الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(66) باب في فضائل أبي موسى الأشعري والأشعريين
[2405]
عَن أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنتُ عِندَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ نَازِلٌ
ــ
والورود في أصل اللغة الوصول إلى الماء، وإنَّما عبَّر به عن العبور لأنَّ جهنم تتراءى للكفار كأنها سراب فيحسبونه ماء، فيقال لهم: ألا تردون؟ كما صحَّ في الأحاديث المتقدمة.
وفي حديث حفصة هذا أبواب من الفقه؛ منها: جواز مراجعة العالم على جهة المباحثة، والتمسك بالعمومات فيما ليس طريقه العمل بل الاعتقاد ومقابلة عموم بعموم، والجواب بذكر المخصَّص، وتأديب الطالب عند مجاوزة حدِّ الأدب في المباحثة.
والمتقي: هو الحذر من المكروه الذي يتحرز منه بإعداد ما يتقى (1) به. ونذر: نترك. والظالم هنا: هو الكافر؛ لأنَّه وضع الإلهية والعبادة في غير موضعهما. وجثيًا: جمع جاث، وأصله: الجالس على ركبتيه، والمراد به ها هنا المكبوب على وجهه وهو المكردس المذكور في الحديث، والله تعالى أعلم.
(66)
ومن باب فضائل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه
واسمه عبد الله بن قيس بن سليم بن حَضَّار - بفتح الحاء المهملة والضاد المعجمة المشددة، ويقال حِضَار بكسر الحاء وتخفيف الضاد، من ولد الأشعر وهو نبتُ بن أدد، وقيل: من ولد الأشعر بن سبأ أخي حمير. قال أبو عمر: ذكرت طائفة أن أبا موسى قدم مكة فحالف سعيد بن العاصي، ثم أسلم بمكة، ثم هاجر إلى أرض الحبشة، ثم قدم مع أهل السفينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر. وقال أبو بكر بن عبد الله بن الجهم - وكان علامة نسَّابة: ليس كذلك،
(1) في (م 4): ما يتقيه.
بِالجِعرَانَةِ بَينَ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعرَابِيٌّ
ــ
ولكنه أسلم قديمًا بمكة ثم رجع إلى بلاد قومه، فلم يزل بها حتى قدم هو وناس من الأشعريين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافق قدومهم قدوم أهل السفينتين - جعفر وأصحابه - من أرض الحبشة، ووافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر. قال أبو عمر: وإنما ذكره ابن إسحاق فيمن هاجر إلى أرض الحبشة لأنَّه نزل أرضهم في حين إقباله مع سائر قومه، رمت الريح سفينتهم إلى الحبشة فبقوا فيها، ثم خرجوا مع جعفر وأصحابه؛ هؤلاء في سفينة وهؤلاء في سفينة، فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فقيل: إنه قسم لأهل السفينتين، وقيل: لم يقسم لهم.
ثم ولَّى عمر بن الخطاب أبا موسى البصرة إذ عزل عنها المغيرة في وقت الشهادة عليه، وذلك سنة عشرين، فافتتح أبو موسى الأهواز، ولم يزل على البصرة إلى صدر من خلافة عثمان ثم عزله عنها وولاها عبد الله بن عامر بن كرز، فنزل أبو موسى حينئذ الكوفة وسكنها، ثم لما دفع أهل الكوفة سعيد بن العاصي ولَّوا أبا موسى، وكتبوا إلى عثمان يسألونه أن يوليه فأقرَّه، فلم يزل على الكوفة حتى قتل عثمان واستخلف عليّ فعزله عنها. قال أبو عمر: فلم يزل واجدًا منها على علي، ثم كان من أبي موسى بصفين وفي التحكيم ما كان، وكان متحرفًا على عليٍّ لأنَّه عزله ولم يستعمله، وغلبه أهل اليمن في إرساله في التحكيم فلم يجر لهم، ثم انقبض أبو موسى إلى مكة ومات بها، وقيل: مات بالكوفة في داره بجانب المسجد. واختلف في وقت وفاته؛ فقيل: سنة اثنتين وأربعين، وقيل: سنة أربع وأربعين، وقيل: سنة خمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين. وكان رضي الله عنه من أحسن الناس صوتًا بالقرآن، ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود (1)، وسئل علي رضي الله عنه عن موضع أبي موسى من العلم
(1) رواه البخاري (5048)، ومسلم (793).
والمقصود بآل داود: داود نفسه، لأنه لم يثبت أن أحدًا من آله أُعْطِي من حُسْن الصوت ما أُعطي داود.
فَقَالَ: أَلَا تُنجِزُ لِي يَا مُحَمَّدُ مَا وَعَدتَنِي؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَبشِر! فَقَالَ لَهُ الأَعرَابِيُّ: أَكثَرتَ عَلَيَّ مِن أَبشِر! فَأَقبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي مُوسَى وَبِلَالٍ كَهَيئَةِ الغَضبَانِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا قَد رَدَّ البُشرَى، فَاقبَلَا أَنتُمَا! فَقَالَا: قَبِلنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَغَسَلَ يَدَيهِ وَوَجهَهُ فِيهِ وَمَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: اشرَبَا مِنهُ وَأَفرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا، وَأَبشِرَا! فَأَخَذَا القَدَحَ فَفَعَلَا مَا أَمَرَهُمَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَادَتهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ مِن وَرَاءِ السِّترِ: أَفضِلَا لِأُمِّكُمَا مِمَّا فِي إِنَائِكُمَا! فَأَفضَلَا لَهَا مِنهُ طَائِفَةً.
رواه البخاريُّ (4328)، ومسلم (2497).
ــ
فقال: صبغ في العلم صبغة.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ستمائة وستين حديثًا، أخرج له منها في الصحيحين ثمانية وستون حديثًا.
و(قول الأعرابي أكثرتَ عليَّ من أبشر! ) قول جلف جاهل بحال النبي صلى الله عليه وسلم وبقدر البشرى التي بشَّره بها النبي صلى الله عليه وسلم لو قبلها، لكنها عرضت عليه فحرمها وقضيت لغيره فقبلها. والبشرى: خبر بما يسر، وسُمِّيت بذلك لأنَّها تظهر السرور في بشرة المبشر، وأصله في الخير، وقد يقال في الشر توسُعًا كما قال الله تعالى:{فَبَشِّرهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وفيه ثلاث لغات: أبشر - رباعيًّا، فتقول: أبشرته أبشره إبشارًا، ومنه:{وَأَبشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُم تُوعَدُونَ} وبشَّر - مشددًا - يُبشِّر تبشيرًا، ومنه قوله تعالى:{فَبَشِّر عِبَادِ * الَّذِينَ يَستَمِعُونَ القَولَ} والثالثة: بَشَرتُ الرجل - ثلاثيًّا مفتوح العين - أبشره بالضم بُشرًا بالسكون وبُشُورًا، والاسم البشارة بكسر الباء وضمها.
والبشرى تقتضي مُبَشَّرًا به، فإذا ذكر تعيَّن، وإذا سكت عنه صلح أن يراد به العموم.
[2406]
وعَن أَبِي بُردَةَ، عَن أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِن حُنَينٍ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيشٍ إِلَى أَوطَاسٍ، فَلَقِيَ دُرَيدَ بنَ الصِّمَّةِ، فَقُتِلَ دُرَيدٌ وَهَزَمَ اللَّهُ أَصحَابَهُ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: وَبَعَثَنِي مَعَ أَبِي عَامِرٍ. قَالَ: فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فِي رُكبَتِهِ؛ رَمَاهُ رَجُلٌ مِن بَنِي جُشَمٍ بِسَهمٍ فَأَثبَتَهُ فِي رُكبَتِهِ، فَانتَهَيتُ إِلَيهِ فَقُلتُ: يَا عَمِّ، مَن رَمَاكَ؟ فَأَشَارَ أَبُو عَامِرٍ إِلَى أَبِي مُوسَى فَقَالَ: إِنَّ ذَاكَ قَاتِلِي، تَرَاهُ ذَاكَ الَّذِي رَمَانِي؟ قَالَ أَبُو مُوسَى: فَقَصَدتُ لَهُ
ــ
و(قول النبي صلى الله عليه وسلم أبشر) ولم يذكر له عين ما بشره به؛ لأنَّه - والله أعلم - قصد تبشيره بالخير على العموم الذي يصلح لخير الدنيا والآخرة، ولما جهل ذلك ردَّه لحرمانه وشقوته، ولما عرض ذلك على من عرف قدره بادر إليه وقبله، فنال من البشارة الخير الأكبر والحظَّ الأوفر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وكونه صلى الله عليه وسلم غسل وجهه في الماء وبصق فيه وأمره بشرب ذلك والتمسح به مبالغة في إيصال الخير والبركة لهما، إذ قد ظهرت بركته صلى الله عليه وسلم فيما لمسه أو باشره أو اتصل به منه شيء، ولما تحققت أم سلمة ذلك سألتهما أن يتركا لها فضلة من ذلك ليصيبها من تلك البشرى ومن تلك البركة حظٌّ.
وفيه ما يدل على جواز الاستشفاء بآثار النبي صلى الله عليه وسلم وبكلماته ودعواته، وعلى جواز النشرة بالماء الذي يرقى بأسماء الله تعالى وبكلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكر الخلاف في النشرة في كتاب الطب.
وأوطاس: موضع قريب من حنين.
وبعث أبي عامر إنما كان لتتبع منهزمة هوازن بحنين، ويُسمَّى خيله خيل الطلب، وأبو عامر هذا اسمه عبيد بن سليم بن حضَّار الأشعري، وكان أبو عامر هذا من كبار الصحابة، عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم لواءً يوم ولاه على هذا الجيش، وختم الله تعالى له بالشهادة وبدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمغفرة.
و(قول أبي عامر إن ذاك قاتلي، تراه ذاك الذي رماني؟ )، كذا الرواية الصحيحة تراه بالتاء باثنتين من فوقها، والكلام كله لأبي عامر، وكأن الذي رمى
فَاعتَمَدتُهُ فَلَحِقتُهُ، فَلَمَّا رَآنِي وَلَّى عَنِّي ذَاهِبًا، فَاتَّبَعتُهُ، وَجَعَلتُ أَقُولُ لَهُ: أَلَا تَستَحيِ؟ أَلَستَ عَرَبِيًّا؟ أَلَا تَثبُتُ؟ فَكَفَّ، فَالتَقَيتُ أَنَا وَهُوَ، فَاختَلَفنَا أَنَا وَهُوَ ضَربَتَينِ، فَضَرَبتُهُ بِالسَّيفِ فَقَتَلتُهُ، ثُمَّ رَجَعتُ إِلَى أَبِي عَامِرٍ فَقُلتُ: إِنَّ اللَّهَ قَد قَتَلَ صَاحِبَكَ! قَالَ: فَانزِع هَذَا السَّهمَ! فَنَزَعتُهُ فَنَزَا مِنهُ المَاءُ، فَقَالَ: يَا ابنَ أَخِي، انطَلِق إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقرِئهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُل لَهُ: يَقُولُ لَكَ استَغفِر لِي! قَالَ: وَاستَعمَلَنِي أَبُو عَامِرٍ عَلَى النَّاسِ، وَمَكَثَ يَسِيرًا ثُمَّ إِنَّهُ مَاتَ، فَلَمَّا رَجَعتُ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَلتُ عَلَيهِ وَهُوَ فِي بَيتٍ عَلَى سَرِيرٍ مُرمَلٍ عَلَيهِ فِرَاشٌ، قَد أَثَّرَ رِمَالُ السَّرِيرِ بِظَهرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَنبَيهِ، فَأَخبَرتُهُ بِخَبَرِنَا وَخَبَرِ أَبِي عَامِرٍ، وَقُلتُ لَهُ: قَالَ: قُل لَهُ يَستَغفِر
ــ
أبا عامر كان قريبًا منهما، فأشار إليه بذلك مرتين تقريبًا له، وأكد ذلك بقوله تراه، فكأنه قال: الذي تراه، ووقع في بعض النسخ ذلك بلام البعد، وفيه بعد، وقرأه بالفاء، فكأنه من قول الراوي خبرًا عن أبي موسى أنه رأى القاتل، والأول أصح.
و(قوله: فنزا منه الماء)؛ أي: خرج الماء بسرعة إثر خروج السهم، وأصل النزو: الارتفاع والوثب.
و(قوله: واستعملني عامر على الناس) فيه ما يدلّ على أن الوالي إذا عرض له أمر جاز أن يستنيب غيره.
و(قوله: فوجدته على حصير مُرمل، قد أثر رمال الحصير في ظهره) صحيح الرواية فيه مرمل بضم الميم الأولى، فسكَّن الراء، مفتوح الميم الثانية. وهو من أرملت الحصير إذا شققته ونسجته بشريط أو غيره، قال الشاعر:
إذ لا يَزال عَلَى طَرِيق لاحِبً
…
وكأن صَفحَتَه حَصِيرٌ مُرمَلُ
لِي. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ مِنهُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغفِر لِعُبَيدٍ - أَبِي عَامِرٍ - حَتَّى رَأَيتُ بَيَاضَ إِبطَيهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اجعَلهُ يَومَ القِيَامَةِ فَوقَ كَثِيرٍ مِن خَلقِكَ - أَو مِن النَّاسِ، فَقُلتُ: وَلِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاستَغفِر! فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ اغفِر لِعَبدِ اللَّهِ بنِ قَيسٍ ذَنبَهُ، وَأَدخِلهُ يَومَ القِيَامَةِ مُدخَلًا كَرِيمًا. قَالَ أَبُو بُردَةَ: إِحَدَاهُمَا لِأَبِي عَامِرٍ، وَالأُخرَى لِأَبِي مُوسَى.
رواه البخاري (2884)، ومسلم (2498).
ــ
ويقال: رملت الحصير أيضًا - ثلاثيًّا، ورمال الحصير: هو ما يؤثر منه في جنب المضطجع عليه.
و(قوله: وعليه فراش) كذا صحَّت الرواية بإثبات الفراش، وقال القابسي: الذي أعرف وما عليه فراش.
قلت: وأستبعَدَ أن يكون عليه فراش ويؤثر في ظهره، وإنَّما يستبعد ذلك إذا كان الفراش كثيفًا وثيرًا، ولم يكن فراش النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، فلا يستبعد.
و(قوله: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضَّأ منه، ثم رفع يديه)، ظاهر هذا الوضوء أنه كان للدُّعاء، إذ لم يذكر أنه صلى في ذلك الوقت بذلك الوضوء، ففيه ما يدلّ على مشروعية الوضوء للدُّعاء ولذكر الله كما تقدَّم من قوله صلى الله عليه وسلم إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة (1).
و(قوله ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه) دليل على استحباب الرفع عند الدعاء، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك يوم بدر وفي الاستسقاء، وقد رويت كراهية ذلك عن مالك، ويمكن أن يقال: إنما كره أن يُتَّخذ ذلك سُنَّة راتبة على أصله في هذا الباب أو مخافة أن يعتقد الجهَّال مكانًا لله تعالى، والذي يزيل هذا الوهم أن
(1) رواه أحمد (4/ 345)، وأبو داود (17)، والنسائي (1/ 37)، وابن ماجه (350).
[2407]
وعَن أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لَأَعرِفُ أَصوَاتَ رُفقَةِ الأَشعَرِيِّينَ بِالقُرآنِ حِينَ يَدخُلُونَ بِاللَّيلِ، وَأَعرِفُ مَنَازِلَهُم مِن أَصوَاتِهِم بِالقُرآنِ بِاللَّيلِ وَإِن كُنتُ لَم أَرَ مَنَازِلَهُم حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَارِ، وَمِنهُم حَكِيمٌ إِذَا لَقِيَ الخَيلَ - أَو قَالَ العَدُوَّ - قَالَ لَهُم: إِنَّ أَصحَابِي يَأمُرُونَكُم أَن تَنظُرُوهُم.
رواه البخاريُّ (4232)، ومسلم (2499).
ــ
يقال: لا يلزم من مدِّ الأيدي إلى السماء أن يكون مكانًا لله ولا جهة، كما لا يلزم من استقبال الكعبة أن يكون الله تعالى فيها، بل السماء قبلة الدُّعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة، والباري تعالى منزه عن الاختصاص بالأمكنة والجهات، إذ ذاك من لوازم المحدثات، ولقد أحسن من قال: لو كان الباري تعالى في شيء لكان محصورًا، ولو كان على شيء لكان محمولًا، ولو كان من شيء لكان محدثًا.
وقد حصل أبو موسى على مثل ما حصل لعمه أبي عامر من استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاده وأدخله مدخلًا كريمًا ليلحقه بمنزلة أبي عامر في الجنة لأنه قتل قاتله، والله تعالى أعلم.
و(قوله صلى الله عليه وسلم إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل)، كذا صحَّت الرواية فيه بالدال المهملة والخاء المعجمة، من الدخول، وقد رواه بعضهم يرحلون بالراء والحاء المهملة، من الرحيل. قال بعض علمائنا: وهو الصواب - يشير إلى أنهم كانوا يلازمون قراءة القرآن في حال رحيلهم وفي حالة نزولهم، وكأن الأشعريين كثير فيهم قراءة القرآن بسبب أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، فإنَّه كان من أحسن الناس صوتًا بالقرآن، فكان يقرأ لهم فتطيب لهم قراءته فيتعلموا منه القرآن، وأحبُّوه فلازموه، والله تعالى أعلم.
و(قوله: ومنهم حكيم إذا لقي الخيل أو العدو قال لهم إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم)، وحكيم بمعنى محكَّم، ويعني به هنا أنه محكم لأمور
[2408]
وعنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الأَشعَرِيِّينَ إِذَا أَرمَلُوا فِي الغَزوِ أَو قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِم بِالمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِندَهُم فِي ثَوبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقتَسَمُوهُ بَينَهُم فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُم مِنِّي وَأَنَا مِنهُم.
رواه البخاريُّ (2486)، ومسلم (2500).
* * *
ــ
الفروسية والشجاعة، ولذلك سبق قومه إلى العدو، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين ركب فرس أبي طلحة واستبرأ خبر العدو ثم رجع، فلقي أصحابه خارجين فأخبرهم بأنهم لا روع عليهم. وقد يجوز أن يكون ذلك الحكيم هو أبو موسى أو أبو عامر، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل قتله، والله تعالى أعلم.
و(قوله صلى الله عليه وسلم إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم ثم اقتسموه)، هذا الحديث يدل على أن الغالب على الأشعريين الإيثار والمواساة عند الحاجة، كما دلَّ الحديث المتقدِّم على أن الغالب عليهم القراءة والعبادة، فثبت لهم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّهم علماء عاملون كرماء مؤثرون. ثم إنه صلى الله عليه وسلم شرَّفهم بإضافتهم إليه، ثم زاد في التشريف بأن أضاف نفسه إليهم، ويمكن أن يكون معنى هم مني: فعلوا فعلي من القراءة والعبادة والكرامة، وأنا منهم: أفعل من ذلك ما يفعلون، كما قال بعض الشعراء:
وَقُلتُ أَخِي قالُوا أَخٌ وكرامةٌ
…
فَقُلتُ لَهُم إنَّ الشُّكُول أقارِبُ
نَسِيبي في رَأيي وعَزمِي ومَذهَبي
…
وإن خالفَتنا في الأمُورِ المَناسِبُ
* * *