمة، والبركة، والخلة، ثم بعد ذلك أخبرنا أن الله تعالى قد أوصله إلى ذلك لما قال: إن الله تعالى قد اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا (2) ثم بعد ذلك زاده الله من فضله، فشرَّفه، وكرَّمه، وفضله على جميع خلقه، وقد أورد على كل واحد من هذين الوجهين استبعاد. قال: رُدَّ على الأول، أن قيل: كيف يصح من الصادق المعصوم أن يخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه لأجل التواضع والأدب، والوارد على الثاني: أن ذلك خبر عن أمر وجودي، والأخبار الوجودية لا يدخلها النسخ. والجواب عنهما: أن يقال (3): إن ذلك ليس إخبارًا عن الشيء بخلاف ما هو عليه، فإنه تواضع يمنع إطلاق ذلك اللفظ عليه، وتأدب مع أبيه بإضافة ذلك اللفظ إليه، ولم يتعرض للمعنى، فكأنه قال: لا تطلقوا هذا اللفظ علي، وأطلقوه على أبي إبراهيم أدبًا معه، واحترامًا له. ولو صرَّح بهذا لكان صحيحًا غير مستبعد، لا عقلًا، ولا نقلًا، وهذا كما قال: لا تفضلوني على موسى (4) أي: لا تقولوا: محمد أفضل من موسى مخافة أن يُخيَّل نقص في المفضول، كما قدَّمناه ويأتي. بهذا أظهر هذا اللفظ أن ذلك راجع إلى
(1) رواه الترمذي (3620) وإسناده ضعيف.
(2)
رواه مسلم (532).
(3)
في (م 2) و (ع): نقول.
(4)
رواه مسلم (2373)، وأبو داود (4671)، والترمذي (3240) بلفظ:"لا تخيروني على موسى".
[2281]
وعن أبي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اختَتَنَ إِبرَاهِيمُ عليه السلام وَهُوَ ابنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالقَدُومِ.
رواه أحمد (2/ 322)، والبخاري (3356)، ومسلم (2370).
ــ
منع إطلاق لفظ وإباحته، فذلك خبر عن الحكم الشرعي، لا عن المعنى الوجودي، وإذا ثبت ذلك جاز رفعه، ووضعه، وصحَّ الحكم به، ونسخه من غير تعرُّض للمعنى، والله أعلم.
سلَّمنا أنه خبر عن أمر وجودي، لكن لا نسلم أن كل أمر وجودي لا يتبدل، بل: منها ما يتبدل، ولا يلزم من تبدله تناقض، ولا محال، ولا نسخ، كالإخبار عن الأمور الوضعية. وبيان ذلك: أن معنى كون الإنسان مكرَّما مفضلًا، إنما ذلك بحسب ما يُكرَّم به، ويُفضل على غيره، ففي وقت يُكرَّم بما يُساوي فيه غيره، وفي وقت يزاد على ذلك الغير، وفي وقت يُكرَّم بشيء لم يُكرَّم به أحد، فيقال: غلبه في المنزلة الأولى مُكرَّم مُقرَّب، وفي الثانية مُفضل بقيد. وفي الثالثة، مُفضل مطلقًا، ولا يلزم من ذلك تناقض، ولا نسخ، ولا مُحال، وهذا واضح وحسن جدًّا فاغتبط عليه (1)، وشدَّ عليه يدًا.
و(قوله: اختتن إبراهيم عليه السلام بالقدوم، وهو ابن ثمانين سنة) اختلف الرواة في تخفيف دال القدوم وتشديدها، واختلفوا أيضًا في معناها. فالذي عليه أكثر الرواة التخفيف، ويعني به: آلة النَّجَّار، وهو قول أكثر أهل اللغة في آلة النجارة. ورواه بعضهم مشدَّدًا. وفسَّره بعض اللغويين: بأنه موضع معروف بالشام، ومنهم من قال: بالسَّرَاة، وحكي عن أبي جعفر اللُّغوي: قدُّوم: المكان مشدَّد، معرفة، لا تدخله الألف واللام، قال: ومن رواه في حديث إبراهيم عليه السلام مخففًا فإنما يعني بها الآلة التي ينجر بها، وفي الصحاح: القدوم:
(1) في (م 2) و (ع): به.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الذي ينحت به مخففًا. قال ابن السِّكيت: لا تقل: قدُّوم بالتشديد، والجمع: قدم. قال الأعشى:
أقام به شاهَبُورُ الجنُو
…
د حَولَين يَضرِب فيه القُدُم
وجمع القُدُم: قدائم، مثل: قُلُص وقلائص، والقدوم أيضًا: اسم موضع مخفَّف.
قلت: ويحصل من أقوالهم: أن القدوم إذا أريد به الآلة فهو مخفف، وإذا أريد به الموضع ففيه التشديد والتخفيف، ويحتمل أن يراد بالقدوم في الحديث: الآلة والموضع.
و(قوله: وهو ابن ثمانين سنة) وفي غير كتاب مسلم: أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة، وعاش مائة وعشرين سنة.
قال القاضي عياض رحمه الله: قد جاء هذا الحديث من رواية مالك، والأوزاعي، وفيه: اختتن إبراهيم وهو ابن مائة وعشرين سنة. ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة. إلا أن مالكًا ومن تابعه وقفوه على أبي هريرة.
قلت: قد تقدَّم: أن إبراهيم أوَّل من اختتن، وأن ذلك لم تزل سُنَّة عامة معمولًا بها في ذريته وأهل الأديان المنتمين إلى دينه. وهو حكم التوراة على بني إسرائيل كلهم، ولم تزل أنبياء بني إسرائيل يختتنون حتى عيسى عليه السلام غير أن طوائف من النصارى تأوَّلوا ما جاء في التوراة من ذلك، بأن المقصود زوال غُلفَة القلب، لا جلدة الذكر، فتركوا المشروع من الختان بضرب من الهذيان، وليس هذا بأوَّل جهالاتهم، فكم لهم منها وكم! ويكفيك من ذلك: أنّهم زادوا على أنبيائهم في الفهم، وغلَّطوهم فيما عملوا عليه، وقضوا به من الحكم. وقد أسبغنا القول في هذا في كتاب الإعلام.
[2282]
وعنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَم يَكذِب إِبرَاهِيمُ النَّبِيُّ عليه السلام قَطُّ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ ثِنتَينِ فِي ذَاتِ اللَّهِ قَولُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} وَقَولُهُ: {بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا}
ــ
و(قوله: لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات، ثنتين في ذات الله، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله: {بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا} وواحدة في شأن سارة) قد تقدَّم الكلام على هذه الكذبات في كتاب الإيمان، وذكرنا هناك: أنها أربع، زيد فيها قوله للكوكب:{هَذَا رَبِّي} ولم يذكرها في هذا الحديث، مع أنه قد جاء بلفظ الحصر، فينبغي ألا يقال عليها: كذبة في حق إبراهيم، إذ قد نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحصر، وإنَّما لم تعد عليه كذبة وهي أدخل في الكذب من هذه الثلاث، لأنَّه - والله أعلم - حين قال ذلك في حال الطفولية، وليست حال تكليف، ويقوي هذا المعنى قول من حكى عنه ذلك، كما تقدَّم في الإيمان.
و(قوله: اثنتين في ذات الله) أي: في الدفع عن وجود الله، وبيان حجته على أن المستحق للإلهية هو الله تعالى لا غيره، فاعتذر عمَّا دعوه إليه من الخروج معهم بأنه سقيم، فورى بهذا اللفظ، وهو يريد خلاف ما فهموا عنه - كما بيَّناه في الإيمان - حتى يخلو بالأصنام فيكسرها، ففعل ذلك، وترك كبير الأصنام لينسب إليه كسرها بذلك (1)، قولًا يقطعهم به، فإنَّهم لما رجعوا من عيدهم فوجدوا الأصنام مكسَّرة:{قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} فقال بعضهم: {سَمِعنَا فَتًى يَذكُرُهُم يُقَالُ لَهُ إِبرَاهِيمُ} وكان هذا الذكر هو قول إبراهيم لهم: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصنَامَكُم بَعدَ أَن تُوَلُّوا مُدبِرِينَ} فلما أحضروه: قَالُوا: {أَأَنتَ فَعَلتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبرَاهِيمُ} فأجابهم بقوله:
(1) رواه مالك في الموطأ (2/ 922) موقوفًا على أبي هريرة بلفظ: "خمس من الفطرة" وأما الزيادة فرواها رزين كما في جامع الأصول (4/ 777).
وَوَاحِدَةٌ فِي شَأنِ سَارَةَ فَإِنَّهُ قَدِمَ أَرضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ، وَكَانَت أَحسَنَ النَّاسِ فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الجَبَّارَ إِن يَعلَم أَنَّكِ امرَأَتِي يَغلِبنِي عَلَيكِ،
ــ
{بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا فَاسأَلُوهُم إِن كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِم} أي: رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجَّة المتفطِّن لحجَّة خصمه: {فَقَالُوا إِنَّكُم أَنتُمُ الظَّالِمُونَ} أي: بعبادة من لا ينطق بلفظة، ولا يملك لنفسه لحظة، فكيف ينفع عابديه، ويدفع عنهم البأس من لا يردُّ عن رأسه الفأس:{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِم} أي: عادوا إلى جهلهم وعنادهم، فقالوا:{لَقَد عَلِمتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} فقال قاطعًا لما به يهذون، ومفحمًا لهم فيما يتقولون:{أَفَتَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُم شَيئًا وَلا يَضُرُّكُم * أُفٍّ لَكُم وَلِمَا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعقِلُونَ}
و(قوله: ذات الله) يعني به: وجود الله المنزه عن صفات المخلوقات، والمقدَّس عن ذوات المحدثات، وفيه دليل على جواز إطلاق لفظ الذات على وجود الله تعالى، فلا يُلتفت لإنكار من أنكر إطلاقه على المتكلمين.
و(قوله: وواحدة في شأن سارة) هذه الواحدة هي من إبراهيم عليه السلام مدافعة عن حكم الله تعالى الذي هو: تحريم سارة على الجبَّار، والثنتان المتقدِّمتان مدافعة عن وجود الله تعالى، فافترقا، فلذلك فرَّق في الإخبار بين النوعين.
و(قوله: إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك) قيل: إن ذلك الجبَّار كانت سيرته: أنه لا يغلبُ الأخ على أخته، ولا يظلمه فيها، وكان يغلب الزوج على زوجته، وعلى هذا يدلّ مساق (1) هذا الحديث، وإلا فما الذي فرَّق بينهما في حق جبَّار ظالم؟
(1) ليست في (ز) و (م 3).
فَإِن سَأَلَكِ فَأَخبِرِيهِ أَنَّكِ أُختِي فَإِنَّكِ أُختِي فِي الإِسلَامِ، فَإِنِّي لَا أَعلَمُ فِي الأَرضِ مُسلِمًا غَيرِي وَغَيرَكِ. فَلَمَّا دَخَلَ أَرضَهُ رَآهَا بَعضُ أَهلِ الجَبَّارِ أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: لَقَد قَدِمَ أَرضَكَ امرَأَةٌ لَا يَنبَغِي لَهَا أَن تَكُونَ إِلَّا لَكَ، فَأَرسَلَ إِلَيهَا فَأُتِيَ بِهَا فَقَامَ إِبرَاهِيمُ عليه السلام إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَمَّا دَخَلَت عَلَيهِ لَم يَتَمَالَك
ــ
و(قوله: فإنَّ سألك فأخبريه: أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام) هذا صحيح ليس فيه من الكذب شيء، وهذا كقوله تعالى:{إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ} لكن لما كان الأسبق للفهم من لفظ الأخوة إنما هي أخوَّة النسب، كان من باب المعاريض، لأنَّ ظاهر اللفظ يوهم شيئًا، ومراد المتكلم غيره. وقيل عليه كذب توسُّعًا، وأطلق النبي صلى الله عليه وسلم عليها كذبًا، لأنَّ الله تعالى قد أعلمه: أن إبراهيم يطلق ذلك على نفسه يوم القيامة كما تقدم في كتاب الإيمان، وأيضًا: فليُنبَّه بذلك على أن الأنبياء منزهون عن الكذب الحقيقي، لأنَّهم إذا كانوا يَفرَقُون من مثل هذه المعاريض التي يجادلون بها عن الله تعالى، وعن دينه، وهي من باب الواجب وتعد عليهم، كان أحرى وأولى أن لا يصدر عنهم شيء من الكذب الممنوع، وفي هذا ما يدلّ على جواز المعاريض والحيل في التخلص من الظَّلمة. بل نقول: إنه إذا لم يُخلِّص من الظالم إلا الكذب الصَّراح جاز أن يكذبَه، بل قد يجب في بعض الصور بالاتفاق بين الفِرَق، ككذبة تنجي نبيًّا، أو وليًّا ممن يُريد قتله، أو أمنًا من المسلمين من عدوهم.
وفيه: ما يدل على أن العمل بالأسباب المعتادة التي يرجى بها دفع مضرَّة، أو جلب منفعة لا يقدح في التوكل، خلافًا لما ذهب إليه جُهَّال المتوكِّلة، وقد تقدَّم كثير من نحو هذا.
وقول الجبَّار لسارة حين قبضت يده عنها: ادعي الله لي (1) يدلّ على أن هذا الجبَّار كان عنده معرفة بالله تعالى، وبأن لله من عباده من إذا دعاه أجابه، ومع
(1) ليست في التلخيص، ولا في صحيح مسلم. ووردت في جميع نسخ المفهم.
أَن بَسَطَ يَدَهُ إِلَيهَا فَقُبِضَت يَدُهُ قَبضَةً شَدِيدَةً، فَقَالَ لَهَا: ادعِي اللَّهَ أَن يُطلِقَ يَدِي وَلَا أَضُرُّكِ فَفَعَلَت، فَعَادَ فَقُبِضَت أَشَدَّ مِن القَبضَةِ الأُولَى فَقَالَ لَهَا مِثلَ ذَلِكَ فَفَعَلَت، فَعَادَ فَقُبِضَت أَشَدَّ مِن القَبضَتَينِ الأُولَيَينِ، فَقَالَ: ادعِي اللَّهَ أَن يُطلِقَ يَدِي فَلَكِ اللَّهَ أَن لَا أَضُرَّكِ فَفَعَلَت وَأُطلِقَت يَدُهُ، وَدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا وَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنَّمَا أَتَيتَنِي بِشَيطَانٍ وَلَم تَأتِنِي بِإِنسَانٍ، فَأَخرِجهَا مِن أَرضِي، وَأَعطِهَا هَاجَرَ، قَالَ: فَأَقبَلَت تَمشِي، فَلَمَّا رَآهَا إِبرَاهِيمُ عليه السلام انصَرَفَ فَقَالَ لَهَا: مَهيَم؟ قَالَت: خَيرًا كَفَّ اللَّهُ
ــ
ذلك فلم يكن مسلمًا، لأنَّ إبراهيم عليه السلام قد قال لسارة: ما أعلم على الأرض مسلمًا غيري وغيرك.
وقول الجبَّار: لك الله ألا أضرك الرواية فيه بالنصب، لا يجوز غيره، وهو قسم، ومقسم به، ومقسم عليه، وفيه حذف يتبيَّن بالتقدير، وتقدير ذلك: أقسم بالله على ألا أضرك، فحذف الخافض، فتعدَّى الفعل فنصب، ثم حذف فعل القسم، وبقي المقسم به - وهو الله تعالى - منصوبًا، وكذلك المقسم عليه وهو: ألا أضرك، يعني مفتوح همزة ألا، ويجوز في أضرك رفع الراء على أن تكون أن مخففة من الثقيلة، ويجوز فيها النصب على أن تكون أن الناصبة للفعل المضارع.
وقول الجبَّار للذي جاءه بسارة: إنما أتيتني بشيطان، ولم تأتني بإنسان) كلام يناقض قوله: ادعي الله لي فيكون ذمُّه لها عنادًا، بعد أن ظهر له كرامتها على الله، أو إخفاء لحالها لئلا يتحدث بما ظهر عليها من الكرامة، فتعظم في نفوس الناس وتُتَّبع، فلبَّس على السامع بقوله: إنما أتيتني بشيطان.
و(قول إبراهيم عليه السلام: مهيم) قال الخليل: هي كلمة لأهل اليمن خاصة. معناها: ما هذا؟ وفي الصحاح: هي كلمة يستفهم بها، معناها: ما حالك؟ وما شأنك؟ ونحوه قال الطبري.
و(قوله: قالت: خيرًا) هو منصوب بفعل مضمر، أي: فعل الله خيرًا. ثم
يَدَ الفَاجِرِ وَأَخدَمَ خَادِمًا، قَالَ أَبُو هُرَيرَةَ: فَتِلكَ أُمُّكُم يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ.
رواه أحمد (2/ 403 - 404)، والبخاري (2217)، ومسلم (2371)، وأبو داود (2212).
* * *
ــ
فسَّرت الخير بقولها: كبت (1) الله يد الفاجر، وأخدم خادمًا) أي: عصمها الله منه بما أظهر من كرامتها، وأعطاها الله خادمًا، وهي: هاجر. ويقال: آجر - بالهمزة يبدلونها من الهاء -.
وفيه: جواز قبول هدية المشرك، وقد تقدم القول فيها.
وقول أبي هريرة رضي الله عنه: فتلك أُمُّكم يا بني ماء السَّماء، فتلك: إشارة إلى هاجر، والمخاطب: العرب. قال الخطابي: سُمُّوا بذلك لانتجاعهم المطر، وماء السماء للرعي. وقال غيره: سُمُّوا بذلك لخلوص نسبهم، وصفائه. وشبَّهه بماء السماء. قال القاضي أبو الفضل: والأظهر عندي: أن المراد به الأنصار. نسبهم إلى جَدِّهم عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وكان يعرف بماء السماء، وهو مشهور. والأنصار كلهم بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر المذكور، والله أعلم.
* * *
(1) كذا في جميع النسخ، وهي موافقة لرواية البخاري (2217) أما في التلخيص وصحيح مسلم:"كفَّ".
ومعنى: كبتَ: أذلَّ وصرف.