الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(24) باب وجوب الإذعان لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم والانتهاء عما نهى عنه
[2266]
عن عَبدَ اللَّهِ بنَ الزُّبَيرِ أَنَّ رَجُلًا مِن الأَنصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيرَ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شِرَاجِ الحَرَّةِ الَّتِي يَسقُونَ بِهَا النَّخلَ، فَقَالَ الأَنصَارِيُّ: سَرِّح المَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيهِم فَاختَصَمُوا عِندَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
ــ
في جميع الأمور، فإنَّ دين الله يسر، وهو: الحنيفية السَّمحة، فإنَّ الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه.
وحاصل الأمر: أن الواجب التمسك بالاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فما شدَّد فيه التزمناه على شدَّته، وفعلناه على مشقته، وما ترخص فيه أخذنا برخصته، وشكرنا الله تعالى على تخفيفه ونعمته، ومن رغب عن هذا، فليس على سُنَّته، ولا على منهاج شريعته.
وفيه حجَّة على القول بمشروعية الاقتداء به في جميع أفعاله، كما نقوله في جميع أحواله، إلا ما دلَّ دليل على أنه من خصوصياته، وقد أوضحنا هذا في الأصول.
(24)
ومن باب وجوب الإذعان لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
(قوله: إن رجلًا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرَّة) قيل: إن هذا الرَّجل كان من الأنصار نسبًا، ولم يكن منهم نصرة ودينًا، بل كان منافقًا، لما صدر عنه من تهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجوَّر في الأحكام لأجل قرابته، ولأنه لم يرض بحكمه، ولأن الله تعالى قد أنزل فيه:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم} الآية. هذا هو الظاهر من حاله، ويحتمل: أنه لم يكن منافقًا، ولكن أصدرَ ذلك منه بادرةُ نفس، وزلَّةُ شيطان، كما قد اتَّفق لحاطب بن أبي بلتعة، ولحسَّان، ومسطح، وحَمنَة في قضية الإفك، وغيرهم مِمَّن
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيرِ: اسقِ يَا زُبَيرُ ثُمَّ أَرسِل المَاءَ إِلَى جَارِكَ فَغَضِبَ الأَنصَارِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَن كَانَ ابنَ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجهُ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: يَا زُبَيرُ اسقِ ثُمَّ احبِس المَاءَ حَتَّى يَرجِعَ إِلَى
ــ
بدرت منهم بوادر شيطانية، وأهواء نفسانية، لكن لطف بهم حتى رجعوا عن الزَّلة، وصحَّت لهم التوبة، ولم يؤاخذوا بالحوبة.
والشِّراج بالشين والجيم المعجمتين، جمع شَرِجَة، وهي مسيل الماء إلى النخل والشجر. وإضافتها إلى الحرَّة لكونها فيها.
والمخاصمة إنما كانت في السَّقي بالماء الذي يسيل فيها، وكان الزبير يتقدم شربه على شرب الأنصاري، فكان الزبير يمسك الماء لحاجته، فطلب الأنصاري أن يسرحه له قبل استيفاء حاجته، فلما ترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سلك النبي صلى الله عليه وسلم معهما مسلك الصُّلح، فقال له: اسق يا زبير! ثمَّ أرسل الماء إلى جارك، أي: تساهل في سقيك، وعجل في إرسال الماء إلى جارك، يحضه على المسامحة والتيسير. فلما سمع الأنصاري بهذا لم يرض بذلك، وغضب لأنه كان يريد ألا يمسك الماء أصلًا، وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة، فقال: آن كان ابن عمتك؟ ! بمدِّ همزة أن المفتوحة، لأنَّه استفهام على جهة الإنكار، أي: أتحكم له علي لأجل أنَّه قرابتك؟ ! وعند ذلك تلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبًا عليه وتألُّمًا من كلمته. ثمَّ إنَّه بعد ذلك حكم للزبير باستيفاء حقه، فقال: اسق يا زبير، ثم أمسك (1) الماء حتى يرجع إلى الجدر. وفي غير هذه الرواية: فاستوعى للزبير حقَّه (2).
(1) كذا في الأصول، وفي التلخيص وصحيح مسلم وغيره: احبسْ.
(2)
هي في البخاري (2362).
الجَدرِ، فَقَالَ الزُّبَيرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَت فِي ذَلِكَ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ}
ــ
والجَدر بفتح الجيم وسكون الدال هي روايتي، ويجمع: جُدورًا. وهو الأصل، ويعني به: حتى يصل الماء إلى أصول النَّخل والشجر، وتأخذ منه حقها. وفي بعض طرقه: حتى يبلغ الماء إلى الكعبين (1) فيعني به- والله أعلم-: حتى يجتمع الماء في الشَّرِبات، وهي الحفر التي تحفر في أصول النخل والشجر إلى أن تصل من الواقف فيها إلى الكعبين.
وقد روي الِجدر بكسر الجيم، وهو الجدار، ويجمع على جدر ويعني به: جدران الشَّربات، فإنَّها تُرفع حتى تكون تشبه الجدار. فإنَّ قيل: كيف كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم للزبير على الأنصاري في حال غضبه وقد قال صلى الله عليه وسلم: لا يقضي القاضي وهو غضبان؟ (2)
فالجواب: أنا قدَّمنا أن هذا النهي معلَّل بما يخاف على القاضي من التشويش المؤدي به إلى الغلط في الحكم، والخطأ فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ في التبليغ والأحكام، بدليل العقل الدَّالِّ على صدقه فيما يبلغه عن الله تعالى وفي أحكامه، ولذلك قالوا: أنكتب عنك في الرضا والغضب؟ قال: نعم (3). فدلَّ ذلك: على أن المراد بالحديث: من يجوز عليه الخطأ من القضاة، فلم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك العموم.
و(قوله: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم} ، هذا أحدُ ما قيل في سبب نزول هذه الآية.
(1) هي في البخاري (2362)، وأبو داود (3639).
(2)
رواه أحمد (1/ 150)، وأبو داود (3582)، وابن ماجه (2310).
(3)
رواه أحمد (2/ 162 و 192 و 207 و 215).
رواه أحمد (4/ 4 - 5)، والبخاريُّ (2359)، ومسلم (2357)، وأبو داود (3637)، والترمذيُّ (1363)، والنسائي (8/ 245)، وابن ماجه (15 و 2480).
ــ
وقيل: نزلت في رجلين تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم على أحدهما فقال له (1): ارفعني إلى عمر بن الخطاب، وقيل: إلى أبي بكر، وقيل: حكم النبي صلى الله عليه وسلم ليهودي على منافق، فلم يرض المنافق، وأتيا عمر بن الخطاب فأخبراه، فقال: أمهلاني حتى أدخل بيتي، فدخل بيته فأخرج السيف، فقتل المنافق، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه ردَّ حكمك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرَّقت بين الحق والباطل (2). وقال مجاهد نحوه، غير أنه قال: إن المنافق طلب أن يردَّ إلى حكم الكاهن، ولم يذكر قضية قتل عمر بن الخطاب المنافق، وقال الطبري: لا ينكر أن تكون الآية نزلت في الجميع، والله تعالى أعلم.
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه، فمنها: الاكتفاء من الخصوم بما يفهم عنه مقصودهم، وألا يكلَّفوا النص على الدعاوي، ولا تحديد المدعى فيه، ولا حصره بجميع صفاته، كما قد تنطَّع في ذلك قضاة الشافعية.
ومنها: إرشاد الحاكم إلى الإصلاح بين الخصوم، فإنَّ اصطلحوا، وإلا استوفي لذي الحق حقه، وبتَّ الحكم.
ومنها: أن الأولى بالماء الجاري: الأول فالأول حتى يستوفي حاجته. وهذا ما لم يكن أصله ملكًا للأسفل مختصًا به، فليس للأعلى أن يشرب منه شيئًا، وإن كان يمرُّ عليه.
ومنها: عن جفاء الخصوم ما لم يؤد إلى هتك حرمة الشرع، والاستهانة بالأحكام، فإنَّ كان ذلك فالأدب، وهذا الذي صدر من خصم
(1) ورد في (ز) و (م 3): (له الآخر) ولا نرى مبررًا لوجود كلمة (الآخر) لأنَّ المعترض هو الذي حكم عليه، وليس الآخر.
(2)
رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه، كما في (الدر المنثور 2/ 585)، وذكر السيوطي رواية أخرى رواها الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول".
[2267]
وعن أبي هُرَيرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا نَهَيتُكُم عَنهُ فَاجتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرتُكُم بِهِ فَافعَلُوا مِنهُ مَا استَطَعتُم فَإِنَّمَا أَهلَكَ الَّذِينَ مِن قَبلِكُم كَثرَةُ مَسَائِلِهِم، وَاختِلَافُهُم عَلَى أَنبِيَائِهِم.
وفي رواية: ذَرُونِي مَا تَرَكتُكُم فَإِنَّمَا هَلَكَ مَن كَانَ قَبلَكُم لِكَثرَةِ مسَائلِهِم
…
الحديث.
رواه أحمد (2/ 247)، ومسلم (1337)(130 و 131)، والترمذيُّ (2679)، والنسائي (5/ 110 - 111)، وابن ماجه (1 و 2).
* * *
ــ
الزبير أذى للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم لما قدَّمناه من عظم حلمه وصفحه، ولئلا يكون قتله منفرًا لغيره عن الدخول في دين الإسلام، فلو صدر اليوم مثل هذا من أحد في حق النبي صلى الله عليه وسلم لقتل قتلة زنديق، وقد أشبعنا القول في ذلك.
ومنها: أن القَدر الذي يستحق الأعلى من الماء: كفايته، وغاية ذلك: أن يبلغ الماء إلى الكعبين، فقيل: في الشَّرَبَة (1)، كما قلنا، وقيل: في أرض الحائط، وفيه بُعد.
و(قوله صلى الله عليه وسلم: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) أي: لا تقدموا على فعل شيء من المنهي عنه، وإن قلَّ، لأنَّه تحصل بذلك المخالفة، لأنَّ النهي: طلب الانكفاف المطلق، والأمر المطلق على النقيض من ذلك، لأنَّه يحصل الامتثال بفعل أقل ما ينطلق عليه الاسم المأمور به على أي وجه فعل، وفي أي زمان فعل، ويكفيك من ذلك مثال بقرة بني إسرائيل، فإنَّهم لما أمروا بذبح بقرة، فلو بادروا وذبحوا بقرة - أي بقرة كانت - لحصل لهم الامتثال، لكنهم كثَّروا الأسئلة فكثرت أجوبتهم، فقل الموصوف، فعظم الامتحان عليهم، فهلكوا، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن أن يقعوا في
(1)"الشَّرَبَةُ": حُويْض يُحفر حول النخلة والشجرة يُملأ ماء، فيكون ريَّها.