الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(33) كتاب النبوات وفضائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
(1) باب كونه مختارا من خيار الناس في الدنيا وسيدهم يوم القيامة
[2189]
عن وَاثِلَةَ بنَ الأَسقَعِ قال: سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ اصطَفَى كِنَانَةَ مِن وَلَدِ إِسمَاعِيلَ، وَاصطَفَى قُرَيشًا مِن كِنَانَةَ، وَاصطَفَى مِن قُرَيشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصطَفَانِي مِن بَنِي هَاشِمٍ.
رواه أحمد (4/ 107)، ومسلم (2276)(1)، والترمذي (3605 و 3606).
ــ
(33)
كتاب النِّبُوَّات
[(1) ومن باب كونه مختارًا من خيار الناس](1)
قد تقدَّم الكلام في النبوة غير ما مرَّة.
و(قوله: إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل) اصطفى: اختار. وصفوة الشيء: خياره. ووزنه: افتعل. والطاء فيه بدل من التاء لقرب مخرجيهما. ومعنى
(1) ما بين حاصرتين ليس في الأصول، واستدرك من التلخيص.
[2190]
وعن أَبي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ
ــ
اختيار الله تعالى لمن شاء من خلقه: تخصيصه إياه بصفات كمال نوعه، وجعله إياه أصلًا لذلك النوع، وإكرامه له على ما سبق في علمه، ونافذ حكمه من غير وجوب عليه، ولا إجبار، بل على ما قال:{وَرَبُّكَ يَخلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَختَارُ} وقد اصطفى الله تعالى من هذا الجنس الحيواني نوع بني آدم، كما قال تعالى:{وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلنَاهُم فِي البَرِّ وَالبَحرِ وَرَزَقنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلنَاهُم عَلَى كَثِيرٍ مِمَّن خَلَقنَا تَفضِيلا} ويكفيك من ذلك كله: أن الله تعالى خلق العالم كلَّه لأجله، كما قد صرح بذلك عنه لما قال تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ جَمِيعًا مِنهُ} ثم إن الله تعالى اختار من هذا النوع الإنساني من جعله معدن نبوته، ومحل رسالته، فأولهم: آدم عليه الصلاة والسلام، ثم إن الله تعالى اختار من نطفته نطفة كريمة، فلم يزل ينقلها من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، فكان منها الأنبياء والرسل، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اصطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبرَاهِيمَ وَآلَ عِمرَانَ عَلَى العَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعضُهَا مِن بَعضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ثم إن الله تعالى اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل وإسحاق كما قال: {إِنَّا أَوحَينَا إِلَيكَ كَمَا أَوحَينَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعدِهِ وَأَوحَينَا إِلَى إِبرَاهِيمَ وَإِسمَاعِيلَ وَإِسحَاقَ} ثم إن الله تعالى اصطفى من ولد إسماعيل كنانة كما ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث. ثم إن الله تعالى ختمهم بختامهم، وأمَّهم بإمامهم، وشرَّفهم بصدر كتيبتهم، وبيت قصيدتهم، شمس ضحاها، هلال ليلتها، درِّ تقاصيِرها (1)، زبرجدها، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، أخره عن الأنبياء زمانًا، وقدمه عليهم رتبة ومكانًا. جعله الله واسطة النظام، وكمَّل بكماله أولئك الملأ الكرام، وخصَّه من بينهم بالمقام المحمود، في اليوم المشهود، فهو شفيعهم إذا استشفعوا، وقائدهم إذا وفدوا، وخطيبهم إذا
(1) جمع تِقْصارة، وهي القلادة.
يَومَ القِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَن يَنشَقُّ عَنهُ القَبرُ،
ــ
جُمِعُوا، وسيِّدهم إذا ذُكِروا، فاقتبس من الخبر عيونه، فبيده لواء الحمد، تحته آدمُ فمن دون، ويكفيك أُثرَةً وكرامة: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة. والسيد: اسم فاعل، من ساد قومه، إذا تقدَّمهم بما فيه من خصال الكمال، وبما يوليهم من الإحسان والإفضال، وأصله: سَيوِد، لأنَّ: ألف ساد منقلبة عن واو، بدليل: أن مضارعه يسود، فقلبوا الواو ياء، وأدغموها في الياء، فقالوا: سيِّد. وهذا كما فعلوا في: ميِّت. وقد تبين للعقل والعيان ما به كان محمد صلى الله عليه وسلم سيد نوع الإنسان.
وقد ثبت بصحيح الأخبار ما له من السؤدد في تلك الدار، فمنها أنه قال: أنا سيد ولد آدم. قال: وتدرون بم ذاك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد (1)، وذكر حديث الشفاعة المتقدم. ومضمونه: أن الناس كلهم إذا جمعهم موقف القيامة، وطال عليهم، وعظم كربهم طلبوا من يشفع لهم إلى الله تعالى في إراحتهم من موقفهم، فيبدءون بآدم عليه السلام، فيسألونه الشفاعة، فيقول: نفسي، نفسي، لست لها، وهكذا يقول من سُئِلها من الأنبياء، حتى ينتهي الأمر إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها، فيقوم في أرفع مقام، ويخصُّ بما لا يُحصى من المعارف والإلهام، وينادى بألطف خطاب وأعظم إكرام: يا محمد! قل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع. وهذا مقام لم ينله أحدٌ من الأنام (2)، ولا سمع بمثله لأحد من الملائكة الكرام، فنسأل الله تعالى باسمه العظيم، وبوجهه الكريم أن يحيينا على شريعته، ويميتنا على ملته، ويحشرنا في زمرته، ولا يجعلنا ممن ذيد (3) عنه، وبُعِّدَ منه.
و(قوله: أنا أوَّل من ينشق عنه القبر) يعني: أنه أول من يعجل إحياؤه
(1) رواه مسلم (194).
(2)
في (ز) و (م 3): الأنبياء.
(3)
أي: طُرِد.
وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ.
رواه مسلم (2278)(3)، وأبو داود (4763)، والترمذي (3615).
ــ
مبالغة في إكرامه، وتخصيصًا له بتعجيل جزيل إنعامه. ويعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: أنه أول من يبعث، فيجد موسى متعلِّقًا بساق العرش (1). وسيأتي هذا مبيَّنًا في باب: ذكر موسى عليه السلام إن شاء الله تعالى.
و(قوله: وأول شافع، وأول مشفع) قد تقدَّم القول في الشفاعة وأقسامها في الإيمان. ومقصود هذا الحديث أن يُبيَّن أنه لا يتقدَّمه شافع، لا من الملائكة، ولا من النبيين، ولا من المؤمنين، في جميع أقسام الشفاعات، على أن الشفاعة العامة لأهل الموقف خاصَّة لا تكون لغيره. وهذه المنزلة أعظم المراتب وأشرف المناقب، وهذه الخصائص والفضائل التي حدَّث بها النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه، إنما كان ذلك منه لأنها من جملة ما أمر بتبليغه، لما يترتب عليها من وجوب اعتقاد ذلك، وأنه حق في نفسه، وليرغب في الدخول في دينه، وليتمسك به من دخل فيه، وليعلم قدر نعمة الله عليه في أن جعله من أمَّة من هذا حاله، ولتعظم محبَّته في قلوب مُتَّبعيه، فتكثر أعمالهم، وتطيب أحوالهم، فيحشرون في زمرته، وينالون الحظَّ الأكبر من كرامته. وعلى الجملة فيحصل بذلك شرف الدنيا، وشرف الآخرة، لأنَّ شرف المتبوع متعدٍّ لشرف التابع على كل حال.
فإن قيل: كل هذا راجع للاعتقاد، وكيف يحصل القطع بذلك من أخبار الآحاد؟ فالجواب: أن من سمع شيئًا من تلك الأمور من النبي صلى الله عليه وسلم مشافهة حصل له العلم بذلك، كما حصل للصحابة السامعين منه، ومن لم يشافهه، فقد يحصل له العلم بذلك من جهة التواتر المعنوي، إذ قد كثرت بذلك الظواهر، وأخبار الآحاد حتى حصل لسامعها العلم القطعي بذلك المراد.
(1) رواه مسلم (2373)(160).
[2191]
وعنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا مِن الأَنبِيَاءِ مِن نَبِيٍّ إِلَّا قَد أُعطِيَ مِن الآيَاتِ مَا مِثلُهُ آمَنَ عَلَيهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُه وَحيًا أَوحَى اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرجُو أَن أَكُونَ أَكثَرَهُم تَابِعًا يَومَ القِيَامَةِ.
رواه البخاريُّ (4981).
* * *
ــ
و(قوله: ما من الأنبياء نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنَّما كان الذي أوتيته وحيًا) يعني: أن كل رسول أُيِّد بمعجزة تدل على صحة رسالته، فيظهر صدقه، وتثبت حجَّته، كما قد علم من أحوالهم، بما أخبرنا الله به وبينه عنهم، غير أن معجزاتهم تنقرض بانقراضهم، فلا يبقى منها بعدهم إلا الإخبار بها، وذلك قد يخفى مع توالي الأعصار.
ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم وإن كان قد أعطي من كل نوع من أنواع معجزات الأنبياء قبله، كما قد أوضحناه في كتابنا المسمَّى بـ الإعلام بصحة نبوة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، لكنه فضل على جميعهم بالمعجزة العظمى الباقية ما بقيت الدنيا، وهي: الكتاب العزيز الذي أعجزت السورة منه الجن والإنس أيَّ تعجيز، فإعجازه مشاهد بالعيان، متجدد ما تعَاقَب الجديدان، فمن ارتاب الآن في صدق قوله، قيل له: فائت بسورة من مثله، ولما كانت هذه المعجزة قاطعة الظهور، مستمرة مدى الدهور، اشترك في معرفتها المتقدِّمون والمتأخرون، واستوى في معرفة صدق محمد صلى الله عليه وسلم: السَّابقون واللاحقون، فدخل العقلاء في دينه دخولًا متتابعًا، وحقق الله تعالى له رجاءه، فكان أكثر الأنبياء تابعًا.
* * *