الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بصيرة فى التبتل
قال تعالى: {واذكر اسم رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} .
والتبتُّل: الانقطاع. وهو تفعّل من البَتْل وهو القطع. وسمّيت مَرْيم البَتُول لانقطاعها عن الأَزواج وعن نظراءِ زمانها، ففاقت نساءَ عالَمِها شرفاً وفضلاً. {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} كالتعلُّم والتفهُّم. ولكن جاءَ على التَّفعيل مصدر بَتَّل تَبْتيلاً لسرٍّ لطيف؛ فإِنَّ فى هذا الفعل إِيذاناً بالتدريج، وفى التفعيل إِيذان بالتكثير والمبالغة، فأُتى بالفعل الدّال على أَحدهما، والمصدر الدَّالّ على الآخر، كأَنَّه قيل: بَتِّل نفسَك إِليه تَبْتِيلاً، وتبتَّل أَنت إِليه تبتُّلاً، ففهم المعنَيان من الفعل ومصدرِه. وهذا كثير فى القرآن، وهو من أَحسن الاختصار والإِيجاز. فالتَّبَتُّل: الانقطاع إِلى الله فى العبادة وإِخلاص النيّة انقطاعاً يختصّ به. وإِلى هذا المعنى أَشار تعالى {قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ} وليس هذا منافِياً لما صحّ عن النبىّ صلى الله عليه وسلم "لا رهبانيّة ولا تبتُّل فى الإِسلام" فإِنَّ التَّبتل هاهنا هو الانقطاع من النكاح، والرّغبةُ عنه محظورٌ.
والتَّبَتُّل يجمع أَمرين: اتَّصالاً وانفصالاً لا يصحّ إِلَاّ بهما، فالانفصال انقطاع قلبه عن حظوظ النَّفس المزاحِمة لمراد الربّ منه، وعن التفات قلبه
إِلى ما سوى الله خوفاً منه، أَو رغبةً فيه، أَو مبالاةً وفِكراً فيه، بحيث يشتغل قلبهُ عن الله تعالى. والاتِّصال لا يصحّ إِلَاّ بعد هذا الانفصال. وهو اتِّصال القلبِ باللهِ، وإِقبالُه عليه، وإِقامة وجهه له حُبّاً وخوفاً ورجاءً وإِنابةً وتوكلاً. وهذا إِنما يحصل بحَسْم مادة رجاء المخلوقين من قلبك، وهو الرّضا بحكم الله وقَسْمه لك، وبِحَسْم مادة الخوف وهو التسليم لله؛ فإِنَّ مَنْ سلَّم لله واستسلم له علم أَنَّ ما أَصابه لم يكن ليُخطئه فلا يبقى للمخلوقين فى قلبه موقع؛ فإِنَّ نفسه الَّتى يَخاف عليها قد سلَّمها إِلى مولاها وأَودعها عنده وجعلها تحت كَنَفه، حيث لا يناله يَدُ عادٍ ولا بغىُ باغٍ، وبحَسْم مادَّة المبالاة بالنَّاس. وهذا إِنَّما يحصل بشهود الحقيقة وهو رؤية الأَشياءِ كلّها من الله وبالله وفى قبضته وتحت قهر سلطانه، لا يتحرّك منها شئ إِلَاّ بحَوْله وقوّته، ولا ينفع ولا يضرّ إِلَاّ بإِذنه ومشيئته، فما وجه المبالاة بالخلق بعد هذا الشهود.