الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) باب أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا
[2175]
عَن أَبِي هُرَيرَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا اقتَرَبَ الزَّمَانُ لَم تَكَد رُؤيَا المُسلِمِ تَكذِبُ،
ــ
بحكم عمومه يتناول ما يسببه الشيطان، وما لا يسببه مما يكرهه الرائي. ويكون فعل هذه الأمور كلها مانعًا من وقوع ذلك المكروه. كما يقال: إن الدعاء يدفع البلاء، والصَّدقة تدفع ميتة السوء. وكل ذلك بقضاء الله تعالى وقدره، ولكن الوسائط والأسباب عاديات (1) لا موجودات. وفائدة أمره بالتحول عن جنبه الذي كان عليه ليتكامل استيقاظه، وينقطع عن ذلك المنام المكروه. وفائدة الأمر بالصلاة (2) أن تكمل الرغبة، وتصح الطلبة، فإنَّ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
و(قول أبي سلمة: فما أباليها)، أي: ما ألتفت إليها، ولا ألقي لها بالًا، أي: لا أخطرها على فكري ثقة بالله تعالى، وبما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم.
(2، 3) ومن باب: أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا (3)
(قوله: إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب) قيل في اقتراب الزمان قولان:
أحدهما: تقارب الليل والنهار في الاعتدال، وهو الزمان الذي تتفتق فيه الأزهار، وتينع فيه الثمار، وموجب صدق الرؤيا في ذلك الزمان اعتدال الأمزجة
(1) مفردها: عدوى، وهي: المعونة. وفي (ج 2): عادات.
(2)
الأمر بالصلاة لم يرد في أحاديث هذا الباب، وإنما في أحاديث الباب الذي يليه.
(3)
شرح المؤلف تحت هذا العنوان ما أشكلَ في أحاديث هذا الباب، وما أشكل في أحاديث الباب الذي يليه، وهو بعنوان: باب الرؤيا الصالحة جزء من أجزاء النبوة.
وَأَصدَقُكُم رُؤيَا أَصدَقُكُم حَدِيثًا،
ــ
فيه، فلا يكون في المنام أضغاث الأحلام، فإنَّ من موجبات التخليط فيها غلبة بعض الأخلاط على صاحبها.
وثانيهما: أن المراد بذلك: آخر الزمان المقارب للقيامة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: في آخر الزمان لا تكذب رؤيا المؤمن (1).
قلت: ويعني - والله أعلم - بآخر الزمان المذكور في هذا الحديث: زمان الطائفة الباقية مع عيسى عليه السلام بعد قتله الدجال المذكور في حديث عبد الله بن عمرو الذي قال فيه: فيبعث الله عيسى ابن مريم، ثم يمكث في الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحًا باردة من قبل الشام فلا تبقي على وجه الأرض أحدًا في قلبه مثقال ذرّة من خير أو إيمان إلا قبضته (2)، فكان أهل هذا الزمان أحسن هذه الأمَّة بعد الصدر المتقدِّم حالًا، وأصدقهم أقوالًا، وكانت رؤياهم لا تكذب، كما قال صلى الله عليه وسلم: أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا (3)، وكما قال: رؤيا الرجل الصالح جزء من النبوة (4).
وقوله: لم تكد تكذب، أي: لم تقارب الكذب، وقد تكلَّمنا على كاد وأخواتها من أفعال المقاربة فيما تقدَّم.
وقوله: أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا، إنما كان ذلك لأن: من كثر صدقه تنوِّر قلبه، وقوي إدراكه، فانتقشت فيه المعاني على وجه الصِّحة
(1) رواه أحمد (2/ 269)، والترمذي (2291).
(2)
رواه أحمد (2/ 166)، ومسلم (2940).
(3)
تقدم في التلخيص برقم (2883).
(4)
هو في التلخيص برقم (2885) بلفظ: "رؤيا الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة".
وَرُؤيَا المُسلِمِ جُزءٌ مِن خَمسة وَأَربَعِينَ جُزءًا مِن النُّبُوَّةِ،
ــ
والاستقامة، وأيضًا فإن من كان غالبُ حاله الصدق في يقظته استصحب ذلك في نومه، فلا يرى إلا صدقًا. وعكس ذلك: الكاذب والمُخلِّط يَفسد قلبه، ويُظلم، فلا يرى إلا تخليطًا وأضغاثًا، هذا غالب حال كل واحد من الفريقين، وقد يندرُ فيرى الصادقُ ما لا يصح، ويرى الكاذب ما يصح، لكن ذلك قليل، والأصل ما ذكرناه.
و(قوله: رؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءًا من النبوة، وفي حديث عبادة: رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا، وفي رواية عن أبي هريرة: رؤيا الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا، [وفي أخرى عنه: الرؤيا الصالحة، وفي رواية: رؤيا الرجل الصالح ستة وأربعون جزءًا من النبوة] (1). وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: الرؤيا الصالحة جزء من سبعين. وفي غير كتاب مسلم عن ابن عباس: جزء من أربعين (2). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: جزء من سبعة وأربعين (2). وفي حديث العباس رضي الله عنه: من خمسين (3)، وعن أنس رضي الله عنه: من ستة وعشرين (3)، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: من أربعة وأربعين (3).
قال أبو عبد الله المازري: والأكثر والأصح عند أهل الحديث: من ستة وأربعين. وحكي عن بعض الناس: أنه نزل هذا الحديث بهذه الرواية على مدة الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أقام يوحى إليه ثلاثًا وعشرين سنة، منها ستة أشهر
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (م 2).
(2)
رواهما الطبري كما في الفتح (12/ 363).
(3)
ذكرها الحافظ ابن حجر في الفتح (12/ 363).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يوحى إليه في نومه، وذلك في أول أمره (1). وقد اعترض عليه بأن هذه المدة لم يصحَّ نقل تحديدها، ولا هو معروف، فتقديره تحكُّم.
قلت: القدر الذي اختلف الرواة فيه من هذا الحديث أمران:
أحدهما: من أضيفت الرؤيا إليه، فتارة سكت عنه، وأخرى قيل فيه: المسلم، وفي أخرى: المؤمن، وفي أخرى: الصالح. وهذا الأمر: الخلاف فيه أهون من الخلاف في الأمر الثاني، وذلك: أنه حيث سكت عنه لم يضر السكوت عنه، مع العلم بأن الرؤيا مضافة إلى راءٍ ما، فإذا صرح به في موضع آخر فهو المعني، وأما حيث نطق به فالمراد به واحد وإن اختلفت الألفاظ. وذلك أن الرؤيا لا تكون من أجزاء النبوة إلا إذا وقعت من مسلم صادق صالح، وهو الذي يناسب حاله حال النبي صلى الله عليه وسلم فأكرم بنوع مما أكرم به الأنبياء، وهو الاطلاع على شيء من علم الغيب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصادقة في النوم. يراها الرجل الصالح، أو ترى له (2)، فإنَّ الكافر، والكاذب، والمخلِّط - وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات - لا تكون من الوحي، ولا من النبوة، إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبره ذلك نبوة. وقد قدَّمنا: أن الكاهن يخبر بكلمة الحق، وكذلك المنجم قد يحدِس (3) فيصدق، لكن على الندور والقلَّة. وكذلك الكافر، والفاسق، والكاذب. وقد يرى المنام الحق، ويكون ذلك المنام سببًا في شرٍّ يلحقه، أو أمرٍ يناله. إلى غير ذلك من الوجوه المعتبرة
(1) جاء في كتاب: "المعلم بفوائد مسلم" لابي عبد الله المازري (3/ 117) ما يلي: إنه صلى الله عليه وسلم أقام يُوحى إليه ثلاثة وعشرين عامًا؛ عشرة بالمدينة، وثلاثة عشر بمكة، وكان قبل ذلك بستة أشهر يرى في المنام ما يلقيه إليه الملك، وذلك نصف سنة، ونصف سنة من ثلاث وعشرين سنة جزءٌ من ستة وأربعين جزءًا من النبوة.
(2)
رواه أحمد (1/ 219)، ومسلم (479)، وأبو داود (876)، والنسائي (2/ 188).
(3)
"يحدس": أي: يظنّ ويخمِّن.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
المقصودة به. وقد وقعت لبعض الكفار منامات صحيحة صادقة، كمنام الملك الذي رأى سبع بقرات، ومنام الفتيين في السجن، ومنام عاتكة (1) عمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوه كثير، لكن ذلك قليل بالنسبة إلى مناماتهم المخلطة والفاسدة، فهذا هو الأمر الأول.
وأما الأمر الثاني: وهو اختلاف عدد أجزاء النبوة التي جعلت رؤيا الرجل الصالح واحدا منها: فاختلفت الرواية فيه من ستة وعشرين إلى سبعين، كما قد ذكرناه، وأكثرها في الصحيحين، وكلها مشهور فلا سبيل إلى أخذ أحدها، وطرح الباقي، كما قد فعل أبو عبد الله المازري، فإنَّه قد يكون بعض ما ترك أولى مما قبل إذا بحثنا عن رجال أسانيدها، وربما ترجَّح عند غيره غير ما اختاره هو، فإذًا: الوجه الذي يتعيَّن المصير إليه أن يقال: إن هذه الأحاديث - وإن اختلفت ألفاظها - متفقة على أن الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من أجزاء النبوة. فهذه شهادة صحيحة من النبي صلى الله عليه وسلم لها بأنها وحي من الله تعالى، وأنها صادقة لا كذب فيها. ولذلك قال مالك وقد قيل له: أيفسر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أيلعب بالوحي؟ ! وإذا كانت هكذا فتعيَّن على الرائي أن يعتني بها، ويسعى في تفهُّمها، ومعرفة تأويلها، فإنَّها إما مبشرة له بخير، أو محذرة له من شر، فإنَّ أدرك تأويلها بنفسه، وإلا سأل عنها من له أهليَّة ذلك، وهو اللبيب الحبيب. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا أصبح: هل رأى أحدٌ منكم الليلة رؤيا فليقصها، أعبرها له؟ (2)، فكانوا يقصُّون عليه، ويَعبُرُ. وقد سلك أصحابه [ذلك المسلك في حياته، وبعد وفاته، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقتبس](3) الأحكام من منامات أصحابه، كما فعل في رؤيا الأذان، وفي
(1) انظر: سيرة ابن هشام (2/ 607)، وتاريخ الطبري (2/ 428).
(2)
رواه أحمد (5/ 14)، والبخاري (1386).
(3)
ما بين حاصرتين سقط من (م 2) و (م 3).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
رؤيا ليلة القدر (1). وكل ذلك بناءً على أنها وحي صحيح. وإذا تقرَّر هذا فلا يضرنا الاضطراب [الذي وقع في عدد تلك الأجزاء مع حصول المقصود من الخير، غير أن علماءنا قد راموا إزالة ذلك الاضطراب](2)، وتأوَّلوه تأويلات، فلنذكرها، وننبه على الأقرب منها، وهي أربع:
الأول: ما صار إليه أبو عبد الله. وقد ذكرناه، وما ورد عليه.
الثاني: أن المراد بهذا الحديث: أن المنام الصادق خصَّلة من خصال النبوة. كما جاء في الحديث الآخر: التؤدة، والاقتصاد، وحسن السمت جزء من ستة وعشرين جزءًا من النبوة (3)، أي: النبوة مجموع خصال مبلغ أجزائها ستة وعشرون، هذه الثلاثة الأشياء جزء واحدٌ منها، وعلى مقتضى هذه التجزئة: كل جزء من الستة والعشرين ثلاثة أشياء في نفسه، فإذا ضربنا ثلاثة في ستة وعشرين صحَّ لنا أن عدد خصال النبوة من حيث آحادها ثمانية وسبعون. ويصحُّ أن يسمَّى كل اثنين من الثمانية والسبعين جزءًا وخصلة، فيكون جميعها بهذا الاعتبار تسعة وثلاثين جزءًا، ويصحُّ أن يسمَّى كل أربعة منها جزءًا، فيكون مجموع أجزائها بهذا الاعتبار تسعة عشر جزءًا ونصف جزء، فتختلف أسماء العدد المجزَّأ بحسب اختلاف اعتبار الأجزاء، وعلى هذا: فلا يكون اختلاف أعداد أجزاء النبوَّة في أحاديث الرؤيا المذكورة اضطرابًا، وإنَّما هو اختلاف اعتبار مقادير تلك الأجزاء المذكورة. والله تعالى أعلم.
الثالث: ما أشار إليه الطبري، وهو: أن هذا الاختلاف راجعٌ إلى اختلاف حال الرائي. فالمؤمن الصَّالح تكون نسبة رؤياه من ستة وأربعين، وغيرُ الصالح من
(1) انظر: صحيح مسلم (1165)(205).
(2)
ما بين حاصرتين سقط من (ع).
(3)
ذكره ابن حجر في فتح الباري (12/ 368).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
سبعين، ولهذا لم يشترط في رواية السَّبعين في وصف الرائي ما اشترطه في وصفه في رواية: ستة وأربعين، فإنَّه شرط فيها الصَّلاح في الرائي، وسكت عن اشتراطه في رواية السبعين.
قلت: وهذا فيه بُعدٌ، لما قدَّمناه من صحَّة احتمال حمل مطلق الرِّوايات على مقيدها، وبما قد روي عن ابن عباس: الرؤيا الصالحة جزء من أربعين (1). وسكت فيه عن ذكر وصف الرائي. وكذلك حديث عبد الله بن عمرو حين ذكر سبعة وأربعين. وحديث العبَّاس حين ذكر خمسين.
الرابع: قيل: يحتمل أن تكون هذه التجزئة في طرق الوحي، إذ منه ما سُمِع من الله تعالى دون واسطة، كما قال:{مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} ومنه بواسطة الملك، كما قال:{أَو يُرسِلَ رَسُولا} ومنه ما يُلقى في القلب، كما قال:{إِلا وَحيًا} أي: إلهامًا، ثمَّ منه ما يأتيه الملك على صورته، ومنه ما يأتيه على صورة آدمي يعرفه، ومنه ما يتلقاه منه وهو لا يعرفه، ومنه ما يأتيه في مثل صلصلة الجرس، ومنه ما يسمعه من الملك قولًا مُفصَّلًا، إلى غير ذلك من الأحوال التي كانت تختلف على النبي صلى الله عليه وسلم في الوحي وحالاته المختلفة، فتكون تلك الحالات إذا عُدِّدت غايتها انتهت إلى سبعين.
قلت: ولا يخفى ما في هذا الوجه من البُعد والتساهل، فإنَّ تلك الأعداد كلها إنما هي أجزاء النبوَّة، وأكثر هذه الأحوال التي ذكرت هنا ليست من النبوة في شيء لكونه يعرف الملك، أو لا يعرفه، أو يأتيه على صورته، أو على غير صورته، ثمَّ مع هذا التكلف العظيم لم يقدر أن يبلغ عدد ما ذكر إلى ثلاثين (2).
(1) سبق تخريجه (ص 12).
(2)
قراءة ابن كثير وحفص: {رسالته} وما أورده المؤلف هو قراءة الباقين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قلت: وأشبه ما ذكر في ذلك: الوجه الثاني، مع أنَّه لم تَثلَجُ النفسُ به، ولا طاب لها. وقد ظهر لي وجه خامس - وأنا أستخير الله في ذكره - وهو: أن النبوَّة معناها: أن يُطلع الله من يشاء من خلقه على ما يشاء من أحكامه ووحيه: إما بالمشافهة، وإما بواسطة ملك، أو بإلقاء في القلب، لكن هذا المعنى المسمَّى بالنبوَّة لا يخص الله به إلا من خصَّه بصفات كمال نوعه من المعارف، والعلوم، والفضائل، والآداب، ونزهه عن نقائص ذلك. ولذلك قال سبحانه:{اللَّهُ يَصطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ} وقال: {اللَّهُ أَعلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالَتَهُ (1)} ، وقال تعالى لما ذكر الأنبياء:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقتَدِهِ} وقال: {كُلا هَدَينَا} وقال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فقد حصل من هذا: أن النبوَّة لم يخص الله بها إلا أكمل خلقه، وأبعدهم عن النقائص. ثم: إنه لما شرفهم بالنبوَّة حصلت لهم بذلك على جميع نوعهم الخصوصية، فلما كانت النبوَّة لا يخص الله بها إلا من حصلت له خصال الكمال أطلق على تلك الخصال: نبوة، كما قال صلى الله عليه وسلم: التؤدة والاقتصاد، والسَّمت الحسن جزء من النبوة (2)، أي: من خصال الأنبياء، لكن الأنبياء في هذه الخصال متفاضلون، كما قال تعالى:{وَلَقَد فَضَّلنَا بَعضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعضٍ} وقال: {تِلكَ الرُّسُلُ فَضَّلنَا بَعضَهُم عَلَى بَعضٍ} فتفاضلهم بحسب ما وهب لكل واحد منهم من تلك الصفات، وشرَّف به من تلك الحالات، وكل منهم الصدق أعظم صفته في نومه ويقظته، وكانوا تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم، فنائمهم يقظان، ووحيهم في النوم واليقظة سيَّان، فمن ناسبَهُم في الصِّدق حصل من رؤياه على الحق، غير أنه لما
(1) قرأ ابن كثير وحفص {رسالتَه} ، وقرأ الباقون:{رسالاتِه} .
(2)
سبق تخريجه (ص 15).
وَالرُّؤيَا ثَلَاثَةٌ: بُشرَى مِن اللَّهِ، وَرُؤيَا تَحزِينٌ مِن الشَّيطَانِ، وَرُؤيَا مِمَّا يُحَدِّثُ المَرءُ به نَفسَهُ،
ــ
كان الأنبياء في مقاماتهم وأحوالهم متفاضلين، وكان كذلك أتباعهم من الصَّادقين، وكان أقل خصال كمال الأنبياء ما إذا اعتُبر كان ستًّا وعشرين جزءًا، وأكثر ما يكون من ذلك سبعين، وبين العددين مراتب مختلفة بحسب ما اختلفت ألفاظ تلك الأحاديث. وعلى هذا: فمن كان من غير الأنبياء في صلاحه وصدقه على رتبة تناسب كمال نبيٍّ من الأنبياء، كانت رؤياه جزءًا من نبوة ذلك النبي، وكمالاتهم متفاضلة كما قرَّرناه، فنسبة أجزاء منامات الصَّادقين متفاوتة على ما فصلناه. وبهذا الذي أظهر الله لنا يرتفع الاضطراب. والله الموفق للصَّواب.
و(قوله: والرؤيا ثلاثة: بشرى من الله) أي: مُبشرة بخير، ومحذرة عن شرٍّ، فإن التحذير عن الشرِّ خيرٌ، فتتضمَّنه البشرى. وإنَّما قلنا ذلك هنا لأنَّه قد قال في حديث الترمذي المتقدِّم: الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله مكان: بشرى من الله، فأراد بذلك - والله أعلم - الرؤيا الصادقة المبشرة والمحذرة.
وقوله: ورؤيا تحزين، ويلحق بالرؤيا المحزنة المفزعات، والمهوِّلات، وأضغاث الأحلام، إذ كل ذلك مذموم، لأنها من آثار الشيطان، وكل ما ينسب إليه مذموم.
و(قوله: ورؤيا مِمَّا يحدِّث المرء به نفسه) يدخل فيه ما يلازمه المرء في يقظته من الأعمال، والعلوم، والأقوال، وما يقوله الأطباء: من أن الرؤيا تكون عن خلطٍ غالب على الرائي، فيرى في نومه ما يناسب ذلك الخلط، فمن يغلب عليه البلغم رأى السباحة في الماء وما أشبهه، لمناسبة الماء طبيعة البلغم. ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود في الارتفاع، لمناسبة النَّار في الطبيعة طبيعة الصفراء. وهكذا يقولون في بقية الأخلاط، ونحن ننازعهم في موضعين:
أحدهما: في أصل تأثير الطبيعة، فإنَّ قالوا: إن الطبيعة سببٌ عادي،
فَإِذا رَأَى أَحَدُكُم مَا يَكرَهُ فَليَقُم فَليُصَلِّ، وَلَا يُحَدِّث بِهَا النَّاسَ،
ــ
والله تعالى هو الفاعل بالحقيقة. وهو مذهب المسلمين، فهو الحق. وإن قالوا: إن الطبيعة تفعل ذلك بذاتها، حكمنا بتكفيرهم، وانتقل الكلام إلى علم الكلام.
والثاني: أن من أراد منهم أن الرؤيا لا تكون إلا عن الأخلاط، فهو باطل بما قد ثبت عن الصادق فيما ذكرناه من الأحاديث: أن الرؤيا منها ما يكون من الله، وهي المبشرة، والمحذرة. وهذا من باب الخير، وليس في قوة الطبيعة أن تطلع على الغيب بالإخبار عن أمور مستقبلة تقع في المستقبل على نحو ما اقتضته الرؤيا بالاتفاق بين العقلاء. ومن أراد منهم: أن الأخلاط قد تكون سببًا لبعض المنامات، فقد يسلم ذلك على ما قرَّرناه، ثمَّ يبقى نظر آخر، وهو أنه لو كان ما رتبوه صحيحًا للزم عليه ألا يرى من غلب عليه خلط من تلك الأخلاط إلا ما يناسبه، ونحن نشاهد خلافه، فيرى البلغمي النيران، والصعود في الارتفاعات، وعكس ذلك في الصفراوي، فبطل ما قالوه بالمشاهدة، والله وليُّ المعاضدة.
و(قوله: فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل) ليس هذا مخالفًا لقوله في الرواية الأخرى: فلينفث عن يساره ثلاثًا، وليتعوَّذ بالله من شرِّها، وليتحوَّل عن جنبه الذي كان عليه، وإنما الأمر بالصلاة زيادة، فينبغي أن تزاد على ما في هذه الرواية، فيفعل الجميع. ويحتمل أن يقال: إنما اقتصر في هذا الموضع على ذكر الصلاة وحدها، لأنَّه إذا صلَّى تضمَّن فعله للصلاة جميع تلك الأمور، لأنَّه إذا قام إلى الصلاة تحوَّل عن جنبه، وإذا تمضمض نفث وبصق، وإذا قام إلى الصلاة تعوَّذ ودعا، وتفرغ لله تعالى في ذلك في حالٍ هي أقرب الأحوال إجابة، كما قدَّمناه، والله تعالى أعلم.
و(قوله: ولا يخبر بها أحدًا (1)) أي: لا يعلق نفسه بتأويلها، إذ لا تأويل
(1) في التلخيص: ولا يحدث بها الناس.
قَالَ: وَأُحِبُّ القَيدَ، وَأَكرَهُ الغُلَّ، وَالقَيدُ ثَبَاتٌ فِي الدِّينِ. قال أيوب: فَلَا أَدرِي هُوَ فِي الحَدِيثِ أَم قَالَهُ ابنُ سِيرِينَ.
رواه أحمد (2/ 233 و 269)، والبخاريُّ (7017)، ومسلم (2263)، وأبو داود (5019)، وابن ماجه (3917).
* * *
ــ
لها، فإنها من ألقيات الشيطان التي يقصد بها التشويش على المؤمن، إما بتحزين، وإما بترويع، أو ما أشبه ذلك. وفعل ما ذكر كاف في دفع ذلك، ومانع من أن يعود الشيطان لمثل ذلك، وهذا هو الذي فهمه أبو سلمة من الحديث، والله تعالى أعلم، فقال: إن كنت لأرى الرؤيا أثقل عليَّ من الجبل، فما أباليها. وفي أصل كتاب مسلم قال: كنت أرى الرؤيا أعرى لها (1)، غير أني لا أزَّمَّل، أي: تصيبني العرواء، وهي الرعدة. وقال في رواية أخرى: إن كنت لأرى الرؤيا فتمرضني غير أنِّي لا أزَّمَّل لها. والتزميل: اللف، والتَّدثير، يعني: أنها ما كانت تدوم عليه فيحتاج إلى أن يدَّثَّر، لكنه بنفس ما كان يفعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من النفث والتعوُّذ وغيره يزول عنه ذلك، ببركة الصدق، والتصديق، والامتثال. وفائدة هذا: ألا يشغل الرائي نفسه بما يكره في نومه، وأن يعرض عنه، ولا يلتفت إليه، فإنَّه لا أصل له. هذا هو الظاهر من الأحاديث، والله أعلم.
و(قوله: وأحبُّ القيد، وأكره الغُلَّ. . . إلى آخره) ظاهره: أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم غير أن أيوب السختياني هو الذي روى هذا الحديث عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، وقد أخبر عن نفسه: أنه شكَّ هل هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو من قول ابن سيرين، فلا يعوَّل على ذلك الظاهر، غير أن هذا المعنى صحيح في العبارة لأن
(1) في صحيح مسلم: منها. ومعنى أعرى منها: أي أحمُّ بخوفي من ظاهرها في معرفتي.
يُقال: عُرِي الرجل يُعرى: إذا أصابه عراء، وهو نفض الحمى.