الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بصيرة فى الخشية
وهى خوف يشوبه تعظيم. وأَكثر [ما يكون] ذلك عن علم بما يُخْشَى منه، ولذلك خُصّ العلماءُ بها فى قوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} وقوله {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ} اى ليستشعروا خوفاً عن معرفة. وقولُه {وَلَا تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} أَى لا تقتلوهم معتقدين لمخافة أَن يلحقهم إِملاق. وقوله: {لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ} اى لمن خاف خوفاً اقتضاه معرفته بذلك عن نفسه. وقال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُاْ الناس واخشون} .
ومدح الله تعالى أهله {إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ. والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ. والذين هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ. والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ. أولائك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} وعند الإِمام أحمد فى مسنده، وفى جامع الترمذى "عن عائشة رضى الله عنها قالت قلت: يا رسول الله، الذين يؤتون ما آتَوْا وقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ، أَهو الذى يسرق ويزنى ويشرب الخمر؟ قال: لا يا ابنة الصّدّيق، ولكنه الرّجل يصلِّى ويصوم ويتصدّق
ويخاف أَلا يُقبل منه". قال الحسن رحمه الله: عمِلوا لِلهِ بالطَّاعات واجتهدوا فيها وخافوا أَن تُرَدّ عليهم. إِنَّ المؤمن جمع إِيماناً وخشية، والمنافق جمع إِساءَة وأَمْناً. والخشية والخوف والوجَل والرّهبة أَلفاظ متقاربة غير مترادفة.
فالخوف: تَوقُّع العقوبة على مجارى الأَنفاس، قاله جنَيد. وقيل: اضطراب القلب وحركته من تذكُّره المَخُوف. وقيل: الخوف هَرَب القلب من حلول المكروه عند استشعاره.
والخشية أَخصّ من الخوف؛ فإِنَّ الخشية للعلماءِ بالله تعالى كما تقدّم. فهى خوف مقرون بمعرفة. قال النبىّ صلى الله عليه وسلم "إِنِّى أَتقاكم لله وأَشدُّكم له خشية" فالخوف حركة، والخشية انجماع وانقباض وسكون، فإِنَّ الَّذى يرى العدوّ والسّيل ونحو ذلك له حالتان: إِحداهما حركة الهرب منه، وهى حالة الخوف، والثانية سكونه وقراره فى مكان لا يصل إِليه وهى الخَشْية، ومنه الخَشُّ: الشئ [الأَخشن] والمضاعف والمعتل أَخوان؛ كتقضَّى البازى وتقضَّض.
وأَمّا الرّهبة فهى الإِمعان فى الهرب من المكروه، وهى ضدّ الرَّغبة الَّتى هى سَفَر القلب فى طلب المرغوب فيه. وبين الرّهب والهَرَب تناسب فى اللفظ
والمعنى يجمعهما الاشتقاق الأَوسط الَّذى هو عَقْد تقاليب الكلمة على معنى جامع.
وأَمّا الوَجَلُ فَرَجَفَانُ القلب وانصداعُه لذكْر مَنْ يُخَافُ سلطانُه وعقوبته أَو لرؤيته.
وأَمّا الهيبةُ فخوفٌ مقارِنٌ للتعظيم والإِجلال. وأَكثر ما يكون مع المحبة والإِجلال.
فالخوف لعامّة المؤمنين، والخشية للعلماءِ العارفين، والهيبةُ للمحبّين، والوَجَل للمقرَّبين. وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخشية، كما قال النبىّ صلى الله عليه وسلم "إِنى لأَعلمكم بالله وأَشدّكم له خشية" وقال:"لو تعلمون ما أَعلم لضحكتم قليلاً ولَبَكَيْتُم كثيراً، ولَمَا تلذَّذتم بالنِّساءِ على الفُرُش، ولخرجتم إِلى الصّعدات تجأَرون إِلى الله تعالى" فصاحب الخوف يلتجئ إِلى الهَرَب والإِمساك، وصاحب الخشية إِلى الاعتصام بالعلم، ومَثَلهما كَمَثل مَن لا علم له بالطِّب ومثل الطَّبيب الحاذق. فالأَوّل يلتجئ إِلى الحِمْية والهرب، والطَّبيب يلتجئ إِلى معرفته بالأَدْوية والأَدواءِ. وكلّ واحد إِذا خفته هَرَبت منه، إِلا الله، فإِنك إِذا خفته هربت إِليه. فالخائف هاربٌ من ربّه إِلى ربه.