الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(29) باب في عذاب المتكبر والمتألي على الله، وإثم من قال: هلك الناس، ومدح المتواضع الخامل
[2532]
عَن أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: العِزُّ إِزَارُهُ، وَالكِبرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَن يُنَازِعُنِي عَذَّبتُهُ.
رواه مسلم (2620).
ــ
يقال على صغار الطير، وهو بالخاء المعجمة، ويقال بفتح الخاء وكسرها. وحكى أبو علي القالي فيها الضم، فأمَّا الخشاش بالكسر لا غير: فهو الذي يدخل في أنف البعير من خشب، والخزامة من شعر، فأمَّا الخشاش بالفتح: فهو الماضي من الرجال. قال الجوهري: وقد يضم. وترمم: بفتح التاء والميم المشددة للعذري والسحري، وهي الصحيحة. وعند بعضهم: ترمم بضم التاء وكسر الميم الأولى. والثلاثي هو المعروف، ومعناه: يأكل، مأخوذ من المرمة، وهي: الشفة من كل ذات ظلف.
(29)
ومن باب: عذاب المتكبر والمتألي
(قوله: العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته) كذا جاء هذا اللفظ في كتاب مسلم، مفتتحا بخطاب الغيبة، ثم خرج إلى الحضور، وهذا على نحو قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا كُنتُم فِي الفُلكِ وَجَرَينَ بِهِم} فخرج من خطاب الحضور إلى الغيبة، وهي طريقة عربية معروفة. وقد جاء هذا الحديث في غير كتاب مسلم: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما قصمته ثم ألقيته في النار (1). وأصل الإزار: الثوب الذي يشد على الوسط. والرداء ما
(1) رواه أبو داود (4090).
[2533]
وعَن جُندَبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ،
ــ
يجعل على الكتفين، ولما كان هذان الثوبان يخصان اللابس بحيث لا يستغني عنهما، ولا يقبلان المشاركة، عبر الله تعالى عن العز بالإزار، وعن الكبرياء بالرداء، على جهة الاستعارة المستعملة عند العرب، كما قال:{وَلِبَاسُ التَّقوَى ذَلِكَ خَيرٌ} فاستعار للتقوى لباسا، وكما قال صلى الله عليه وسلم: من أسر سريرة ألبسه الله رداءها (1). وكما قال: البسوا قناع المخافة، وادرعوا لباس الخشية. وهم يقولون: فلان شعاره الزهد والورع، ودثاره التقوى، وهو كثير. ومقصود هذه الاستعارة الحسنة: أن العز والعظمة والكبرياء، من أوصاف الله تعالى الخاصة به، التي لا تنبغي لغيره. فمن تعاطى شيئا منها أذله الله تعالى وصغره وحقره وأهلكه، كما قد أظهر الله تعالى من سنته في المتكبرين السابقين واللاحقين.
و(قول المتألي: والله لا يغفر الله لفلان) ظاهر في أنه قطع بأن الله تعالى لا يغفر لذلك الرجل، وكأنه حكم على الله، وحجر عليه. وهذه نتيجة الجهل بأحكام الإلهية، والإدلال على الله تعالى بما اعتقد أن له عنده من الكرامة والحظ والمكانة، وكذلك المذنب من الخسة والإهانة؛ فإنَّ كان هذا المتألي مستحلا لهذه الأمور، فهو كافر، فيكون إحباط عمله لأجل الكفر، كما يحبط عمل الكفار، وأما إن لم يكن مستحلا لذلك، وإنما غلب عليه الخوف، فحكم بإنفاذ الوعيد، فليس بكافر، ولكنه (2) مرتكب كبيرة، فإنَّه قانط من رحمة الله، فيكون إحباط عمله بمعنى أن ما أوجبت له هذه الكبيرة من الإثم يربي على أجر أعماله الصالحة، فكأنه لم يبق له عمل صالح.
(1) ذكره القرطبي في تفسيره (3/ 326).
(2)
في (ز): ولأنه.
وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَن ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَلا أَغفِرَ لِفُلَانٍ؟ فَإِنِّي قَد غَفَرتُ لِفُلَانٍ، وَأَحبَطتُ عَمَلَكَ. أَو كَمَا قَالَ.
رواه مسلم (2621).
[2534]
وعن أبي هريرة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلكهم.
رواه أحمد (2/ 342)، ومسلم (2623)، وأبو داود (4983).
ــ
و(قوله: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان) استفهام على جهة الإنكار والوعيد، ويستفاد منه: تحريم الإدلال على الله تعالى، ووجوب التأدب معه في الأقوال والأحوال، وأن حق العبد أن يعامل نفسه بأحكام العبودية، ومولاه بما يجب له من أحكام الإلهية والربوبية.
و(قوله: فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك) دليل على صحَّة مذهب أهل السنة: أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، وهو موجب قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} وأن لله تعالى أن يفعل في عبيده ما يريد من المغفرة والإحباط؛ إذ هو الفعال لما يريد، القادر على ما يشاء. وقد بينا الإحباط المذكور في هذا الحديث.
و(قوله: إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلكهم) قال أبو إسحاق: لا أدري أهلكهم بالنصب أو بالرفع. أبو إسحاق هذا هو إبراهيم بن سفيان، الراوي عن مسلم، شك في ضبط هذا الحرف، وقد قيده الناس بعده بالوجهين، وكلاهما له وجه، فإذا كان بالرفع: فمعناه أن القائل لذلك القول هو أحق الناس بالهلاك، أو أشدهم هلاكا، ومحمله على ما إذا قال ذلك محقرا للناس، وزاريا عليهم، معجبا بنفسه وعمله، ومن كان كذلك فهو الأحق بالهلاك منهم، فأمَّا لو قال ذلك على جهة الشفقة على أهل عصره، وأنهم بالنسبة إلى من تقدمهم من أسلافهم
[2535]
وعنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: رُبَّ أَشعَثَ مَدفُوعٍ بِالأَبوَابِ لَو أَقسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ.
رواه مسلم (2622).
* * *
ــ
كالهالكين، فلا يتناوله هذا الذم، فإنَّها عادة جارية في أهل العلم والفضل، يعظمون أسلافهم، ويفضلونهم على من بعدهم، ويقصرون بمن خلفهم، وقد يكون هذا على جهة الوعظ والتذكير ليقتدي اللاحق بالسابق، فيجتهد المقصر، ويتدارك المفرط، كما قال الحسن رحمه الله: لقد أدركت أقواما لو أدركتموهم لقلتم: مرضى، ولو أدركوكم لقالوا: هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب.
وأما من قيده بالنصب فيكون معناه: أن الذي قال لهم ذلك مقنطا لهم: هو الذي أهلكهم بهذا القول، فإنَّ الذي يسمعه قد ييأس من رحمة الله فيهلك، وقد يغلب على القائل رأي الخوارج فيهلك الناس بالخروج عليهم، ويشق عصاهم بالقتال، وغير ذلك، كما فعلت الخوارج، فيكون قد أهلكهم حقيقة وحسا، وقيل: معناه: إن الذي قال فيهم ذلك، لا الله تعالى؛ فكأنه قال: هو الذي ظن ذلك من غير تحقيق ولا دليل من جهة الله تعالى. والله تعالى أعلم.
و(قوله: رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره) الأشعث: المتلبد الشعر غير المدهنه. والمدفوع بالأبواب، أي: عن الأبواب. فلا يترك بقربها احتقارا له، ويصح أن يكون معناه: يدفع بسد الأبواب في وجهه كلما أراد دخول باب من الأبواب، أو قضاء حاجة من الحوائج.
و(قوله: لو أقسم على الله لأبره) أي: لو وقع منه قسم على الله في شيء لأجابه الله تعالى فيما سأله؛ إكراما له، ولطفا به، وهذا كما تقدَّم من قول أنس بن النضر: لا والله لا تكسر ثنية الربيع أبدا. فأبر الله قسمه؛ بأن جعل في قلوب الطالبين للقصاص الرضا بالدية، بعد أن أبوا قبولها، وكنحو ما اتفق للبراء لما