الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بصيرة فى التسليم
وهو نوعان: تسليم لحُكْمِهِ الدّينىّ الأَمْرىّ، وتسليم لحُكمِهِ الكونىّ القدَرىّ.
فأَمّا الأَوّل فهو تسليم المؤمنين العارفين. قال الله تعالى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} فهذه ثلاث مراتب: التحكيم، وسعة الصّبر بانتفاءِ الحَرَج، والتسليم.
وأَمّا التسليم للحُكْم الكَونىّ فمزَلَّة أَقدام، ومضَلَّة أَفهام. حَيّر الأَنام، وأَوْقع الخِصَام. وهى مسأَلة الرّضا بالقضاءِ. وسيجئ الكلام عليه فى محلِّه، ونبيّن أَنَّ التسليم للقضاءِ يُحمد إِذا لم يُؤْمر العبد بمنازعته ودفعه ولم يقدر على ذلك؛ كالمصائب التى لا قُدْرَةَ على دفعها. وأَمّا الأَحكامُ التى أُمر بدفعها فلا يجوز له التسليم إِليها، بل العبوديّة مدافعتها بأَحكامٍ أُخْرى أَحسنَ عند الله منها.
فاعلم أَنَّ التسليم هو الخَلاص من شُبهةٍ تعارضُ الخَبَر، أَو شهوة تعارض الأَمر، أَو إِرادة تعارض الإِخلاص، أَو اعتراض يعارض القَدَر والشرع، وصاحب (هذه التخاليص) هو صاحب القلب السّليم الَّذى لا ينجو إِلَاّ مَن أَتى اللهَ به. فإِنَّ التسليم ضدّ المنازعة، والمنازعة إِمّا بشبهة فاسدة تعارض الإِيمان بالخبر عما وَصَف الله تعالى به نفسه من صفاته وأَفعاله،
وما أَخبر به عن اليوم الآخر وغير ذلك. فالتسليم له ترك منازعته بشبهات المتكلِّمين الباطلة، وإِمّا بشهوة تعارض أَمر الله. فالتَّسليم للأَمر بالتخلُّص منها، أَو إِرادة تعارِض مراد الله من عبْده، فتعارضه إِرادة تتعلق بمراد العبد من الرّب. فالتَّسليم بالتَّخلُّص منها. أَو اعتراض [ما] يُعارض حكمته فى خلقه وأَمره بأَن يظنّ أَنَّ مقتضى الحكمة خلاف ما شرع وخلاف ما قضَى وقدّر. فالتَّسليم التخلُّص من هذه المنازعات كلها.
وبهذا تبيّن أَنَّه من أَجلِّ مقامات الإِيمان، وأَعلى طُرُق الخاصّة، وأَنَّ التسليم هو محض الصّدِّيقيّة.
ثمّ إِنَّ كمال التسليم السّلامةُ من رؤية التسليم بأَن يعلم أنَّ الحقّ تعالى هو الَّّذى يسلِّم إِلى الله نفسه دونه. فالحقّ تعالى هو الَّذى سلَّمك إِليه، فهو المسلِّم وهو المسلَّم إِليه، وأَنت آلة التسليم. فمن شهد هذا المشهد ووجد ذاته مسلَّما إِلى الحقّ، وما سلَّمها إِلى الحقّ غيرُ الحقّ، فقدْ سَلِم العبدُ من دعوى التسليم؛ والله أَعلم.