الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(4) باب ذكر بعض كرامات رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال هجرته وفي غيرها
[2200]
عن البَرَاءَ بنَ عَازِبٍ قال: جَاءَ أَبُو بَكرٍ إِلَى أَبِي فِي مَنزِلِهِ فَاشتَرَى مِنهُ رَحلًا، فَقَالَ لِعَازِبٍ: ابعَث مَعِيَ ابنَكَ يَحمِلهُ مَعِي إِلَى مَنزِلِي. فَقَالَ لِي أَبِي: احمِلهُ. فَحَمَلتُهُ، وَخَرَجَ أَبِي مَعَهُ يَنتَقِدُ ثَمَنَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا أَبَا بَكرٍ، حَدِّثنِي كَيفَ صَنَعتُم لَيلَةَ سَرَيتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَم، أَسرَينَا لَيلَتَنَا كُلَّهَا، حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، وَخَلَا الطَّرِيقُ فَلَا يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ، حَتَّى رُفِعَت لَنَا صَخرَةٌ طَوِيلَةٌ لَهَا ظِلٌّ، لَم تَأتِ عَلَيهِ الشَّمسُ بَعدُ، فَنَزَلنَا عِندَهَا فَأَتَيتُ الصَّخرَةَ فَسَوَّيتُ بِيَدِي مَكَانًا يَنَامُ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ظِلِّهَا،
ــ
إليه، فكأنه قال: تنبَّهوا لهذا الرجل إذ مُنِع مِمَّا همَّ به، واستسلم لما يُفعَلُ فيه، ثم تلافاه النبي صلى الله عليه وسلم بعفوه وحلمه، وعاد عليه بعوائده الكريمة وصفحه، فلم يعرض له على ما كان منه.
(4)
ومن باب ذكر بعض كرامات النبي صلى الله عليه وسلم
الرَّحل للبعير: كالسرج للفرس، والإكاف للحمار. وسرى وأسرى لغتان، وقد جمع بينهما في هذا الحديث، وهو: سير الليل.
و(قوله: أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة) أي: اتصل سيرهم من الليل إلى أن قاربوا نصف النهار. وقائم الظهيرة: هو وهج حرِّها وشِدَّتُه.
و(قوله: رفعت لنا صخرة طويلة) أي: رفعها السراب فرأوها.
ثُمَّ بَسَطتُ عَلَيهِ فَروَةً، ثُمَّ قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نم وَأَنَا أَنفُضُ لَكَ مَا حَولَكَ. فَنَامَ وَخَرَجتُ أَنفُضُ مَا حَولَهُ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ مُقبِلٍ بِغَنَمِهِ إِلَى الصَّخرَةِ، يُرِيدُ مِنهَا الَّذِي أَرَدنَا، فَلَقِيتُهُ فَقُلتُ: لِمَن أَنتَ يَا غُلَامُ؟ فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِن أَهلِ المَدِينَةِ. قُلتُ: أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ؟ قَالَ: نَعَم. قُلتُ: أَفَتَحلُبُ لِي؟ قَالَ: نَعَم. فَأَخَذَ شَاةً فَقُلتُ لَهُ: انفُض الضَّرعَ مِن الشَّعَرِ وَالتُّرَابِ
ــ
و(قوله: وأنا أنفض لك ما حولك) أي: أنظر وأبحث فيما حولنا هل فيه ما يكره؟ يقال: إذا تكلَّمت بالليل فاخفض، وإذا تكلمت بالنهار فانفض، أي: التفت إلى ما حولك.
و(قوله للراعي: لمن أنت؟ فقال: لرجل من أهل المدينة) يعني بالمدينة هنا: مكة، لوجهين:
أحدهما: أنه إنما كانت هذه القصة في سفر هجرتهم، وإن هذا إنما كان في مبدأ سفرهم. ألا ترى قوله: أسرينا ليلتنا إلى أن قام قائم الظهيرة؟ ! فكأنهم إنما لقوا هذا الراعي بعد ليلة ونصف يوم من خروجهم من الغار. وذكر حديث سراقة في نفس هذا الحديث. يدل على أنه كان قريبًا من مكة.
وثانيهما: أنه قد روي من طريق أخرى عن البراء أنه قال للراعي: لمن أنت؟ قال: لرجل من أهل مكة، وسماها مدينة، لأنَّ كل بلد يسمى مدينة، ومنه قوله تعالى:{وَكَانَ فِي المَدِينَةِ تِسعَةُ رَهطٍ} ولم يرد به دار الهجرة بالاتفاق، وإنَّما سُمِّي البلد مدينة، لأن أهله (1) يدينون لمتوليه، أي يطيعون. وقيل: من الدين، وهو الملك.
والكثبة من اللبن وغيره: القليل المجتمع منه. وارتوى: افتعل من الري أي: أعدَّ فيها من الشراب ما يروي. والقعب: وعاء من خشب. والإداوة من جلد.
(1) في (ع): أهلها.
وَالقَذَى. قَالَ: فَرَأَيتُ البَرَاءَ يَضرِبُ بِيَدِهِ عَلَى الأُخرَى يَنفُضُ، فَحَلَبَ لِي فِي قَعبٍ مَعَهُ كُثبَةً مِن لَبَنٍ. قَالَ: وَمَعِي إِدَاوَةٌ أَرتَوِي فِيهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَشرَبَ مِنهَا وَيَتَوَضَّأَ. قَالَ: فَأَتَيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَكَرِهتُ أَن أُوقِظَهُ مِن نَومِهِ، فَوَافَقتُهُ استَيقَظَ، فَصَبَبتُ عَلَى اللَّبَنِ مِن المَاءِ حَتَّى بَرَدَ أَسفَلُهُ، فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اشرَب مِن هَذَا اللَّبَنِ. قَالَ: فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، ثُمَّ قَالَ:
ــ
و(قوله: وكرهت أن أوقظه) إنما كره ذلك، لأنَّ نومه ذلك كان راحة من تعب، ولأنهم كانوا يتوقعون أنه يوحى إليه في نومه، فإيقاظه يخاف أن يكون قطعًا للوحي.
و(قوله: فصببت على اللَّبن من الماء حتى برد أسفله) يعني: أنه صبَّ على إناء اللبن من الماء ليبرد اللبن، فإنَّه يخرج من الضرع حارًّا، وكان الوقت شديد الحرِّ. وعلى هذا فالمراد بأسفله: أسفل الإناء. ويحتمل أن يكون المراد به: أنه صبَّ الماء في اللبن ومزجه به. وخصَّ أسفل اللَّبن لأنه إذا برد أسفله برد أعلاه.
وشُرب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك اللَّبن مع علمه بأن الرَّاعي ليس بمالك - إذ قد صرَّح الراعي بذلك - مشكل، إذ الورع يقتضي التوقف، وقد اختلف فيه على أوجه:
أحدها: أنَّه علم عين المالك، وأنَّه كان ممن تطيب نفسه بذلك، وقد دل على ذلك: أن أحمد بن حنبل روى هذا الحديث في مسنده، فقال فيه: فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من قريش، فسمَّاه، فعرفتُه.
وثانيها: أن ذلك محمول على ما جرت به عوائد (1) العرب في إباحة ذلك القدر في مثل تلك الحال.
وثالثها: أن من احتاج في سفره، ومرَّ على غنم أو ثمر - وقد جاع أو عطش -
(1) في (ز): عادة.
أَلَم يَأنِ لِلرَّحِيلِ؟ . قُلتُ: بَلَى. قَالَ: فَارتَحَلنَا بَعدَمَا زَالَت الشَّمسُ، وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بنُ مَالِكٍ. قَالَ: وَنَحنُ فِي جَلَدٍ مِن الأَرضِ. فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُتِينَا. فَقَالَ: لَا تَحزَن، إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا. فَدَعَا عَلَيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَارتَطَمَت فَرَسُهُ إِلَى بَطنِهَا.
ــ
فله أن يسدَّ جوعته، ويروي عطشه منها، وإن لم يأذن المالك، وإن لم ينته الحال إلى الضرورة. وإليه ذهب الحسن، والزهري. والجمهور: على أن ذلك إنَّما يجوز لمن اضطر إلى ذلك.
ورابعها: أن ذلك مال كافر ليس له عهد، فيحل لمن ظفر به.
قلت: وفي هذا بُعد؛ [لأن تحليل الغنائم لم يكن شرع بعد](1) وأشبهها القول (2) الأول والثاني.
و(قوله: ألم يأن للرحيل) أي: قد حان وقته.
والجلد من الأرض: الموضع الصَّلب الغليظ منها.
و(قول أبي بكر رضي الله عنه: [أُتينا) أي: وُصل إلينا، وأحيط بنا. ومنه قوله تعالى:{أَتَاهَا أَمرُنَا لَيلا أَو نَهَارًا} وهذا من أبي بكر رضي الله عنه] (3) التفاتٌ إلى الأسباب العادية، ومقتضى الجبلَّة البشرية.
و(قوله صلى الله عليه وسلم: {لا تَحزَن إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}) أي: بالحفظ والنصرة. وهذا منه صلى الله عليه وسلم ثقة بالوعد الصادق، وتفويضٌ إلى الواحد الخالق.
و(قوله: ارتطمت فرسه إلى بطنها) أي: غاصت قوائمها حتى وصل بطنها إلى الأرض. يقال: ارتطم الرَّجل في الوحل: إذا ثبت فيه.
(1) ما بين حاصرتين سقط من (ج 2).
(2)
زيادة من (ع).
(3)
ما بين حاصرتين سقط من (ع) و (ز).
أُرَى فَقَالَ: إِنِّي عَلِمتُ أَنَّكُمَا قَد دَعَوتُمَا عَلَيَّ فَادعُوَا لِي، فَاللَّهُ لَكُمَا أَن أَرُدَّ عَنكُمَا الطَّلَبَ. فَدَعَا اللَّهَ فَنَجَا، فَرَجَعَ لَا يَلقَى أَحَدًا إِلَّا قَالَ: قَد كَفَيتُكُم مَا هَاهُنَا، فَلَا يَلقَى أَحَدًا إِلَّا رَدَّهُ. قَالَ: وَوَفَى لَنَا.
وفي رواية: فَلَمَّا دَنَا دَعَا عَلَيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَاخَ فَرَسُهُ فِي الأَرضِ إِلَى بَطنِهِ، وَوَثَبَ عَنهُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَد عَلِمتُ أَنَّ هَذَا عَمَلُكَ، فَادعُ اللَّهَ أَن يُخَلِّصَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، وَلَكَ عَلَيَّ لَأُعَمِّيَنَّ عَلَى مَن وَرَائِي، وَهَذِهِ كِنَانَتِي فَخُذ سَهمًا مِنهَا، فَإِنَّكَ سَتَمُرُّ عَلَى إِبِلِي وَغِلمَانِي بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَخُذ مِنهَا حَاجَتَكَ. قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي إِبِلِكَ. فَقَدِمنَا المَدِينَةَ لَيلًا،
ــ
و(قوله: أرى بضم الهمزة، أي: أظن أنها وصل بطنها إلى الأرض.
و(قول سراقة: قد علمت أنكما دعوتما عليّ، فادعوا لي) يدل على ما كان في نفوسهم من تعظيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، وإن كانوا مخالفين لهم.
و(قوله: فالله لكما أن أردَّ عنكما الطلب) الرواية الصحيحة: نصب الله ولا يجوز غير ذلك، لأنَّه قسم حذف حرف جره، فتعدَّى الفعل المَنوِيُّ فنَصَب، فكأنه قال: فأقسم بالله لكما عليَّ أن أُعمِّي خبركما، وأردّ عنكما من يطلبكما.
و(قوله: فدعا الله فنجا) هذه من بعض دعوات النبي صلى الله عليه وسلم المعجلة الإجابة، وهي من الكثرة بحيث تفوق الحصر، ويحصل بمجموعها القطع بأن الله تعالى قد أكرم محمدًا صلى الله عليه وسلم بإجابة دعواته، وأسعفه في كثير من طلباته، وكل ذلك يدل على مكانته، وصدق رسالته.
و(قوله: فقدمنا المدينة ليلًا) يعني: أنهم وصلوا إليها ليلًا، إلا أنهم أقاموا خارجًا منها، ثم دخلوها نهارًا، وهذا مبيَّن في حديث عائشة رضي الله عنها.
فَتَنَازَعُوا أَيُّهُم يَنزِلُ عَلَيهِ، فَقَالَ: أَنزِلُ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ أَخوَالِ عَبدِ المُطَّلِبِ أُكرِمُهُم بِذَلِكَ، فَصَعِدَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَوقَ البُيُوتِ، وَتَفَرَّقَ الغِلمَانُ وَالخَدَمُ فِي الطُّرُقِ يُنَادُونَ: يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
رواه أحمد (1/ 2 - 3)، والبخاريُّ (2439)، ومسلم (2009).
ــ
وقد أطبق أهل السِّير على: أنه دخل المدينة يوم الإثنين، [وأكثرهم يقول] (1): لثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول ضحى ذلك اليوم، وقيل: عند استواء الشمس منه.
و(قوله: أُنزِل على أخوال عبد المطلب) إنما كانت الأنصار أخوال عبد المطلب، لأنَّ أباه هاشِمًا تزوَّج سلمى ابنة زيد بن خداش من بني النجار، فولدت له عبد المطلب، فبنو النجار أخوال جدِّ النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك أكرمهم الله تعالى بنزول نبيَّه عليهم. وقد صحَّ في كتب السِّير وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في قباء، فأقام فيهم أيامًا، وأسَّس مسجدها، ثم خرج منها راكبًا ناقته متوجهًا حيث أمره الله تعالى، فأدركته الجمعة في بني سالم، فصلَاّها في بطن الوادي، ثم إنه توجه إلى دخول المدينة، فتعرضت له سادات قبائلها، كلهم يعرض عليه النزول، ويأخذ بخطام ناقته وهو يقول: دعوها، فإنَّها مأمورة (2) فلم تزل ناقته كذلك حتى وصلت إلى دار أبي أيوب فبركت عنده، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب رضي الله عنه وهذا هو الذي عبَّر عنه في هذا الحديث بقوله: فتنازعوا أيهم ينزل عليه، أي: تجاذبوا ذلك، وحرصوا عليه.
و(قوله: فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، والغلمان والخدم في الطرق)
(1) ما بين حاصرتين سقط من (ع).
(2)
سيرة ابن هشام (1/ 495).
[2201]
وعَن عُبَادَةَ بنِ الوَلِيدِ بنِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجتُ أَنَا وَأَبِي نَطلُبُ العِلمَ فِي هَذَا الحَيِّ مِن الأَنصَارِ قَبلَ أَن يَهلِكُوا، وَكَانَ أَوَّلُ
ــ
هذا عطفٌ على المعنى نحو قوله:
يا لَيتَ زَوجَكِ قَد غَدا
…
مُتقَلِّدًا سَيفًا وَرُمحًا
و:
عَلَفتُها تبنًا وماءً باردًا (1)
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لأن الطرق لا يصعد فيها، فكأنه قال: وتفرَّق الغلمان والخدم في الطرق، والكل ينادون: يا محمد! يا رسول الله! كلُّ ذلك فرحٌ وسرور بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حديث أبي اليَسَر، واسمه: كعب بن عمرو بن عزيبٍ من بني سلمة. شهد العقبة وبدرًا، فهو عَقَبِيٌّ، بدريٌّ، وهو الذي أسر العباس بن عبد المطلب يوم بدرٍ، وكان رجلًا قصيرًا، والعباس طويل ضخم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أعانك عليه مَلَكٌ (2)، وهو الذي انتزع راية المشركين من يد أبي عزيز يوم بدرٍ. شهد صفين مع عليّ رضي الله عنهما، يُعَدُّ في أهل المدينة، وبها توفي سنة خمس وخمسين.
و(قول عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت: خرجت أنا وأبي نطلبُ العلمَ في هذا الحي من الأنصار، قبل أن يهلكوا) دليل على ما كان عليه أهلُ ذلك الصدر من حرصهم على طلب علم (3) الحديث، والرحلة إلى أهله، والاجتهاد في
(1) هذا صدر البيت، وعجزه:
حتى شَتَتْ همالةً عيناها
(2)
رواه أحمد (1/ 353).
(3)
في (ز) و (م 3): حمل.
مَن لَقِينَا أَبَا اليَسَرِ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ، مَعَهُ ضِمَامَةٌ مِن صُحُفٍ، وَعَلَى أَبِي اليَسَرِ بُردَةٌ وَمَعَافِرِيَّ، وَعَلَى غُلَامِهِ بُردَةٌ وَمَعَافِرِيَّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا عَمِّ، إِنِّي أَرَى فِي وَجهِكَ سَفعَةً مِن غَضَبٍ، قَالَ: أَجَل، كَانَ لِي عَلَى فُلَانِ ابنِ فُلَانٍ الحَرَامِيِّ مَالٌ، فَأَتَيتُ أَهلَهُ فَسَلَّمتُ فَقُلتُ: ثَمَّ هُوَ؟ قَالُوا: لَا. فَخَرَجَ عَلَيَّ ابنٌ لَهُ جَفرٌ، فَقُلتُ لَهُ: أَينَ أَبُوكَ؟ قَالَ: سَمِعَ صَوتَكَ فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي. فَقُلتُ: اخرُج إِلَيَّ، فَقَد عَلِمتُ أَينَ أَنتَ. فَخَرَجَ، فَقُلتُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَن اختَبَأتَ مِنِّي؟ قَالَ: أَنَا! وَاللَّهِ أُحَدِّثُكَ، ثُمَّ
ــ
تحصيله، كل ذلك منهم سعي في تحقيق الدِّين، وإظهاره، ونقله، وإبلاغه، جدد الله عليهم الرحمة، فلقد سلكوا طريقًا أفضت بهم إلى الجنة.
غريب هذا الحديث:
الحي: القبيل. وضِمامة من صحف: هو بكسر الضاد بغير ألف، كذا وقع في كتاب مسلم، وصوابه: إضمامةٌ، وهي الإضبارة أيضًا. وجمعها أضاميم، وكل شيء ضممت بعضه إلى بعض فهو إضمامةٌ. والصحف: جمع صحيفة، وهي الورقة من الكتب، وكل ما انبسط فهو صحيفة. ومنه: صحفة الطعام. والبرد: الشملة المخططة، وجمعها: برد وبرود. ومَعافِري: بفتح الميم، ثوب منسوب إلى معافر، وهي محلة بالفسطاط، [قاله أبو الفرج. وقيل: هو رجل كان يعملها] (1). والسُّفعة: تغيُّر اللون بسواد مشرب بحمرة، قاله الخليل. والجفر من الغلمان: الذي قوي منهم في نفسه، وقوي في أكله. يقال منه: استجفر الصبي: إذا صار كذلك، وأصله في أولاد الغنم، فإذا أتى عليه أربعة أشهر، وفصل عن أمه، وأخذ في الرعي، قيل عليه جفر، والأنثى جفرة. والأريكة: واحدة الأرائك، وهي: السرير الذي عليه كِلَّة، وهي: الحَجَلَة.
(1) ما بين حاصرتين سقط من (ع).
لَا أَكذِبُكَ، خَشِيتُ وَللَّهِ أَن أُحَدِّثَكَ فَأَكذِبَكَ، وَأَن أَعِدَكَ فَأُخلِفَكَ، وَكُنتَ صَاحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُنتُ وَاللَّهِ مُعسِرًا. قَالَ قُلتُ: آللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهِ. قُلتُ: آللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهِ. قُلتُ: آللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهِ. قَالَ: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ، فَقَالَ: إِن وَجَدتَ قَضَاءً فَاقضِنِي، وَإِلَّا فأَنتَ فِي حِلٍّ. فَأَشهَدُ بَصَرُ عَينَيَّ هَاتَينِ، - وَوَضَعَ إِصبَعَيهِ عَلَى عَينَيهِ - وَسَمعُ أُذُنَيَّ هَاتَينِ،
ــ
و(قول المدين: خشيت والله أن أحدثك فأكذبك، وأعدك فأخلفك، وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان هذا الغريم صادقًا في حاله، متقيًّا على دينه، محترمًا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما علم منه ربُّ الدَّين ذلك كلَّه محا عنه صحيفته، وأنظره إلى الميسرة، كما قال تعالى (1).
وفيه ما يدلّ على أن ربَّ الدَّين إذا علم بعُسرة غريمه، أو ظنَّها حرمت عليه مطالبته، وإن لم تثبت عسرته عند الحاكم.
و(قوله: آلله؟ قال: الله هو ممدود لأنها همزة الاستفهام دخلت على الهمزة المعوضة من باء القسم.
و(قوله: فأشهد بصر عيني هاتين، وسمع أذني هاتين) هكذا رواية العذري بفتح الصاد، ورفع الراء على المصدر المضاف إلى ما بعده، وكذلك سمع أذني بتسكين الميم، ورواهما الطبري بصُرَ - بضم الصاد، وفتح الراء - على الفعل الماضي، وعيناي مرفوع على الفاعل، وكذلك: سَمِع أذناي غير أنه كسر الميم، وكذا عند أبي علي الغساني، ورواية الطبري أوضح، وأقل كلفة، فإنَّ رواية العذري يحتاج فيها إلى إضمار خبر للمبتدأ الذي هو: بصر. تقديره: بصر عيني حاصل، أو متعلق، ثم إنه بعد هذا يعطف على هذه الجملة الاسمية جملة فعليَّة التي هي قوله: ووعاه قلبي، والأحسن في عطف الجمل مراعاة المجانسة في المعطوف، والمعطوف عليه، فرواية الطبري أولى.
(1) إشارة إلى قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].
وَوَعَاهُ قَلبِي - وَأَشَارَ إِلَى نياطِ قَلبِهِ - رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: مَن أَنظَرَ مسلمًا أَو وَضَعَ عَنهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ.
قَالَ فَقُلتُ لَهُ أَنَا: يَا عَمِّ، لَو أَنَّكَ أَخَذتَ بُردَةَ غُلَامِكَ وَأَعطَيتَهُ مَعَافِرِيَّكَ، وَأَخَذتَ مَعَافِرِيَّهُ وَأَعطَيتَهُ بُردَتَكَ، فَكَانَت عَلَيكَ حُلَّةٌ وَعَلَيهِ حُلَّةٌ. فَمَسَحَ رَأسِي وَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارِك فِيهِ، يَا ابنَ أَخِي، بَصَرُ عَينَيَّ هَاتَينِ، وَسَمعُ أُذُنَيَّ هَاتَينِ، وَوَعَاهُ قَلبِي هَذَا - وَأَشَارَ إِلَى نياطِ قَلبِهِ - رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: أَطعِمُوهُم مِمَّا تَأكُلُونَ، وَاكسُوهُم مِمَّا تَلبَسُونَ. وَكَانَ أَن أَعطَيتُهُ مِن مَتَاعِ الدُّنيَا أَهوَنَ عَلَيَّ مِن أَن يَأخُذَ مِن حَسَنَاتِي يَومَ القِيَامَةِ.
ــ
و(قوله: ووعاه قلبي رسول الله صلى الله عليه وسلم) الضمير في وعاه قلبي: عائد على [غير](1) مذكور قبله، فهو مما يفسره الحال والمشاهدة. وأبدل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيان، فهو بدل الظاهر من المضمر. ونياط القلب: هو معلَّقه، ويروى: مناط، وهو موضع تعلُّقه. وإنظار المعسر: تأخيره إلى أن يوسر، والوضع عنه: إسقاط الدَّين عن ذمته، وقد جمع هو بينهما لهذا المعسر حيث محا عنه الصحيفة، وقال له: إن وجدت قضاء فاقض، وإلا فأنت في حل. وقد مضى تفسير الحُلَّة، وأنها ثوبان من جنس واحد، ليسا بلِفقَين.
و(قوله: أطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون) ظاهر هذا: وجوب تشريك السيِّد عبده في نوع ما يأكله، ويلبسه، وهو ليس بواجب اتفاقًا، وقد بيَّنَّا ذلك فيما تقدم. لكن خاف أبو اليَسَر أن يكون ترك ذلك منقصًا من حسناته، فسوَّى بينه وبين عبده في اللباس، وكذلك فعل أبو ذر رضي الله عنه، كما تقدم.
والاشتمال: الالتفاف بالشملة. وهذا الاشتمال الذي اشتمله جابر هو الذي أذن له فيه النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدَّم في كتاب: الصلاة، وهو أن يضع وسط الشملة
(1) ما بين حاصرتين ليس في (ع).
ثُمَّ مَضَينَا حَتَّى أَتَينَا جَابِرَ بنَ عَبدِ اللَّهِ فِي مَسجِدِهِ وَهُوَ يُصَلِّي فِي ثَوبٍ وَاحِدٍ مُشتَمِلًا بِهِ، فَتَخَطَّيتُ القَومَ حَتَّى جَلَستُ بَينَهُ وَبَينَ القِبلَةِ، فَقُلتُ: يَرحَمُكَ اللَّهُ، أَتُصَلِّي فِي ثَوبٍ وَاحِدٍ وَرِدَاؤُكَ إِلَى جَنبِكَ؟ قَالَ: فَقَالَ بِيَدِهِ فِي صَدرِي: هَكَذَا، وَفَرَّقَ بَينَ أَصَابِعِهِ وَقَوَّسَهَا: أَرَدتُ أَن يَدخُلَ عَلَيَّ الأَحمَقُ مِثلُكَ فَيَرَانِي كَيفَ أَصنَعُ فَيَصنَعُ مِثلَهُ، أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسجِدِنَا هَذَا، وَفِي يَدِهِ عُرجُونُ ابنِ طَابٍ، فَرَأَى فِي قِبلَةِ المَسجِدِ نُخَامَةً فَحَكَّهَا بِالعُرجُونِ، ثُمَّ أَقبَلَ عَلَينَا فَقَالَ: أَيُّكُم يُحِبُّ أَن يُعرِضَ اللَّهُ عَنهُ؟ . قَالَ: فَخَشَعنَا، قَالَ: أَيُّكُم يُحِبُّ أَن يُعرِضَ اللَّهُ عَنهُ؟ قَالَ: فَخَشَعنَا، ثُمَّ
ــ
على ظهره، ويخرجها من تحت ضِبعَيه، ويخالف بين طرفيها، ويعقدها على قفاه. ووضعه يده على صدره، إنما كان ليوقظه من غفلته، ويستحضر فهمه.
و(قوله: إنما فعلته ليراني أحمق مثلك) إنما شافهه بهذا اللفظ الجافي مقابلة له على ما صدر منه من الحركة الجافية، والسؤال الذي أورده مورد الإنكار، فلو تلطف في السؤال لما سمع هذا المقال.
والعرجون واحد العراجين: وهي الشماريخ، وتسمى أيضًا: الكباسة. ورطب ابن طاب: نوع من الرطب. وقد تقدم القول على البزاق في المسجد.
و(قوله: أيكم يحبُّ أن يُعرض الله عنه) أي: يعامله معاملة المعرض عنه فلا يثيبه إن قلنا: إن البزاق في المسجد مكروه، وإن تنزلنا: على أن البزاق في المسجد محرَّم - كما تقدم - كان الإعراض كناية عن تعذيبه على ذلك، وترك رحمته إياه في وقت العذاب، والله تعالى أعلم.
و(قوله: فخشعنا) الرواية الصحيحة فيه بالخاء المعجمة. من الخشوع، وهو الخضوع والتذلل، يعني: أنه ظهرت عليهم أحوال المنكسرين الخائفين، ومن قيده بالجيم فقد أبعد، إذ ليس هذا موضع الجشع، لأنَّه عبارة عن أشد الحرص.
قَالَ: أَيُّكُم يُحِبُّ أَن يُعرِضَ اللَّهُ عَنهُ؟ . قُلنَا: لَا أَيُّنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنَّ أَحَدَكُم إِذَا قَامَ يُصَلِّي، فَإِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قِبَلَ وَجهِهِ، فَلَا يَبصُقَنَّ قِبَلَ وَجهِهِ، وَلَا عَن يَمِينِهِ، وَليَبصُق عَن يَسَارِهِ تَحتَ رِجلِهِ اليُسرَى، فَإِن عَجِلَت بِهِ بَادِرَةٌ فَليَقُل بِثَوبِهِ هَكَذَا، ثُمَّ طَوَى ثَوبَهُ بَعضَهُ عَلَى بَعضٍ. فَقَالَ: أَرُونِي عَبِيرًا. ثار الفَتى مِن الحَيِّ يَشتَدُّ إِلَى أَهلِهِ، فَجَاءَ بِخَلُوقٍ فِي رَاحَتِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَهُ عَلَى رَأسِ العُرجُونِ، ثُمَّ لَطَخَ بِهِ عَلَى أَثَرِ النُّخَامَةِ. فَقَالَ جَابِرٌ: فَمِن هُنَاكَ جَعَلتُم الخَلُوقَ فِي مَسَاجِدِكُم.
وسِرنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزوَةِ بَطنِ بُوَاطٍ وَهُوَ يَطلُبُ المَجدِيَّ بنَ عَمرٍو الجُهَنِيَّ، وَكَانَ النَّاضِحُ يَعتقُبُهُ مِنَّا الخَمسَةُ وَالسِّتَّةُ وَالسَّبعَةُ، فَدَارَت عُقبَةُ رَجُلٍ مِن الأَنصَارِ عَلَى نَاضِحٍ لَهُ، فَأَنَاخَهُ فَرَكِبَهُ، ثُمَّ بَعَثَهُ فَتَلَدَّنَ عَلَيهِ بَعضَ التَّلَدُّنِ، فَقَالَ لَهُ: شَأ، لَعَنَكَ اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَن
ــ
يقال منه: جشع الرجل - بكسر الشين - وتجشَّع: إذا اشتدَّ حرصه.
والخلوق والعبير: ضروب من الطيب يجمع بالزعفران. وثار الفتى أي: وثب يجري، والنخامة والنخاعة: ما يخرج من أقصى الفم. وبواط: موضع من ناحية رضوى. وكانت هذه الغزوة على رأس سنة من مقدمه المدينة، خرج فيها يطلب المجديَّ بن عمرو، ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق حربا. وتلدَّن: تثبط وتلكأ، ولم ينبعث. وشَأ: صوت تزجر به الإبل. واللعن: الطرد والبعد. ولما دعا هذا الرجل على بعيره باللعنة أجيب، فأُبعد البعير عنه، وحيل بينه وبينه، وهذا من باب العقوبة في المال لربه، لا من باب عقوبة ما لا يعقل، وفيه ما يدل على أن الدعاء في حالة الضجر والغضب قد يستجاب.
وعشيشية: تصغير عشية على غير قياس، ويمدر الحوض: يُطيِّنه ويسدُّ خلله ليمسك الماء. ونزعنا: استقينا. والسَّجل: الدلو. وأفهقناه: ملأناه.
هَذَا اللَّاعِنُ بَعِيرَهُ؟ . قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: انزِل عَنهُ، فَلَا يَصحَبنَا مَلعُون، لَا تَدعُوا عَلَى أَنفُسِكُم، وَلَا تَدعُوا عَلَى أَولَادِكُم، وَلَا تَدعُوا عَلَى أَموَالِكُم، لَا تُوَافِقُوا مِن اللَّهِ سَاعَةً يُسأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَستَجِيبُ لَكُم.
وسِرنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانَ عُشَيشِيَةٌ، وَدَنَونَا مَاءً مِن مِيَاهِ العَرَبِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَن رَجُلٌ يَتَقَدَّمُنَا فَيَمدُرُ الحَوضَ، فَيَشرَبُ وَيَسقِينَا؟ . قَالَ جَابِرٌ: فَقُمتُ فَقُلتُ: هَذَا رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ رَجُلٍ مَعَ جَابِرٍ؟ . فَقَامَ جَبَّارُ بنُ صَخرٍ، فَانطَلَقنَا إِلَى البِئرِ فَنَزَعنَا فِي الحَوضِ سَجلًا أَو سَجلَينِ، ثُمَّ مَدَرنَاهُ، ثُمَّ نَزَعنَا فِيهِ حَتَّى أَفهَقنَاهُ، فَكَانَ أَوَّلَ طَالِعٍ عَلَينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَتَأذَنَانِ؟ . قُلنَا: نَعَم يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَشرَعَ نَاقَتَهُ فَشَرِبَت، شَنَقَ لَهَا، فَشَجَت فَبَالَت، ثُمَّ عَدَلَ بِهَا فَأَنَاخَهَا، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الحَوضِ فَتَوَضَّأَ مِنهُ، ثُمَّ قُمتُ فَتَوَضَّأتُ مِن مُتَوَضَّأ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبَ جَبَّارُ بنُ صَخرٍ يَقضِي حَاجَتَهُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ، وَكَانَت عَلَيَّ بُردَةٌ فذَهَبتُ أُخَالِفَ بَينَ طَرَفَيهَا فَلَم تَبلُغ لِي، وَكَانَت لَهَا ذَبَاذِبُ فَنَكَّستُهَا، ثُمَّ خَالَفتُ بَينَ طَرَفَيهَا، ثُمَّ
ــ
و(قوله: أتأذنان)[دليل على أن من حاز شيئًا من المباح ملكه، وأن الماء المحوز يملك. وفيه](1) دليلٌ على أنه لا يكتفى في إباحة ملك الغير بالسكوت. بل لا بدَّ من إذن المالك.
وشنق لها الزمام أي: قبضه إليه لتنقطع عن الشرب.
وشجت - مخففة الجيم -: قطعت الشرب. يقال: شججت المفازة، أي: قطعتها بالسير. والذباذب: الأطراف، سُمِّيت بذلك لتذبذبها، أي: تحركها، وكل شيء معلَّق فحركته: ذبذبته.
(1) ما بين حاصرتين سقط من (ج 2).
تَوَاقَصتُ عَلَيهَا، ثُمَّ جِئتُ حَتَّى قُمتُ عَن يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَأَدَارَنِي حَتَّى أَقَامَنِي عَن يَمِينِهِ، ثُمَّ جَاءَ جَبَّارُ بنُ صَخرٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ جَاءَ فَقَامَ عَن يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ بِيَدَينَا جَمِيعًا، فَدَفَعَنَا حَتَّى أَقَامَنَا خَلفَهُ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرمُقُنِي وَأَنَا لَا أَشعُرُ، ثُمَّ فَطِنتُ بِهِ، فَقَالَ: هَكَذَا بِيَدِهِ، يَعنِي شُدَّ وَسَطَكَ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا جَابِرُ. قُلتُ: لَبَّيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: إِذَا كَانَ وَاسِعًا فَخَالِف بَينَ طَرَفَيهِ، وَإِذَا كَانَ ضَيِّقًا فَاشدُدهُ عَلَى حَقوِكَ.
سِرنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ قُوتُ كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا فِي كُلِّ يَومٍ تَمرَةً، فَكَانَ يَمَصُّهَا ثُمَّ يَصُرُّهَا فِي ثَوبِهِ، وَكُنَّا نَختَبِطُ بِقِسِيِّنَا وَنَأكُلُ حَتَّى قَرِحَت أَشدَاقُنَا، فَأُقسِمُ خطِئَهَا رَجُلٌ مِنَّا يَومًا، فَانطَلَقنَا بِهِ نَنعَشُهُ، فَشَهِدنَا له أَنَّهُ لَم يُعطَهَا، فَأُعطِيَهَا، فَقَامَ فَأَخَذَهَا.
ــ
و(قوله: وتواقَصتُ) أي: أمسكت عليها بعنقي لئلا تسقط، أي: حنى عليها بعنقه. وقد تقدَّم القول على مواقف المأموم مع الإمام، وهذا الحديث يدلُّ على أن المشروع في حق الإمام: إذا قام رجل عن يمينه، ثم جاء آخر أنه يدفعهما خلفه، لا يتقدم ويتركهما، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بجابر وجبَّار رضي الله عنهما.
والحَقو: معقد الإزار من الوسط، وقد سُمِّي الإزار حَقوًا، كما تقدم في قول أم عطية: فأعطانا حقوه، أي: إزاره.
ونختبط: نفتعل، من الخبط، وهو ضرب الورق بالعصا ليسقط. والقرح: الجراح. وتقرحت: انجرحت. والشدق: جانب الفم.
وهذا الحديث يدلُّ على قوة صبرهم، وعظيم جلدهم، وعلى أن الله تعالى خرق لهم العادة إكرامًا لهم، لأنَّ إمساك القوة على السفر، والسير مع الاغتذاء بتمرة في كل يومٍ أمرٌ خارق للعادة، وقد وضح ذلك في الرجل الذي أخطأته التمرة
سِرنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَزَلنَا وَادِيًا أَفيَحَ، فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقضِي حَاجَتَهُ، فَاتَّبَعتُهُ بِإِدَاوَةٍ مِن مَاءٍ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَم يَرَ شَيئًا يَستَتِرُ بِهِ، فَإِذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الوَادِي، فَانطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى إِحدَاهُمَا، فَأَخَذَ بِغُصنٍ مِن أَغصَانِهَا فَقَالَ: انقَادِي عَلَيَّ بِإِذنِ اللَّهِ. فَانقَادَت مَعَهُ كَالبَعِيرِ المَخشُوشِ الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ، حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الأُخرَى فَأَخَذَ بِغُصنٍ مِن أَغصَانِهَا فَقَالَ: انقَادِي عَلَيَّ بِإِذنِ اللَّهِ. فَانقَادَت مَعَهُ كَذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالمَنصَفِ مِمَّا بَينَهُمَا، لَأَمَ بَينَهُمَا، يَعنِي جَمَعَهُمَا، فَقَالَ: التَئِمَا عَلَيَّ بِإِذنِ اللَّهِ. فَالتَأَمَتَا.
قَالَ جَابِرٌ: فَخَرَجتُ أُحضِرُ مَخَافَةَ أَن يُحِسَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقُربِي فَيَبتَعِدَ. فَجَلَستُ أُحَدِّثُ نَفسِي، فَحَانَت مِنِّي لَفتَةٌ، فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُقبِلًا، وَإِذَا الشَّجَرَتَانِ قَد افتَرَقَتَا، فَقَامَت كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنهُمَا عَلَى سَاقٍ، فَرَأَيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ وَقفَةً، فَقَالَ بِرَأسِهِ هَكَذَا - وَأَشَارَ ابن إِسمَاعِيلَ بِرَأسِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا - ثُمَّ أَقبَلَ فَلَمَّا انتَهَى إِلَيَّ قَالَ: يَا جَابِرُ، هَل رَأَيتَ مَقَامِي؟ . قُلتُ: نَعَم يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَانطَلِق إِلَى الشَّجَرَتَينِ فَاقطَع مِن كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنهُمَا غُصنًا، فَأَقبِل بِهِمَا حَتَّى إِذَا قُمتَ مَقَامِي، فَأَرسِل غُصنًا عَن يَمِينِكَ وَغُصنًا عَن يَسَارِكَ.
ــ
فسقط، ثم إنه لما أعطيها قوي في الحال. والعادة قاضية بأن من سقطت قواه لا ترجع إليه إلا بعد معالجة وترتيب، واستدامة ذلك على تدريج.
ونَنعَشُه: نرفعه وندعمه ليقوم، وكأنه سقط من الضعف. وقد فسَّر بعض الشارحين ننعشه بـ: نسعى في رفعه بالشهادة له في أنه ما أُعطي التمرة، وما ذكرناه أولى، لأنه قال بعد ذلك: فأعطيها فقام، فيعني: أنه سقط من الضعف، فحاولوا رفعه فلم يقدروا حتى أكل التمرة، فقوي وقام. فتأمله.
والأفيح: الواسع المنبطح، وشاطئ
قَالَ جَابِرٌ: فَقُمتُ فَأَخَذتُ حَجَرًا فَكَسَرتُهُ وَحَشَرتُهُ فَانذَلَقَ لِي، فَأَتَيتُ الشَّجَرَتَينِ فَقَطَعتُ مِن كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنهُمَا غُصنًا، ثُمَّ أَقبَلتُ بهما أَجُرُّهُمَا حَتَّى قُمتُ مَقَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَرسَلتُ غُصنًا عَن يَمِينِي وَغُصنًا عَن يَسَارِي، ثُمَّ لَحِقتُهُ فَقُلتُ: قَد فَعَلتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَعَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: إِنِّي مَرَرتُ بِقَبرَينِ يُعَذَّبَانِ، فَأَحبَبتُ بِشَفَاعَتِي أَن يُرَفَّهَ عَنهُمَا، مَا دَامَ الغُصنَانِ رَطبَينِ.
قَالَ: فَأَتَينَا العَسكَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا جَابِرُ، نَادِ بِوَضُوءٍ. فَقُلتُ: أَلَا وَضُوءَ؟ أَلَا وَضُوءَ؟ أَلَا وَضُوءَ؟ قَالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا وَجَدتُ فِي الرَّكبِ مِن قَطرَةٍ. وَكَانَ رَجُلٌ مِن الأَنصَارِ يُبَرِّدُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
ــ
الوادي: جانبه. والمخشوش: هو الذي جعل في أنفه الخشاش - بكسر الخاء -: وهو عود، أو وتد ليذل. والمنصف: ملتقى النصفين. وحديث الشجرتين هذا يدلّ على أن الله تعالى مكَّن نبيَّه صلى الله عليه وسلم من انخراق ما شاء من العادات، وأن الجمادات كانت سخرت له، فيتصرف فيها كيف شاء، وهذا من أكمل الكرامات، وأعظم الدلالات.
وحشرته - بالحاء المهملة-: رققته، وحدَّدته، وحكى الأخفش: سهم حشر، وسهام حشر، أي: محدَّدة.
و(قوله: فعمَّ ذاك؟ [وروي: فلم ذاك؟ ] (1) هو استفهام، وذاك إشارة إلى ما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم به من غرس الغصنين.
وفيه دليلٌ على جواز السؤال عن العلل والحكم، وقد تقدَّم القول على القبرين المعذبين في كتاب: الطهارة.
والأشجاب: جمع شجب، وهو ما خلق من الأسقية، وقدم، وهي أشدُّ تبريدًا للماء من الجُدَد.
(1) ما بين حاصرتين سقط من (م 3) و (ز).
المَاءَ فِي أَشجَابٍ لَهُ عَلَى حِمَارَةٍ مِن جَرِيدٍ، قَالَ فَقَالَ لِيَ: انطَلِق إِلَى فُلَانِ بنِ فُلَانٍ الأَنصَارِيِّ، فَانظُر هَل فِي أَشجَابِهِ مِن شَيءٍ؟ قَالَ: فَانطَلَقتُ إِلَيهِ فَنَظَرتُ فِيهَا، فَلَم أَجِد فِيهَا إِلَّا قَطرَةً فِي عَزلَاءِ شَجبٍ مِنهَا، لَو أَنِّي أُفرِغُهُ لَشَرِبَهُ يَابِسُهُ. فَأَتَيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَم أَجِد فِيهَا إِلَّا قَطرَةً فِي عَزلَاءِ شَجبٍ مِنهَا، لَو أَنِّي أُفرِغُهُ لَشَرِبَهُ يَابِسُهُ. قَالَ: اذهَب فَائتِنِي بِهِ. فَأَتَيتُهُ بِهِ، فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ فَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ بِشَيءٍ لَا أَدرِي مَا هُوَ، وَيَغمِزُهُ بِيَدَيهِ، ثُمَّ أَعطَانِيهِ فَقَالَ: يَا جَابِرُ، نَادِ بِجَفنَةٍ. فَقُلتُ: يَا جَفنَةَ الرَّكبِ، فَأُتِيتُ بِهَا تُحمَلُ، فَوَضَعتُهَا بَينَ يَدَيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ فِي الجَفنَةِ: هَكَذَا، فَبَسَطَهَا، وَفَرَّقَ بَينَ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ وَضَعَهَا فِي قَعرِ الجَفنَةِ، وَقَالَ: خُذ يَا جَابِرُ فَصُبَّ عَلَيَّ وَقُل بِاسمِ اللَّهِ. فَصَبَبتُ عَلَيهِ وَقُلتُ: بِاسمِ اللَّهِ، فَرَأَيتُ المَاءَ يَفُورُ مِن بَينِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
ــ
و(قوله: على حِمَارة من جريد)[صحيح الرواية فيه بكسر الحاء المهملة وتخفيف الميم، وهي جرائد](1) النخل أو عيدان يجمع أعلاها بالربط، ويفتح أسفلها، تُعلَّق فيها الأسقية، وقد رواها بعض الرواة: جمارة بجيم مضمومة، وميم مشددة، وفيه بُعد. والعَزلاء: مخرج الماء من الراوية أو القربة.
و(قوله: لو أني أفرغه لشربه يابسه) أي: لقلَّته، وأعاد الضمير مذكَّرًا على معنى العزلاء، لا على لفظها، أراد به المخرج، أو الجلد. يعني: أن الماء كان قليلًا، فلو صبَّه لذهب، ويغمزه: يعضه. والغمز: العض والطعن.
وجفنة الركب: هي قصعة كبيرة يستصحبها أصحاب الإبل يأكلون فيها مجتمعين.
و(قوله: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه) أي: فجَّر الله تعالى من أصول
(1) ما بين حاصرتين سقط من (م 2).
ثُمَّ فَارَت الجَفنَةُ وَدَارَت حَتَّى لَ: يَا جَابِرُ، نَادِ مَن امتَلَأَت، فَقَاكَانَ لَهُ حَاجَةٌ بِمَاءٍ. قَالَ: فَأَتَى النَّاسُ فَاستَقَوا حَتَّى رَوُوا. قَالَ فَقُلتُ: هَل بَقِيَ أَحَدٌ لَهُ حَاجَةٌ؟ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ مِن الجَفنَةِ وَهِيَ مَلأَى.
وَشَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الجُوعَ، فَقَالَ: عَسَى اللَّهُ أَن يُطعِمَكُم، فَأَتَينَا سِيفَ البَحرِ، فَزَخَرَ البَحرُ زَخرَةً، فَأَلقَى دَابَّةً، فَأَورَينَا عَلَى شِقِّهَا النَّارَ، فَاطَّبَخنَا وَاشتَوَينَا، وأكلنَا حَتَّى شَبِعنَا. قَالَ جَابِرٌ: فَدَخَلتُ أَنَا وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، حَتَّى عَدَّ خَمسَةً فِي حِجَاجِ عَينِهَا، مَا يَرَانَا أَحَدٌ حَتَّى خَرَجنَا، فَأَخَذنَا ضِلَعًا مِن أَضلَاعِهِ فَقَوَّسنَاهُ، ثُمَّ دَعَونَا بِأَعظَمِ رَجُلٍ فِي الرَّكبِ، وَأَعظَمِ جَمَلٍ فِي الرَّكبِ، وَأَعظَمِ كِفلٍ فِي الرَّكبِ، فَدَخَلَ تَحتَهُ مَا يُطَأطِئُ رَأسَهُ.
رواه مسلم (3006 - 3014).
* * *
ــ
الأصابع الماء، كما يفجِّره من الحجر، وقد بيَّنَّا أن هذه المعجزة أبلغ من معجزة موسى عليه السلام في نبع الماء من الحجر.
وسِيفُ البحر: ساحله. وزخر البحر: هاج وارتجَّ. وأَورَينا: أوقدنا. والشق: الجانب. وحجاج العين بكسر الحاء وفتحها: هو العظم الذي فيه المقلة، وعلى طرفه الأعلى، هو الحاجب. ويطأطئ رأسه: يخفضه.
* * *