الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقعة الجمل (36ه
ـ):
كما تبين لنا من رواية الطبري عن القعقاع بن عمرو أن الفريقين أشرفا على الصلح نزولًا على رأي علي رضي الله عنه، وكان مما دل على ذلك أيضًا ما رواه الإمام الطبري أن عليًّا رضي الله عنه لما أراد الخروج إلى البصرة قام إليه ابن لرفاعة بن رافع فقال:«يا أمير المؤمنين أي شيء تريد؟ وإلى أين تذهب بنا؟ فقال علي: أما الذي نريد وننوي فالإصلاح إن قبلوا منَّا وأجابونا إليه» (3).
وروى أيضًا أن آخر قام إليه في هذا المسير فقال: «ما أنت صانع يا أمير المؤمنين إذا لقيت هؤلاء القوم؟ قال: بان لنا ولهم أن الإصلاح والكف أحوط، فإن تابعوا فذاك، وإن أبوا إلا القتال فصدع لا يلتئم، قال: فإذا ابتلينا بذلك فما حال قتلانا وقتلاهم؟ قال: من أراد الله نَفَعَهُ ذلك، وكان بمنجاة» (4).
(1) ابن كثير: البداية والنهاية (8/ 77).
(2)
الحجرات: 9
(3)
تاريخ الطبري (4/ 479).
(4)
السابق (4/ 496).
ولم يكن هذا رأي علي وحده، فقد رُوي عن ابنه الحسن رضي الله عنه أنه كان يحلف:«والله ما أردنا إلا الإصلاح» (1).
أيضًا كان هذا رأي طلحة والزبير رضي الله عنهما، وقد أشار البعض عليهما بانتهاز الفرصة من علي فقالا:«إنا وهم مسلمون، وهذا أمر لم يكن قبل اليوم فينزل فيه قرآن أو يكون فيه من رسول الله سنة، وقد زعم قوم أنه لا ينبغي تحريكه اليوم [أي أمر القصاص] وهم عليٌّ ومن معه، فقلنا نحن: لا ينبغي لنا أن نتركه اليوم ولا نؤخره. فقال علي: هذا الذي ندعوكم إليه من إقرار هؤلاء القوم شر، وهو خير من شر منه، وقد جاءت الأحكام بين المسلمين بإيثار أعمها منفعة وأحوطها» (2).
وروى الطبري أنه قيل للزبير قبل يوم الصلح: «إن الرأي أن تبعث ألف فارس إلى علي قبل أن يوافي إليه أصحابه، فقال: إنا لنعرف أمور الحرب ولكنهم أهل دعوتنا - ديننا - وهذا أمر حدث لم يكن قبل اليوم، من لم يلق الله فيه بعذر انقطع عذره يوم القيامة، وقد فارقنا وفدهم على أمر، وأنا أرجو أن يتم لنا الصلح فأبشروا واصبروا» (3).
فلا يمكن أن يفهم عاقل يقف على النصوص السابقة أن زعماء الفريقين هم الذين حركوا معركة الجمل وأوقدوا نارها، وكيف يتأتَّى ذلك وكلا الطرفين كانت كلمة الصلح قد نزلت من نفوسهم وقلوبهم منزلًا حسنا، ولكنهم قتلة عثمان أصحاب ابن سبأ - عليهم من الله ما يستحقون - هم الذين أشعلوا فتيلها وأججوا نارها حتى يفلتوا من حد القصاص (4).
روى الطبري (5): «
…
فلما نزل الناس واطمأنوا خرج علي وخرج طلحة والزبير فتواقفوا وتكلموا فيما اختلفوا فيه، فلم يجدوا أمرًا هو أمثل من الصلح ووضع الحرب حين رأوا الأمر قد أخذ في الانقشاع وأنه لا يدرك، فافترقوا عن موقفهم على ذلك ورجع
(1) السابق (4/ 483).
(2)
السابق (4/ 495).
(3)
السابق.
(4)
د. محمد أمحزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص (440).
(5)
تاريخ الطبري (4/ 505 - 6).
علي إلى عسكره وطلحة والزبير إلى عسكرهما، وأرسل طلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما وأرسل علي إلى رؤساء أصحابه ما خلا أولئك الذين حاصروا عثمان، فباتوا على الصلح وباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة باتوها قط، قد أشرفوا على الهلكة، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب في السر واستسروا بذلك خشية أن يفطن بما حاولوا من الشر».
وفي رواية (1): «تكلم ابن السوداء فقال: يا قوم إن عزَّكم في خلطة الناس فصانعوهم وإذا التقى الناس غدًا فأنشبوا القتال ولا تفرغوهم للنظر، فإذا من أنتم معه لا يجد بدًا من أن يمتنع ويشغل الله عليًا وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما تكرهون، فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون» ، «فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم جيرانهم، انسلوا إلى ذلك الأمر انسلالًا وعليهم ظلمة، فخرج مضريهم إلى مضريهم وربعيهم إلى ربعيهم ويمانيهم إلى يمانيهم فوضعوا فيهم السلاح فثار أهل البصرة وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين بهتوهم» (2).
يقول الدكتور أمحزون (4): «وجدير بالإشارة أن أثر السبئية في الجمل وإشعال نار الفتنة مما يكاد يجمع عليه المؤرخون والعلماء سواءً أطلقوا عليهم اسم الغوغاء أو المفسدين أو الأوباش أو أصحاب الأهواء أو أسماهم البعض قتلة عثمان أو أطلقوا عليهم صراحة السبئية» اهـ.
وفي أثناء تلك المعركة المؤسفة التي لم تكن برضا الطرفين من الصحابة، كان
(1) السابق (4/ 494).
(2)
السابق (4/ 506).
(3)
ابن حزم: الفِصَل (4/ 123).
(4)
د. محمد أمحزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص (444).
علي رضي الله عنه يتوجع على قتلى الفريقين ويقول: «وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة» (1).
وعن مجاهد بن جبر (ت. 104هـ) أن محمد بن أبي بكر أو محمد بن طلحة قال لعائشة يوم الجمل: «يا أم المؤمنين، ما تأمريني؟ قالت: يا بني! إن استطعت أن تكون كالخير من ابني آدم فافعل» (2).
ولما انتهت المعركة أخذ علي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما وأرسلها معززة مكرمة إلى المدينة كما قد أمره النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى أحمد بسنده عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب: «إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر. قال: أنا يا رسول الله؟ قال: نعم، قال: فأنا أشقاهم يا رسول الله، قال: لا، ولكن إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها» (3).
وكانت عائشة رضي الله عنها إذا قرأت {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (4) بكت حتى يبتل خمارها (5)، وفي رواية ابن أبي شيبة (159 - 235هـ) أنها كانت تقول:«وددت أني كنت غصنًا رطبًا ولم أسر مسيري هذا» (6).
وروى أيضًا ابن أبي شيبة عن أبي جعفر قال: «جلس علي وأصحابه يبكون طلحة والزبير» (7) اهـ.
فمن خلال هذا العرض السريع للأحداث يتبين بما لا يدع مجالًا للشك أثر ابن سبأ وأعوانه في موقعة الجمل، حيث لم يقتصر دورهم عند إثارة الفتنة الأولى التي كانت سببًا في مقتل عثمان رضي الله عنه، وإنما لعبوا دورًا خطيرًا في الفتنة الثانية التي اندلعت بسبب مقتل
(1) رواه أبو بكر ابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 720)، كتاب الجمل، باب مسيرة عائشة وعلي وطلحة والزبير، رقم: 76 وسنده جيد.
(2)
السابق (8/ 719) رقم: 67
(3)
المسند (6/ 393).
(4)
الأحزاب: 33
(5)
الذهبي: سير أعلام النبلاء (2/ 177).
(6)
ابن أبي شيبة: المصنف (8/ 718)، كتاب الجمل، باب مسيرة عائشة وعلي وطلحة والزبير، رقم: 62
(7)
السابق (8/ 709) رقم: 18