الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بصيرة فى التذكر والتفكر
التَّذكُر: تَفعُّل من الذِّكر. والذِكر: هيئة للنَّفْس، بها يمكن للإِنسان أَن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة. والفكرة: قوّة مُطَرِّقة للعلم إِلى المعلوم. والتفكُّر غيره؛ فإِنَّ تلك القوّة بحسب نظر العقل، وذلك للإِنسان دون الحيوان. ولا يقال إِلَاّ فيما يمكن أَن يَحصل له صورة فى القلب. ولهذا رُوِىَ "تَفَكّروا فى آلاءِ الله، ولا تفكّروا فى ذاتِ اللهِ". إِذ كان الله منزَّهاً أَن يوصَف بصورة. قال - تعالى -: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ في أَنفُسِهِمْ} ، {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض} .
ثمّ اعلم أَنَّ التذكُّر قرين الإِنابة. قال - تعالى -: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُواْ الألباب} .
والتَّذكُّر والتفكُّر مَنْزلان يُثْمران أَنواع المعارف، وحقائق الإِيمان والإِحسان. فالعارف لا يزال يَعُود تفكُّره على تذكُّره، وتذكُّره على تفكُّره، حتى يُفتح قُفْل قلبه بإِذن الفتَّاح العليم. قال الحسن البصرىّ: ما زال أَهل العلم يعودون بالتذكر على التفكُّر، وبالتَّفكُّر على التَّذكُّر، ويناطقون القلوب
حتى نطقت. قال الشيخ أَبو عبد الله الأَنصارىّ: والتَّذكُّر فوق التَّفكُّر؛ لانَّ التفكُّر طلبٌ، والتَّذكُّر وجودٌ. يعنى أَنَّ التَّفكر التماسُ الغايات من مبادئها. وقوله: التذكُّر وجود؛ لأَنه يكون فيما قد حصل بالتَّفكُّر، ثمّ غاب عنه بالنِّسيان، فإِذا تذكَّره وجده، وظفِر به. واختير له بناءُ التفعّل؛ لحصوله بعد مُهْلة وتدريج؛ كالتبصّر، والتفهُّم. فمنزلة التذكُّر من التفكُّر منزلةُ حصولِ الشئِ المطلوب بعد التفتيش عليه. ولهذا كانت آيات الله المتلوّة والمشهودةُ ذكرى؛ كما قال فى المتلوّة:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب هُدًى وذكرى لأُوْلِي الألباب} ، وقال فى القرآن:{وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} ، وقال فى الآية المشهودة:{أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ. والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} فالتَّبصرة آية البصر، والتَّذكرة آية القلب. وفرقٌ بينهما. وجُعِلا لأَهل الإِنابة؛ لأَنه إِذا أَناب إِلى الله أَبصر مواقع الآيات والعِبَر، فاستدلَّ بها على ما هى آيات له، فزال عنه الاعتراضُ بالإِنابة، والعمى بالتبصرة، والغفلةُ بالتَّذكر؛ لأَنَّ التبصّرة توجب له حصول صورة المدلول فى القلب، بعد غفلته عنها. فترتَّبت المنازل الثلاثة أَحسن ترتيب. ثمّ إِنَّ كلَاّ منها يمدّ صاحبها، ويقوّيه، ويثمره. وقال - تعالى - فى آياته المشهودة: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي البلاد هَلْ مِن
مَّحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} .
والنَّاس ثلاثة: رجل قلبه مَيّت، فذلك الَّذى لا قلب له: فهذا ليست هذه الآية تذكرة فى حقِّه. ورجل حَىّ مستَعِدّ، لكنَّه غير مستمِع للآيات المتلوّة، التى تُجزئه عن الآيات المشهودة: إِمّا لعدم ورودها، أَو لوصولها إِليه، ولكن قلبه مشغول عنها بغيره. فهو غائب القلب، ليس حاضرا. فهذا أَيضاً لا يحصل له الذكرى، مع استعداده، ووجود قلبه. والثالث رجل حَىّ القلب، مستعدّ، تليت عليه الآيات، فأَصْغَى بسمعه، وأَلقى السّمع، وأَحضر قلبه، ولم يَشغله بغيره، فهم ما يسمعه، فهو شاهد القلب، مُلْقٍ للسمع. فهذا القسم هو الَّّذى ينتفع بالآيات المتلوّة والمشهودة. فالأَوّل بمنزلة الأَعمى الَّذى لا يبصر. والثانى بمنزلة الطَّامح بصرُه إِلى غير جهة المنظور إِليه. والثالث بمنزلة المبُصر الذى فتح بصره الطامح لرؤية المقصود، وأَتبعه بصره، وقلبه، على توسُّط من البعد والقرب. فهذا هو الَّذى يراه.
فإِن قيل: فما موقع (أَو) من قوله - تعالى -: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} قيل: فيها سرّ لطيف. ولسنا نقول: إِنَّها بمعنى الواو كما يقول ظاهريّة النحاة. فاعلم أَنَّ الرّجل قد يكون له قلب وقَّاد، مُلِئَ باستخراج العِبَر، واستنباط الحِكَم. فهذا قلبه يُوقعه على التَّذكُّر، والاعتبار. فإِذا سمع الآيات كانت له نوراً على نور. وهؤلاءِ أَكملُ خَلْق الله - تعالى -، وأَعظمهم إِيماناً، وبصيرة؛ حتى كأَنَّ الَّذى أَخبرهم به الرّسولُ قد كان مشاهَداً لهم، لكن لم يشعروا بتفاصيله، وأَنواعه. حتى قيل: إِنَّ الصّدِّيق - رضى الله
عنه - كان حاله مع النبىّ صلى الله عليه وسلم كحال رجلين دخلا داراً. فرأَى أَحدهما تفاصيل ما فيها، وجزئيّاتها، والآخر وقع بصرُه على ما فى الدّار، ولم ير تفاصيله ولا جزئيّاته؛ لكنه علم أَنَّ فيها أُموراً عظيمة، لم يدرِك بصرُه تفاصيلها، ثم خرجا، فسأَله عمّا رأَى فى الدّار، فجعل كلَّما أَخبره بشئٍ صدّقه، لِمَا عنده من شواهده. وهذه أَعلى درجات الصّدّيقيّة. ولا يستبعد أَن يَمُنّ الله تعالى على عبد بمثل هذا الإِيمان؛ لأَنَّ فضل الله لا يدخل تحت حَصْر ولا حسبان. فصاحب هذا القلب إِذا سمع الآيات. وفى قلبه نور من البصيرة ازداد بها نوراً إِلى نوره. فإِن لم يكن للعبد مثلُ هذا القلب فأَلقى السّمع، وشهد قلبُه، ولم يغِبْ، حصل له التَّذكُّر أَيضاً {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} والوابل والطَّلّ فى جميع الأَعمال، وآثارها، وموجباتها. وأَهل الحبّ سابقون ومقرّبون، وأَصحاب يمين، وبينهما من درجات التفضيل ما بينهما، والله أَعلم.