الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بصيرة فى الحسن
وهو عبارة عن كلّ مُبْهِج مرغوب فيه. وذلك ثلاثة أَضرب: مستحسن من جهة العقل، ومستحسن من جهة الهَوَى، ومستحسن من جهة الحِسّ. والحَسَنة يعبّر بها عن كلّ ما يَسُرّ من نعمة تنال الإِنسان فى نفسه وبدنه وأَحواله، والسيئة تضادّها، وهما من الأَلفاظ المشتركة كالحيوان الواقع على أَنواع مختلفة.
وقوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هاذه مِنْ عِندِ الله} أَى خِصْب وسعة وظفر، {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أَى جَدْب وضِيق وخَيْبَة. وقوله:{مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} أَى ثواب {وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ} أَى عذاب.
والفرق بين الحَسَنة والحسَن والحُسْنَى أَنَّ الحَسَن يقال فى الأَعيان والأَحداث، وكذلك الحَسَنة إِذا كانت وصفا. فإِذا كانت اسماً فمتعارَف فى الأَحداث، والحُسْنى لا يقال إِلا فى الأَحداث دون الأَعيان، والحَسَن أَكثر ما يقال فى تعارف العامّة فى المستحسَن بالبصر، يقال رجل حسن وحُسَان وحسّان وامْرَأَةٌ حسناءُ أَو حُسَانة وحُسّانة. وأَكثر ما جاءَ فى القرآن من الحَسَن فللمسْتَحسن من جهة البصيرة، وقوله تعالى:{الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أَى الأَبعد عن الشُّبهة. وقوله تعالى:
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} إِن قيل: حكمه تعالى حَسَن لمن يوقن ولمن لا يوقن فَلِمَ خصّ؟ قيل: القصد إِلى ظهور حسنه والاطِّلَاع عليه؛ وذلك يظهر لمن تزكَّى واطَّلع على حكمة الله تعالى، دون الجَهَلة.
والإِحسان يقال على وجهين: أَحدهما الإِنعام على الغير، وقد أَحسن إِلى فلان. والثَّانى إِحسان فى فعله. وذلك إِذا علم علماً حَسَناً، أَو عمل عملاً حَسَناً. وعلى هذا قول أَمير المؤمنين علىّ رضى الله عنه:"النَّاس أَبناءُ ما يحسنون" أَى منسوبون إِلى ما يعملونه من الأَفعال الحسنة. والإِحسان أَعمّ من الإِِنعام.
وقوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} فالإِحسان فوق العدل. وذلك أَنَّ العدل هو أَن يعطِى ما عليه ويأْخذ ما له، والإِحسان أَن يعطى أَكثر ممّا عليه ويأْخذ أَقلّ ممّا له. فالإِحسان زائد عليه. فتحرِّى العدل واجب، وتحرى الإِحسان نَدْب وتطوع، ولذلك عظم الله ثواب أَهل الإِحسان، قال تعالى:{إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} .
والإِحسان من أَفضل منازل العبوديّة؛ لأَنه لبّ الإِيمان ورُوحُه وكمالُه. وجميع المنازل منطوية فيها. قال تعالى: {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلَاّ الإحسان} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّك تَرَاهُ"
وَأَمّا الآيَة فقال ابن عباس والمفسّرون: هل جزاءُ مَنْ قال لا إِله إِلا الله وعمل بما جاءَ به محمّد صلى الله عليه وسلم إِلَاّ الجَنَّة، وقد رُوِى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أَنه قرأ {هَلْ جَزَاءُ الإِحسانِ إِلَاّ الإِحسانُ} ثمَّ قال: هل تدرون ما قال ربّكم؟ قالوا: الله ورسوله أَعلم. قال: يقول: هل جزاءُ مَن أَنعمتُ عليه بالتَّوحيد إِلَاّ الجنَّة؟!. فالحديث إِشارة إِلى كمال الحضور مع الله تعالى ومراقبته، الجامع لخشيته ومحبّته ومعرفته والإِنابة إِليه والإِخلاص له ولجمع مقامات الإِيمان.
والإِحسان يكون فى القصد بتنقيته من شوائب الحظوظ، وتقويته بعزم لا يصحبه فتور، وبتصفيته من الأَكدار الدالَّة على كَدَر قصدِهِ. ويكون الإِحسان فى الأَحوال بمراعاتها وصونها غيرة عليها أَن تحُول، فإِنَّها تمرّ مرّ السّحاب، فإِن لم يَرْع حقوقها حالت. ومراعاتها بدوام الوفاءِ، وتجنُّب الجفاءِ، وبإِكرام نُزُلها؛ فإِنَّه ضيف، والضَّيف إِن لم يكن له نُزُل ارتحل. ويراعيها بسترها عن النَّاس ما أَمكن لئلَاّ يعلموا بها إِلَاّ لحاجة أَو مصحلة راجحة، فإِن فى إظهارها بدون ذلك آفات. وإِظهار الحال عند الصادقين من حظوظ النفس والشيطان، وأَهلُ الصّدق أَكتم وأَسْتر لها من أَرباب الكنوز لأَموالهم، حتى إِنَّ منهم مَنْ يُظهر أَضدادها كأَصحاب المَلَامة. ويكون الإِحسان فى الوقت، وهو أَلَاّ يفارق حال الشُّهود، وهذا إِنَّمَا يقدر
عليها أَهل التمكُّن الَّذين قطعوا المسافات الَّتى بين النَّفس وبين القلب، والمسافات الَّتى بين القلب وبين الله تعالى، وأَن تُعلِّق همّتك بالحقّ وحده، ولا تُعَلَّق بأَحد غيره، فإِنَّ ذلك شرك فى طريق الصّادقين، وأَن تجعل هجرتك إلى الحقّ سَرْمداً. ولله على كلّ قلب هجرتان فرضاً لازماً: هجرة إِلى الله بالتَّوحيد والإِخلاص والتَّوبة والحبّ والخوف والرّجاءِ والعبوديّة، وهجرة إِلى رسوله بالتسليم له والتَّفويض والانقياد لحكمه، وتلقِّى أَحكام الظَّاهر والباطن من مِشْكَاته. ومن لم يكن لقلبه هاتَان الهجرتان فليحْثُ على رأْسه الترابَ، وليراجع الإِيمان من أَصله.